في العقد الأخير من القرن الماضي، عرف المغرب تحولا غريبا في مجال حقوق الإنسان، لما تم تأسيس المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان، و لجنة مستقلة للتعويضات لضحايا الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان. كانت تلك خطوة هامة ودليلا قاطعا على اعتراف الدولة بما اقترفته من قمع واعتقالات وما إلى ذلك. جميل جدا أن يعترف الإنسان بأخطائه، ولم لا؟ فهذا العمل يعد فضيلة وخصلة محمودة عند الخالق. استبشر الضحايا خيرا بهذا المولود الجديد عليهم، واعتبروه السيف البتار والحاسم في القطع مع ماضيهم، الذي اصطلح عليه ب«سنوات الجمر والرصاص»، وهو بالفعل كان رصاصا حيا ولكنه مميت. طيلة فترة اعتقالهم وتعذيبهم، الدولة أعطت تعليماتها لطي الصفحات السوداء من سنة 1956 إلى سنة 1989، فانطلقت اشتغالات اللجنة على دراسة الملفات المختلفة التي تقاطرت عليها من مختلف الأقاليم، كما استمعت إلى شهادات بعض الضحايا حول مختلف الأحداث التي عرفها البلد طيلة الفترة المذكورة سالفا. وقد اقتصرت هذه العملية على فئة معينة فيما أقصت جزءا مهما من القضايا، وهي جزء لا يتجزأ من تاريخ المغرب.. توريط أناس في محاولة انقلابية في العاشر من يوليوز 1971، دبرتها عناصر كان هدفها هو الاستيلاء على السلطة ومراكز القرار، الأمر الذي أدى إلى إعدام عشرة ضباط سامين بدون محاكمة، اختفاء عدد من الطلبة ضباط الصف يفوق 120 ضابطا، لا زالوا أحياء في أعين السلطات، إدانة ضباط وضباط صف وجلهم لا علم لهم بما حدث، وتمت تبرئة الطلبة براءة مزيفة لم تجدهم في شيء. بعد مرور سنة وشهر على هذه المحاولة، في السادس عشر من غشت 1972، تم الهجوم على الطائرة الملكية من طرف الجنرال محمد أوفقير، وهو الهجوم الذي كان له وقع كبير على مستقبلنا، حيث أصبحنا غير مرغوب فينا من طرف الدولة التي اعتبرت أننا أصبحنا مشروعا انقلابيا، فارتأت أن تسرحنا، وبالفعل بدأ التسريح الفردي والجماعي لاإراديا، ثم تم التشطيب علينا من صفوف الجيش. من هنا انطلقت المعاناة: التشرد والعطالة والحرمان من حقوق المواطنة، أصبحنا عالة على أسرنا، نبذنا المجتمع، وكأننا هبطنا أرض هذه البلد بمظلات.. معاناتنا لا حصر لها والدولة أدارت لنا ظهرها. أنهت اللجنة المستقلة عملها وقدمت تقريرها الختامي بطريقة: «كلشي زوين»، حيث اكتفت بذر الرماد في عيون بعض الضحايا، ورفعت يدها عن آلاف الملفات برفض الطلب، وعلى رأسها ملفنا نحن مجموعة أهرمومو، الذي عرف أكبر محاكمة في تاريخ المغرب، حيث قدمنا من أهرمومو إلى قصر الصخيرات بعدد يزيد على 1200 جندي. وفي المحاكمة التي استغرقت طيلة شهر غشت من السنة الكبيسة 1972 أصبحنا بعدد 1081 فقط، ونحن نتساءل إلى حد الساعة أين هم الباقون؟ إن كنا بالفعل في دولة تسعى إلى ترسيخ مبدأي الحق والقانون والنهوض على أساس منهما. وبعد التقرير النهائي المحتشم، أطلت علينا هيئة الإنصاف والمصالحة في حلة مستنسخة، هي الأخرى، لم تأت بجديد، ولم تختلف عن سابقتها سوى في التسمية، والأعضاء، والسمة المشتركة بينهما: الاشتغال والتعامل مع الملفات بالتسويف والتماطل، وبسرعة أقل من سرعة السلحفاة التي فازت في السباق الذي أجرته مع الأرنب. مرة أخرى، بقي الملف حبيس الرفوف بمقر تحكيمي: عدم الاختصاص، الملف بقي فزاعة لمن لا يفزع وبعبعا «كيخلع»، وتعاطف معه البعض بطريقة: «محنة الدجاجة بلا بزازل». قلنا في هذا الموضوع ما فيه الكفاية، وكم من نداء وجهناه إلى المسؤولين عن هذا الشأن، لكن آذانهم بها وقر أو ربما ألبسوا جلبابا أكبر منهم، كما سبق أن سألت أحد المسؤولين في أمرنا، فأجابني بأن الملف ثقيل عليه، وأنه تعاطف معنا لكن الله غالب. وفي سابقة أخرى، نصحني بأن نلتجئ إلى القضاء أو إلى المؤسسة المكلفة بالشؤون الاجتماعية للقوات المسلحة الملكية أو نتدبر شؤوننا بأيدينا. عجيب جدا أن أتلقى حلولا كهذه في شأن ملف عايش ملكين وعمّر طويلا، وهو الآن في أرذل العمر ولم يؤخذ مأخذ الجد والسعي إلى تسويته إن كانت هناك إرادة سياسية حقيقية للقطع مع الماضي المرير. الضحايا لا يطالبون بالمستحيل، ولا يتسولون، مطالبهم مشروعة: رد الاعتبار، جبر الضرر الفردي والجماعي، تعويض مادي عما لحقهم طيلة هذه العقود، الكشف عن مجهولي المصير أو عن المقبرة الجماعية التي تضم جثامين من لقوا حتفهم يوم الحادث، معاش لمن لا زالوا على قيد الحياة ولأرامل المتوفين إدماج أبناء الضحايا الذين طالهم العقاب لا لشيء إلا أن آباءهم ولجوا أبواب المدرسة العسكرية من أجل بناء مستقبلهم والذود عن حمى الوطن. الاستجابة لهذه المطالب لا تكلف الدولة شيئا يذكر من أجل طي صفحات الماضي والانخراط في مغرب جديد، حداثي، ديمقراطي ولو نسبيا، لأن لكل شيء إذا ما تم نقصان وأن الكمال لله سبحانه. أنهت الهيئة عملها بما سبق أن ذكرته وبنفس الأسلوب الذي نهجته سابقتها. هبت ريح الثورات والاحتجاجات مع رفع الشعارات من أجل التغيير، ومحاربة الفساد ومحاكمة المفسدين والجلادين، وما إلى ذلك من المطالب من عيش كريم وتعليم جيد وصحة جيدة... إلخ. تطايرت الشرارة بتونس وانتشرت العدوى منها إلى بلدان شمال إفريقيا، وإلى أرض الشام. أما بلدنا العزيز فقد كان حالة استثناء، حيث تعامل النظام بحكمة وذكاء مع الوضع لاحتوائه، وذلك بإعطاء أوامره السامية بطرح دستور جديد يتضمن صلاحيات، قوانين جديدة، دسترة التوصيات وما إلى ذلك من الأبواب والفصول. ومن جهة أخرى، فقد تم العصف بالمجلس الاستشاري لحقوق الإنسان وبمكوناته، وتم إنشاء مجلس وطني لحقوق الإنسان باختصاصات متعددة وقوانين جديدة، وتم تعيين كل من إدريس اليزمي كرئيس والأستاذ محمد الصبار كأمين عام لهذا المجلس. وقد طرح تعيين هذا الأخير عدة تساؤلات، فقد كان ثمة المؤيد والمنتقد لقرار تعيينه لأسباب واعتبارات لا يعلمها إلا الله والضالعون في الأمور السياسية. أما الضحايا الذين ظلت ملفاتهم في قاعة الانتظار فقد كان لهم رأي آخر، على اعتبار أن هذا الذي تقلد الأمانة العامة هو من أمضى ولايتين على رأس نقابتهم «المنتدى المغربي من أجل الحقيقة والإنصاف»، هو من عُرف بالحقوقي والمناضل المتشبث والجريء في اتخاذ القرارات والتدابير اللازمة من أجل الدفاع عن مواقفه وحقوق الإنسان عامة، هو من رفع شعار «ما مفاكينش» خلال المؤتمر الأخير للمنتدى، هو الذي ترك توصيات بشأن الضحايا لمن تسلم المشعل من يده، زميله الأستاذ مصطفى المنوزي، هذه المواصفات زرعت تفاؤلا كبيرا في نفوس الضحايا المغلوبين على أمرهم، وكانت قيمة مضافة للدفاع عن مطالبهم المشروعة. وللإشارة هنا، فإن وعودا وردت على لسان الأمين العام مفادها أن التسوية للملفات آتية لا ريب فيها، لكن الضحايا الآن تختطفهم يد المنون تباعا وأسرهم ترزح في أوضاع لا تحسد عليها، لذا يجب على من يعنيهم الأمر أن يبادروا إلى طي ما تبقى من الصفحات، فقد طال الانتظار. وفي هذا الإطار، يلوح الضحايا في القريب العاجل بتنظيم احتجاجات واعتصامات، ولم لا الإضراب عن الطعام إن اقتضى الحال، وحالنا أسوأ حال. وهذا ليس إلا غيضا من فيض.
محمد متقي الله *رئيس لجنة التنسيق الوطنية لمجموعة أهرمومو وعضو مكتب فرع البيضاء بالمنتدى المغربي من أجل الحقيقة والإنصاف