سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
الزاهي: الصراع الحالي يقوي من قدرة البيجيدي على مواجهة الأزمات السياسية دعا إلى معرفة بالإسلام تكون قادرة على إبراز قوته الانفتاحية حتى لا يتم تركه في يد السلفيين
- في البداية، كيف تقيم اليوم، المشهد السياسي في المغرب، وما يقع بين العدالة والتنمية والاستقلال تحديدا؟ يبدو أن اللخبطة السياسية التي يعيشها الإسلاميون في السلطة، خاصة في الأشهر الأخيرة، تنم من جهة عن عدم تمرسهم بالسياسة، ومن جهة ثانية عن عدم نضجهم السياسي. فتراهم يخوضون حروبا وهمية وأخرى مفتعلة للتغطية على فقرهم في التدبير السياسي، يتخذون القرارات ويتراجعون عنها. يعود ذلك، في نظري، إلى طبيعة الممارسة السياسية بالمغرب التي تنطبع بالثوابت أكثر من المتغيرات. وهو ما يفسر المشكلات الكبرى التي تواجهها الحكومة الحالية، خاصة في ظل الأزمة الاقتصادية العاصفة، والتي لن تخفف منها الزيارة التبرُّكية لرئيس الوزراء التركي، ولا الاحتذاء بالنموذج التركي، لأن هذا الأخير يقف وراءه تاريخ ونماء اقتصادي وموقع مغاير في الخريطة الجيو سياسية. أما ما يقع بين التنمية والاستقلال، فهو صراع بين حزبين أحدهما شعبوي والآخر ينحو نحو الشعبوية. ولا يخفى أن الشخصيتين تتشابهان كثيرا، مما يجعل الأمر أشبه بمسرحية سياسية يسعى من خلالها حزب الاستقلال إلى تصدر واجهة المعارضة، بعد أن أفل نجم الاتحاد الاشتراكي في السنوات الأخيرة. وهو رهان ينقل الصراع الذي دأبنا على معرفته بين المعارضة والحكومة إلى صراع داخل مكونات الحكومة. - هل يعكس هذا الصراع أحد أوجه أزمة المشتغل بالسياسة في المغرب، وكيف يمكن الارتقاء بالنقاش العام في ظل هيمنة التسطيح على هذا المشهد؟ ما يميز المرحلة السياسية الحالية هو ظهور لغة جديدة حريٌّ بنا تحليلها للوقوف على طبيعة تحولات التواصل السياسي في بلادنا، والذي يعكس في نظري طبيعة الاشتغال بالسياسة في بلدنا. إنها لغة تنبني على المخزون الشعبي اليومي وتستعمَل في المواجهة أكثر من استعمالها في التحليل. حين تتم المواجهة السياسية، تتم العودة للمجازات والصور الذهنية «ديال قاع الدرب» للتعبير عن الشجب والغضب والتنديد والاستنكار. لغة السياسيين في بلدنا لا ناظم لها ولا ذكاء فيها. من ثم، فإن أزمة السياسة تظهر هنا باعتبارها أزمة تكوين سياسي وأزمة ذكاء سياسي وأزمة لغة سياسية يمكن أن تؤسس لخطاب سياسي واع بذاته. ولو درسنا خطابات السياسيين ببلدنا لوجدناها متشابهة، نظرا لغياب تكوين سياسي في التواصل، ونظرا أيضا للبراغماتية البسيطة في الخطاب. وهو ما تسميه تسطيحا. - لو عممنا الصورة قليلا، ألا يشبه ما يقع في حقل السياسة، نظيره الثقافي؟ لسوء الحظ، أن المجال الثقافي بالمغرب لا يعرف الصراع منذ وقت طويل. وصرنا نحنُّ إلى النقاشات الثقافية العمومية التي كانت تميز السبعينيات والثمانينيات. صار الصحفي هو الذي يطرح الأسئلة الحرجة، ولو في غالب الأحيان بطراوة اليافع غير المحنك، فيما ارتكن المثقف إلى قوقعته. ما يجري حاليا بالمغرب من صراع ثقافي صار يتخذ طابعا «نقابيا» أكثر منه ثقافيا. ونحن بحاجة اليوم إلى نقاش علني للسياسة الثقافية بالمغرب، خاصة أن الرهانات صارت أكبر. ليس ثمة نقاش حول عمليات التضييق على التعبير الثقافي السينمائي والمسرحي والتشكيلي منه، بالأخص، ولا حول مهام وحصيلة مؤسسة وطنية كالمكتبة الوطنية، ولا حول مصير مؤسسة كبرى كمتحف الفنون المعاصرة. النقاش ينحصر فقط في اقتسام غنيمة الدعم المسرحي وأحيانا السينما. هذا الصمت هو ما يلزم تحليله وتحليل دواعيه وآثاره. - هل لغياب المشاريع الثقافية الكبرى دور في جر الفعل العام، سواء كان سياسيا أو ثقافيا، إلى الحضيض؟ حين نتحدث عن غياب المشاريع الكبرى، فنحن نعني غياب سياسة ثقافية واضحة بالمغرب. يبدو أن الفعل السياسي كما الفعل الثقافي يضيع في متاهة التفاصيل من غير بناء تصور شمولي يكون عبارة عن استراتيجية مرحلية. وحين تبنى هذه الاستراتيجية نظريا تمتصها التفاصيل المتناسلة. وحتى أتحدث أكثر عن المجال الثقافي، أرى أن المغرب يسير حثيثا نحو بناء دولة عصرية رغم العديد من المعضلات، في حين أن الثقافة تظل تتطور بقدراتها الذاتية وبقدرات فاعليها الأفراد بالأخص. خذ مثلا: الفنون واجهة الثقافة المغربية أكثر من الكتابة والأدب. هل ثمة أكاديمية للفنون، أو كلية للفنون؟ هل ثمة مدرسة للسينما؟ هل ثمة بينالي دولي للفنون؟ وبالمقابل: ما الذي نقوم به لتشجيع الترجمة؟ هذه هي المشاريع الكبرى. أما كليات الآداب، فقد تحولت إلى مشتل لإنتاج نقاد للأدب يتجاوز عددهم عدد الكتاب أنفسهم. الثقافة أيضا بحاجة إلى مال وتمويل. والبحث العلمي بحاجة إلى موارد مالية. وما دمنا نتعامل مع الثقافة بعقلية «الله يجيب»، فإنها ستظل مهمشة، مع أنها الغذاء الروحي طويل الأمد، الذي يشكل صمام أمان ضد الانتكاس والارتكاس والنكوصية. - حزبان محافظان يتصارعان ويشغلان مشهد الحياة اليومية للمواطن المغربي، كيف تفكك، من موقعك العلمي، شفرات هذا الصراع؟ يقول المثل: إذا رأيت رب البيت بالطبل ضاربا فلا تلم الصبيان على الرقص. لقد أتت تجربة التناوب في أواخر التسعينيات على قوة اليسار المعارض آنذاك. وكانت هذه الضربة القاضية هي إحدى أسباب ما نعيشه اليوم: حزب نبت في أحضان السلطة جاء ليأخذ مكان الحزب المعارض الآفل، فتبخرت أوهامه وتفكك قبل أن يتعضد ويكبر عوده. بالمقابل تعضد موقع الإسلاميين ومعهم الحزب المحافظ الأكثر عتادة بالمغرب. فالصراع بين المحافظ التقليدي (الاستقلال) وبين المحافظ الجديد (البيجيدي) هو صراع ما كان له أن يكون لو ظلت الرقعة السياسية موزعة بين يمين كان هشا ومع ذلك ذا تجربة سياسية، ويسار كان يملك قوة ومشروعية تاريخية. اللعبة السياسية صارت اليوم تلعب في حلبة ضيقة وفي جانب واحد. وهي إن كانت تعبيرا عن فقر الساحة السياسية المغربية فالهدف منها خلق الأزمة الحكومية للبحث عن مشروعية جديدة. بعبارة أخرى، ليس ثمة شفرات لهذا الصراع لأنه يحمل معناه في ظاهره. هل للفقاعة جوهر؟ إنه صراع فقاعات، وما يخفيه هذا الصراع ليس خلفه، وإنما ما يؤسس له مستقبلا من صراعات وما ينبئ عنه من تحول في طبيعة الصراع السياسي بالمغرب. بمعنى أن صراعا من قبيل هذا إن كان من جانب الاستقلال تسليط الضوء على قوة شكيمة الزعيم الشعبوي الجديد، فهو من ناحية أخرى يقوي من قدرة البيجيدي على مواجهة الأزمات السياسية مع حلفائه، باعتبار أن هذه الأزمة هي أزمة اختبارية. - أزمة السياسي، هي التجلي الأمثل لأزمة المثقف، هل أفرز الربيع العربي إجابات مغلوطة لأسئلة الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان من خلال صعود التيارات المحافظة إلى تدبير السلطة؟ أبان «الربيع» العربي عن قدرة الحركات الإسلامية على استغلال الإيمان الشعبي، الذي لم يستطع المثقف العربي أن يتمثله ويحلله بما يكفي، تاريخيا وفي الواقع اليومي. والأمر هنا لا يعود فقط إلى أفول دور المثقف ولا أيضا إلى ضعف الثقافة السياسية للشباب العربي، الذي قاد انتفاضات الربيع، وإنما أيضا إلى كون الإسلام الشعبي وجد في الحركات الإسلامية معبرا عن مطامحه. هذه المفارقة السياسية عاشتها أمريكا اللاتينية بشكل مغاير، إذ كان التدين فيها معاديا للدكتاتورية. وأظن أن المثقف العربي والسياسي الديمقراطي العربي لا يزال لحد اليوم لم يبلور نظرة سياسية جديدة لعلاقة العربي بالتدين. إن ركوب الإسلاميين على حركات الشباب المتمرد في العالم العربي ناجم أساسا عن ارتداد الفعل السياسي للحركات التقدمية، التي نالت منها الوضعيات السياسية القمعية وكذا عدم تجددها الفكري السياسي. ومن ضمن ذلك، تبدد مفهوم المثقف السياسي والسياسي المثقف، وظهور المثقف والسياسي البراغماتي. كما أنه ناجم عن الطابع العفوي لهذه الحركات التي لم تنتبه لدهاء الإسلاميين ولخططهم. - ما هي الصيغة أو الصيغ التي تقترحها كمثقف وباحث في مجال تخصصك، للخروج من حالة الاحتباس العام التي يعرفها الوضع السياسي والثقافي في البلاد؟ ليس ثمة من وصفة لهذا. فالأزمة الاقتصادية وإكراهات التدبير السياسي وعدم حنكة الإسلاميين في التدبير السياسي أمور قد تكون وراء حفر قبرهم قبل الأوان. وأعتقد أن تعزيز المؤسسات السياسية واستعادة حس التسيس والاهتمام السياسي لدى الشباب وإنشاء المؤسسات التكوينية الجديدة في مجالات السمعي البصري وإنشاء المتاحف وسن سياسة ثقافية واضحة وتعزيز البحث العلمي في مجال العلوم الإنسانية، كلها خطوات من شأنها أن تساهم في التخفيف مما نعيشه من انحباس. من ناحية أخرى، أعتقد أن الاهتمام بالشأن الديني أمر يلزم أن يدخل في أجندة المثقفين والمحللين السياسيين. علينا ألا نترك الديني للإحساس الشعبي وللحركات السلفية بمختلف أشكالها. يلزم أن ننتج معرفة بالإسلام تكون قادرة على إبراز قوته الانفتاحية والفكرية والاختلافية والتسامحية حتى لا يتم تركه في أيدي المختزلين والسلفيين، الذين حولوه إلى وصفات جهادية ونكوصية وانغلاقية. - أين هو في نظرك موقع الشباب الذي خرج إلى الشارع، وكان مليئا بالانتظارات والوعود، هل جرى الالتفاف على مطالبه، أم أنه سقط مرة أخرى، ضحية لوصاية الكبار ومحترفي الشارع؟ الشباب الذي خرج للشارع كان محمولا على إحساسه السياسي لا على ثقافة سياسية وتوجهات سياسية. فكان ضحية هذا الفقر، من جهة، وضحية نظام له حنكة في مجال امتصاص الغضب من جهة أخرى. وقد ظل معزولا لأن الأحزاب الديمقراطية التقليدية ظلت متوجسة منه ومن آثار حركته الاحتجاجية. - لماذا عاد المثقف العربي والمغربي تحديدا إلى الخلف في فترات التحول هذه؟ أعتقد أن انخراط المثقفين في المؤسسات منذ الثمانينيات حد من وهجهم. وقد تزامن ذلك مع خفوت المد السياسي التقدمي في العالم العربي. إن الانخراط في آليات السلطة المؤسسية خلق نموذجا آخر للمثقف مخالفا لمثقف السبعينيات المستقل. ومرور العديد من المثقفين المستقلين في السبعينيات في مناصب مؤسسية، وزارية أو إدارية أو غيرها، حوَّل هؤلاء إلى مثقفين يساهمون في بناء مغرب التحولات المؤسسية بإيقاعها وبارتباطاتها الدولية. وهو ما جعلهم أقل إنتاجا إن لم نقل غير منتجين في الحقل الفكري والسياسي. وبما أن وقائع التمرد العربي كانت فجائية ونظرا أيضا للاستباقات التي عمد إلى انتهاجها المغرب في مجال حقوق الإنسان والديمقراطية، فإن المثقف لم يكن له الوقت الكافي ليواكب هذه التحولات الآتية من الشارع، فظل يراقبها بالعين لا بالتحليل. - ألا ينضوي هذا التواري على نوع من السلبية تجاه ما يحدث، أم أن المثقف، الذي كان في الطليعة، أدرك لعبة شراك السقوط في لعبة السياسي؟ الأمر لا يتعلق بالسلبية بقدر ما يتعلق بتبدل أدوار المثقف. - كيف تتوقع مستقبل شعوب العالم العربي في ظل صعود المد المحافظ، هل سننتظر دورة ربيع جديدة، قريبا؟ إذا كان لحركات الشباب في العالم العربي من حسنة، رغم الخيبات التي أنتجتها، فهي تتعلق بتكسير جمود الأنظمة العربية ومعها جمود الوضع السياسي في العالم العربي. وصعود المدّ المحافظ هو تعبير عن واقع لم ينتبه له المدبرون للشأن السياسي العربي أو أنهم ساهموا فيه بشكل ما. وتكسير الجمود هذا ينبئ عن حركية قادرة على الإجابة على المستجدات والاستجابة لها. من ثم، إذا كانت خيبة الشباب المصري والتونسي والمغربي تعبر عن فشله في منح حراكه الصيغة السياسية المبتغاة، فإن ذلك ينتج أمرين، في مصر وتونس حسب معاينتي لذلك شخصيا: حركة نكوص للماضي وحركة استنهاض للآمال في الآن نفسه. فلا يمر أسبوع في شوارع تونس والقاهرة من غير احتجاج على خيبة الآمال في الربيع العربي. أما الحديث عن حراك جديد فهو أمر متوقع، غير أن الصيغ لن تكون هي هي، لأن الشباب صار أكثر وعيا وأكثر حنكة. كما أن خيبة الأمل هدّت أجاج العديد من بينهم وجعلتهم يتخلون عن مسير المقاومة. والحقيقة أن ما نشهده اليوم هو قريب من المقاومة واستمرار المسير. وهو ما يجعل هذه الاستمرارية مفتوحة على كل الاحتمالات، خاصة أن الإسلاميين بدِؤِوا يكتسبون أيضا حنكة في التدبير السياسي وفي مواجهة المشكلات التي كانوا سببا في خلقها.