نحن الآن في ثاني مارس 1937، في حي أشقفان في مدينة وجدة. كان هذا الحي يسمى، أيضا، «حي أهل وجدة»، و كان مليئا بالجزائريين والوجديين الأقحاح.. هذا الصباح لم يكن عاديا في منزل «بنتفليقة»، بائع الخضر، المهاجر من مدينة تلمسان. في هذا البيت «الفقير»، الكائن في أحد الدروب الضيقة وفي ممرّ معتم، تفوح منه عطانة الجُدران والمياه الجارية، وفي زاوية مُهمّشة تدعى اليوم «زنقة محمد الرّيفي»، في المدينة القديمة لوجدة، فتح «عبد العزيز بوتفليقة» عينيه وأطلق أولى صرخاته كمولود ذكَر في عائلة كانتِ «المجاعة» قد طردتها، قبل سنوات، من الجزائر.. وجد عبد العزيز والده ملقبا ب«بن لزعر عبد القادر» ويُدعى «بنتفليقة»، فحمل اسمه، واضطرّ إلى تقاسُم البيت مع تسعة إخوة.. أربعة منهم غير أشقاء، من الزوجة الأولى (راضية بلقايد) وخمسة من والدته منصورية غزلاوي، وهم: عبد الرحيم، لطيفة، عبد الغني، مصطفى، والسعيد، المرشح الأقوى لخلافة أخيه عبد العزيز في قصر المرادية في الجزائر، قبل أن يُقيله (مؤخرا) بطريقة غامضة بسبب تُهم مُتعلّقة بالفساد.. انتقلت عائلة «بنتفليقة» بعد ذلك إلى منزل آخر في زاوية «زنقة مدرومة» (الأصل فيها ندرومة وهي مدينة جزائرية في ولاية تلمسان).. وقبل فترة وجيزة، كان البيت مُحتلاً من طرف إحدى الأسر المغربية، غير أنّ القنصية الجزائرية تدخّلت، قبل شهور، لإفراغها من البيت وترميمه بهدف تحويله إلى متحف حزائري.. في هذا الحي سيتردّد الطفل عبد العزيز على فقيه يدعى الورسوسي، وكان فقيها يتلقى مبلغا يسيرا من المال أو صحناً من الكسكس لكي يُعلّم الأطفال القرآن أو ليقرأ بعض السّور على قبر فقيد.. على يديه سيحفظ عبد العزيز بعضَ السور القصيرة والقواعد الأولى للإسلام. في هذا الحي، كذلك، سيتعرّف على أصدقاء مغاربة وجزائريين، ويربط علاقات مع الثوار الجزائريين، ويقع في «الحبّ» لأول مرة، ويحاول الانتماء إلى حزب الاستقلال والعمل في وزارة الداخلية المغربية.. وهلم أسرارً كانت مُتداوَلة في دائرة ضيّقة جدا، قبل أن يكشفها أقرب أصدقائه إلى «المساء»..
«صديق» العمود الكهربائيّ كان الطفل عبد العزيز في السّابعة من عمره عندما التحق بمدرسة سيدي زيان (ليكول الجديد آنذاك). كانت مدرسة سيدي زيان أول مؤسّسة تعليمية عصرية في المغرب. تم إحداثها من طرف المُستعمر الفرنسي سنة 1907، أي قبل الحماية بخمس سنوات، بحكم أن الفرنسيين دخلوا مدينة وجدة في هذه السنة عن طريق الجزائر، التي كانت آنذاك «أراضي فرنسا ما وراء البحار».. هنا حصل بوتفليقة على شهادة الدروس الابتدائية في سنة 1948. كان في طفولته الأولية ميّالا إلى «العزلة والانطواء»، كما يشهد بذلك صديق طفولته محمد العربي (82 سنة) مضيفا: «كان عبد العزيز في سنّ المراهقة وكنت أكبره بحوالي 6 سنوات... وفي كل يوم وأنا ذاهب إلى المدرسة ألتقيه، بين الحين والحين، حتى وقع التّعارف بيننا، رغم كونه شخصا انطوائيا».. ويسترسل العربي مُستحثا ذاكرته للوصول إلى أقدَم صورة يحتفظ بها عن الطفل عبد العزيز: «لم يكن يُشاركنا اللعب الطفولي آنذاك. كان «صديقه» الوحيد هو عمود كهربائيّ قريب من جامع مدرومة، فقد كان دائما يتكئ عليه»، وفي بعض الأحيان يجلس مع والدته، التي كانت تشتغل في حمّام شعبي يدعى «بوسيف». أحد أصدقائه الأشد قربا منه، يدعى محمد بن «ض» رفض في البداية أيَّ حديث عن بوتفليقة، بدعوى أنه «شخص لا يستحقّ حتى الذكر، لأنه ناكر للجميل!».. يقول، بعد جهد جهيد لإقناعه بالكلام: «في صغره كان ذكيا ومُهذبا، وكان يقضي معظم وقته مع ثلاثة أو أربعة من أصدقائه الذين لازموه صبيا ومراهقا واحتفظوا بعلاقاتهم معه إلى زمن قريب».. مُرْدفا، ومرارة الجحود والنكران تمزّق كلماته وتمنعه من الاسترسال في الكلام: «الحياة تُغيّر الإنسان، فقد لعبنا وركضنا وتشاجرْنا معاً، وتشاركنا في كل شيء.. تحتفظ ضيعتُنا «جْنان بْنضيافْ» -غيرَ بعيد عن منزل الأسرة، بالقرب من سوق مليلية، عند بداية شارع علال الفاسي في وجدة- بذكريات تلك الأيام الجميلة.. كم أكل بوتفليقة من الخبز والبيض في هذه الضيعة، قبل أن يتنكَّرَ لي ذات زيارة إلى الجزائر!»... وإذا كان أكثر أصدقاء طفولته، وهم قليلون اليوم بحكم تقدمهم في السّنّ (أكثر من 76 سنة) يُجمعون على أنّ عبد العزيز كان انطوائيا في سنواته الأولى قبل أن يلتحق ب«التكميلي Le complémentaire» (لاحقا إعدادية عبد المومن) فإن قويدر آمال، المزداد في 1937، وهي السنة التي وُلد فيها عبد العزيز بوتفليقة، يقول: «السي محمد العربي صديقه ويعرفه كما أعرفه، لكنّ عبد العزيز كان «حْدودي» وماكرا أكثر منه انطوائيا». يحكي قويدر أنّ «بوتفليقة لم يظهر إلا بعد حصوله على «الشهادة»، وأنا لا أزال أتذكّر أحد أيام 1954، ونحن واقفون تحت شجرة للزيتون أمام إعدادية عبد المومن وكان الزلزال قد ضرب منطقة «الأصنام» في الجزائر.. كنا مُتحلّقين حوله وبدأ يتلو علينا «سورة الزلزلة»: «إذَا زُلْزِلَتِ الأرْضُ زِلَزَالَهَا وَأَخْرَجَتِ الأرْضُ أَثْقَالَهَا وَقَالَ الإنْسَانُ مَا لَهَا».. وكان يقصد بذلك إثارة إعجاب الأصدقاء بوعيه ولحفظة القرآن». ويستدرك قويدر: «كان ذكيا، رزينا ولطيفا، ولكنْ في الوقت نفسِه ماكرا، وسأذكر لك أين يكمن مكره وخداعه لاحقا». يسكت قويدر لثوانٍ بدت طويلة جدا. يستكمل فصول ذكرى مُوغلة، قبل أن يقول: «أنا كمن يجمع الماء بيده.. فكلما قلت أمسكته أتطلع إلى يدي فأجدها خاوية»، مضيفا: «تخونني الذاكرة بسبب المرض.. لمّا كنت أعمل في إذاعة وجدة كنت أقدّم البرامج بدون ما حاجة إلى الورقة.. كنت فصيحا، لكنّ المرض الأخير أفقدَني الذاكرة». يتوقف مرة أخرى ليصيح، بصوت خافت وابتسامة رقيقة تعلو مُحيّاه: «بْالحْق.. هاذي معلومة زْوينة تذكّرتْها: كان يُحب كرة القدم، وكان «كْوايْري بمعنى الكلمة».. كان يدافع بشراسة. أنت تعرف الجزائريين يلعبون بقلوبهم، نحن المغاربة لدينا التقنيات والدّريبلاجْ، لكنْ القلبْ والو، هاذي هي الحقيقة».. بقينا مع قويدر آمال أكثرَ من ساعتين «نستفزّ» ذاكرته بالأسئلة. كان يتوقف كثيرا مُردّدا: «ما فرّحتونيشْ.. كنت أريد أن أعطيَّ كل شيء على ذاك الولد». يتوه بين الذكريات فيلتقط، مرة أخرى، إحداها، ويحكيها وابتسامة وقورة لا تفارقه: «قبل قليل، قلتُ لك إنه كان ممتازا في كرة القدم، والآن تذكّرت أنه كان كذلك بارعا في التمثيل، وأدّى دورا رائعا في مسرحية «عبد يُحرّر حُراً».. كان ذلك في الاعدادية التكميلية بمناسبة الاحتفال المدرسيّ لسنة 1952». رئيس بدون باكالوريا.. «درس التأهيلي في ثانوية عمر بن عبد العزيز، وغادر في السنة الأولى باكالوريا -شعبة الفلسفة. وبعد ذلك التحق بالثورة الجزائرية، وكانَ كثير الغياب. كانت لغتاه الفرنسية والعربية جيدتَين، ما عدا ذلك كانت نتائجه جد متوسطة أو ضعيفة، وكثيرَ التغيب في المواد العلمية والتطبيقية». يقول عبد القادر الرّكاد - 67 سنة - مفتش تربوي، اطّلع قبل مدة على نتائج بوتفليقة، وكان جمع أرشيفا لأكثر الشخصيات التي درست في مدرستي «سيدي زيان» و»عمر بن عبد العزيز» (انظر المؤطر). يرفض الرّكاد أن يمدّنا ببيان نقط بوتفليقة، لأسباب أمنية، قائلا: «جاوْ عْندي البوليسْ.. فطلبوا مني أن أخفيّ عن الصّحافة أيّ معلومات مكتوبة وإلا كنت موضوعَ مُتابَعة قضائية».. لم نتوقف عند هذه الإحباطات.. فبعد أن نجحنا في ضمان استقبالنا، حاولْنا إقناع كل من تحدّثنا إليه خلال إعداد هذا التحقيق بأهمية ذكر اسمه حتى تكون شهادته أكثرَ مصداقية وتوثيقا لعمل الصّحافي.. لجأنا إلى أحد مدراء ثانوية عبد العزيز، فقبِلَ -بَعد شدّ وجذب- أن يُطلعنا على «بيان النقط»، ولاحقاً، أقنعناه بضرورة نسخها، مع تعهّد بحمايته كمصدر. «كان بوتفليقة كايْقرا مْع جنادر»، يقول قويدر آمال، مؤكدا أنّ «قسمه كان مليئا بالمغاربة المُجتهدين، من بينهم عمر بن جلون، شهيد الصّحافة الاتحادية، وموسى السّعدي، وزير الطاقة والمعادن الأسبق، وشخصيات جزائرية بارزة».. ورغم ذلك فقد كانت نتائجه جد متوسطة وضعيفة في الموادّ العلمية، وكانت ملاحظات الأساتذة في بيان النقط تشير إلى أنه «كثير التغيب» (souvent absent) وأحيانا: «نتائج ناقصة، لكنْ قابلة للتحسّن».. في هذه السنة سيبدأ بوتفليقة الاستعداد للالتحاق بالثورة الجزائرية، يقول قويدر آمال: «ربما أحسّ بأنّ الدنيا لا تأتي مُقبلة على الشخص بالدراسة فقط.. إيلا ما جاتشْ بْالدّراسة تجي إذن بالثورة».. أما محمد العربي فيذهب أبعدَ من ذلك، إلى التشكيك في «وطنية والده وارتباطاته بالاستعمار الفرنسي».. يقول: «كان والده عضوا بارزا في «ودادية الجزائريينبوجدة»، فهم كانوا يتمتعون بامتيازات فرنسية، عكسَ المغاربة، وكانت الودادية قريبة من الاستعمار الفرنسي»، مضيفا، كما لو أنه تخلص من شيء ما وقرّر، أخيرا، النطق بالحقيقة: «كان «بوسيف»، وهو عميل للإدارة الفرنسية، صديقَ بوتفليقة -الأب، وكانا معا في «ودادية الجزائريين في وجدة»، التي كانت قريبة من فرنسا، والدّليل على ذلك هو اغتيال بوسيف من طرف المقاومة الجزائرية بسبب الخيانة والتعامل مع المُستعمِر.. وإذا كان عبد العزيز قد انضمّ إلى المقاومة الجزائرية فبغرض إبعاد الضغوط عن أبيه، الذي لم يستطع إخفاء ارتباطاته بالمُستعمِر». من جهة أخرى، يقول الرّكاد «بوتفليقة قائد دولة بدون باكالوريا.. كان في السنة الأولى للباكالويا ولم يفلح في الحفاظ على جديته واجتهاده. وشخصيا، أعتقد أنّ ارتباطه بالثورة، في أواخر السنة الأولى للباكالوريا، أدى إلى انخفاض مُعدَّلاته». بوتفليقة «المخزنيّ» يقول محمد العربي إنّ الجزائريين بعد أن استقلّ المغرب عن الحماية الفرنسية، في 1956، أصبحوا يكرهون المغاربة، لأنّ معظم زملائهم في الدراسة التحقوا بالوزارات المغربية الحديثة، فيما سُحبت من الجزائريين الامتيازات الكبيرة التي كانوا يتمتعون بها خلال الحماية، مضيفا: «كانت الجزائر مُحافَظة فرنسية والجزائريون مواطنين فرنسيِّين، ولو من الدّرجة الثانية». يضيف مُحدّثنا أنه ليس متأكدا مما إنْ كان عبد العزيز بوتفليقة قد سعى يوما إلى الالتحاق بوزارة الداخلية المغربية بُعَيد الاستقلال، لكنّ عبد القادر الركاد شدّد مرارا على أنّ لديه معلومات صحيحة تفيد أنه لمّا كان بوتفليقة في السنة الأولى من الباكالوريا -سنة 1956- قدّمَ طلبا إلى وزارة الداخلية المغربية للعمل كإطار داخل الوزارة.. غير أنّ طلبه رُفِض بسبب أصوله الجزائرية (يتحدّر والده من تلمسان) رغم أنه ازداد في وجدة وعاش فيها طيلة فترة طفولته وشبابه.. مردفا بحزم: «كان معه حينما قدّمَ طلبه عبد الحق العشعاشي»، وهو من سيصبح، بعد 1964، شهيرا كضابط، ثم عميل في جهاز «الكاب 1»، المتهم في قضية اختطاف المهدي بن بركة.. وقد أصدر القاضي الفرنسي لوي زولينجر مذكرة اعتقال في حقه في أواسط تسعينيات القرن الماضي.. وكانت عائلة العشعاشي من البرجوازية المحلية لمدينة وجدة، وعلى علاقة وطيدة بأكبر العائلات الجزائرية. وإذا كان بوتفليقة بعد استقلال المغرب قد سعى إلى الدخول في منظومة ما يُسميه اليوم «المخزن»، فإنّ هناك شهادات أخرى استقيناها في هذا التحقيق ممّن عاشروه أو عرفوه في وجدة يؤكدون أنه انتمى إلى حزب الاستقلال لفترة وجيزة جدا، عبر ذراعها الطلابي.. يقول الركاد، الذي عرف بوتفليقة صغيرا: «كان عبد العزيز يكبُرني ببضع سنوات، ولا أزال أتذكره جيدا وأتذكّر عمه «بوتفليقة مولْ الحْليبْ».. كان والدي في رمضان يقول لي: «روح جيبْ لي اللبنْ عند بوتفليقة»، مضيفا: «معلوماتي صحيحة، وبوتفليقة انتمى إلى حزب الاستقلال، ويمكنكم أن تتأكدوا من ذلك». محمد العربي هو أحد الوجوه الاستقلالية المعروفة في وجدة خلال الحماية الفرنسية، وقد أصبح بعد الاستقلال أولَ رئيس مجلس بلدي للمدينة الحدودية، يقول ل«المساء»: «لا أعتقد أنه انتمى إلى التنظيم الحزبي».. ويتدخل قويدر آمال لتسجيل شهادته، مؤكدا أنّ «الحقيقة هي أنه انتمى، فعلا، في البداية إلى الشبيبة المدرسية، التي كانت تسمى قبل ذلك «الشبيبة الاستقلالية»، ويمكنك بعد ذلك أن تفهم ما تريد».. ولم يكن عبد العزيز بوتفليقة الرئيسَ الجزائريّ الوحيدَ الذي سعى إلى الحصول على الجنسية المغربية والعمل في الأجهزة الادارية للدولة الناشئة بعد الاستقلال، بل كان هناك رئيس آخر هو محمد بوخرّوبة، الذي سيُعرَف لاحقا باسم «الهواري بومدين» (هو اسم حربيّ، كما كان بوتفليقة يُدعى «عبد القادر المالي»، لأنه التحق بالثوار في الحدود الجزائرية المالية).. يحمل بومدين بطاقة التعريف ورخصة السياقة المغربيتين. يقول الركاد: «كانت بطاقة التعريف الوطنية لبومدين تدور في هذه المقاهي التي ترى أمامك، وكنا نسميها «النكوة».. كان بعض الإخوان حينما تنفذ أموالهم كايقمّرُو بلاكارط والبّيرمي ديال بومْدين.. ويمكن أن تجد رخصة سياقته عند شخص يدعى بْلمزيان».. يتوقف ليضعنا في السّياق: «قبل الثورة اقترض بومدين بعض المال من بلمزيان، وأخذ منه هذا الأخير رخصة السّياقة والبطاقة الوطنية كضمانة.. ولم يُسدّد المال الذي كان في ذمته حتى وهو رئيس».. مضيفا وهو يجاهد نفسه لكبح الضّحك: «كم كنا نتندّر من قصة بطاقة «بوخرّوبة»، حينما أصبح رئيسا للجمهورية الجزائرية باسم هواري بُومْدين!».. خدع عشيقته فأبكاها وسخط عليه الفقيه وتبرّأ منه أصدقاؤه.. يتداول أصدقاء عبد العزيز بوتفليقة -الشابّ قصة جرت له مع عشيقته، المُمرّضة في مستشفى الفارابي، وكان يسمى «موريس لوستو»، والطريقة التي خدعها بها، قبل التحاقه بالثورة ومغادرته وجدة بصفة نهائية.. يقول صديقه محمد العربي: «كان يحبها ومرتبطا بها ارتباطا شديدا قبل أن يتركها بطريقة مؤسفة». ويؤكد قودير آمال أنه يعرف صديقة بوتفليقة هذه، قائلا: «كانت شابة جميلة جدا وتعمل ممرّضة في مستشفى الفارابي». مُردفا: «في اليوم الذي غادر بوتفليقة وجدة دخل محتالا إلى غرفتها وسرق كل صوره ورسائله وكلَّ الوثائق والذكريات التي كانت تجمعهما.. كانت لديه نية مُبيَّتة للهرب. تركها نصبا تذكاريا تُذكّر بضحايا نار الحبّ».. مسترسلا في الحكي بشكل متقطع: «خرجت المسكينة إلى الحيّ وبدأت تبكي وتسأل عن مكانه.. كانت المسكينة تنزف دمعا بسبب الخيانة والخداع... كان عاشقا مُزيَّفا.. لقد تعاطف معها الناس كثيرا». ويؤكد العديد ممن تحدّثت إليهم «المساء» خلال هذا التحقيق، أنّ والدة بوتفليقة أوصته بدفنها بجوار زوجها في مقبرة «سيدي المختار» في وجدة، لكنه ولأسباب سياسية لم يُلبّ رغبتها بعد وفاتها سنة 2009.. ويذهب الكثير من المُتتبّعين إلى أنّ عبد العزيز بوتفليقة نزل عند ضغط الجنرالات، الذين يتجنّبون تسليط الضّوء على أصول بوتفليقة المغربية.. يقول صديقه محمد بن «ض». «لم يعد عبد العزيز، ومنذ أن أصبح رئيسا، «يرضى» بأصوله المغربية، فهو في الوثائق الرسمية مزداد في مدينة تلمسان!».. يتحدّث قويدر آمال، وهو الأشدّ التصاقا بالطفل والمراهق عبد العزيز، عما سماه «نكران الجميل» لدى بوتفليقة، قائلا: «هو ناكرٌ للجميل، ليس فقط مع أصدقائه، ولكنْ حتى الفقيه الذي علّمه القرآن تبرّأ منه»، مضيفا: «بعد استقلال الجزائر تولى بوتفليقة مناصب مهمّة، وذهب عنده الفقيه الوارسوسي وكان ينتظر استقبالا حارّا، ليتفاجأ برفض استقباله».. وهي تقريبا القصة نفسُها التي يحكيها محمد بن «ض». ل»المساء»، يقول: «تشاركنا كلَّ شيء، وكان يتردّد علينا دائما ونُكرم وفادته، ولمّا مرضتْ والدتي وقصدت الجزائر، معتقدا أنّ لي صديقا عزيزا هناك صُدِمت، لأنّ الرجل أصبح شخصا آخر غيرَ الذي أعرف. لقد رفض رؤيتنا أو حتى مساعدتنا.. بصراحة، لست فخورا بتلك الصّداقة». «نعم.. شتمته» بعد استقلال الجزائر سنة 1963 تقلب بوتفليقة في العديد من الوظائف وتولى، في سن الخامسة والعشرين، حقيبة وزارة الشباب والسّياحة، ثم وزارة الخارجية، ثم صار عضوا لمجلس الثورة على عهد الرئيس بومْدين، وعضوا في اللجنة المركزية لجبهة التحرير الوطني، ورئيسا للدورة ال29 للجميعة العامة للأمم المتحدة.. وبوفاة صديقه بومدين اضطرّ إلى مغادرة الجزائر إلى المنفى في الإمارات لمدة ست سنوات. بعد رجوعه إلى الجزائر -في نهاية الثمانينيات- قرّر أن يزور عائلته في وجدة. وفي هذه الأثناء، لا يزال بعض أفراد عائلته يقطنون في المدينة الحدودية. أما أخته الوحيدة، المتزوجة في المدينة المغربية، فقد توفيت وهي في ذمة المغربي أحمد الوجيدي، الذي كان أستاذا لمادة اللغة العربية في وجدة (رفض الحديث إلى «المساء» بدعوى أنّ علاقاته بعائلة بوتفليقة توقفت منذ وفاة «المرحومة زوجته»، وألححنا عليه لمدة أسبوع كامل، لكنه رفض الحديث).. ولم يستطيع عبد العزيز بوتفليقة الحضور إلى مراسيم العزاء. وفي التسعينيات، حلّ بمسقط رأسه لأول مرة بعد مغادرته وجدة في 1962، ووجد أمورا كثيرة قد تبدّلت.. يقول حسن المرزوقي (57 سنة): «أنا من أبناء الحي الذي كان يقطنه بوتفليقة.. كان حيا مختلطا، حتى إننا لا نعرف المواطن المغربي من الجزائريّ، فجميع العائلات «وجدية» بالنسبة إلينا.. وكم كنا نتفاجأ ونحن صغار بأنّ بعض زملائنا يطلبون منهم في المدرسة عقودَ ازدياد جزائرية.. آنذاك فقط، نعرف أنّ فلانا جزائري وليس مغربيا». يحكي المرزوقي عن الحادث الذي وقع له مع بوتفليقة خلال زيارة الأخير لوجدة، قائلا: «حينما عُدتُ من فرنسا سنة 1992، كنتُ في الطائرة أقرأ موضوعا حول «جبهة التحرير الوطني الجزائرية» في مجلة «جون أفريكْ»، وفي المقال يستعرض الكاتب أجواء المؤتمر، التي عرفت تهجّماً غيرَ مسبوق على المغرب من طرف عبد العزيز بوتفليقة.. بعد مرور يومين، كنت جالسا في مقهى فرنسا -وسط مدينة وجدة- مع بلقاسم بنشعو، رئيس الملودية الوجدية سابقا (الغريب أن أخاه الشقيق كان «كولونيل» في الجيش الجزائري). حينما رآه بوتفليقة جاء للسّلام عليه مرفوقا بعميد الأمن الاقليمي.. رفضت أن أمدّ له يدي لأصافحه وأسمعتُه كلاما نابيا، وكرّرت عليه: «سيرْ... لعنة الله عليك! المغاربة وْكّلوك وشْرّبوك وما تبغيهومْشْ».. ثم تدخل عميد الأمن قائلا: ما هذا الأسلوب؟»، وخاطبته مرة أخرى: «نتوما اللّي ضسّرتو عْلينا هاذو.. هاذو ما يْبغيوناشْ». ويضيف المرزوقي بغضب: «لم أندم على تلك الكلمات، لأنّ بوتفليقة إنسان جاحد، وخيرُ دليل على ذلك المهرجان الخطابي الذي نظمه في الحملة الانتخابية الأخيرة ونقله التلفزيون الجزائريّ، وأطلق فيه كلاما أعتبره إهانة في حقّ المغاربة، عندما ردّد: «حْنا، واشْ راحنا نجيبو مْن عندهم قشّ بختة وفناجْلْ مْريمْ!».. وكان يقصد أنّ الجزائر تصدّر للمغرب مواد بترولية وأدوية وأشياء ثمينة ولا تستورد غيرَ أثواب بالية ورخيصة»..
نحن الآن في ثاني مارس 1937، في حي أشقفان في مدينة وجدة. كان هذا الحي يسمى، أيضا، «حي أهل وجدة»، وكان مليئا بالجزائريين والوجديين الأقحاح.. هذا الصباح لم يكن عاديا في منزل «بنتفليقة»، بائع الخضر، المهاجر من مدينة تلمسان. في هذا البيت «الفقير»، الكائن في أحد الدروب الضيقة وفي ممرّ معتم، تفوح منه عطانة الجُدران والمياه الجارية، وفي زاوية مُهمّشة تدعى اليوم «زنقة محمد الرّيفي»، في المدينة القديمة لوجدة، فتح «عبد العزيز بوتفليقة» عينيه وأطلق أولى صرخاته كمولود ذكَر في عائلة كانتِ «المجاعة» قد طردتها، قبل سنوات، من الجزائر.. وجد عبد العزيز والده ملقبا ب«بن لزعر عبد القادر» ويُدعى «بنتفليقة»، فحمل اسمه، واضطرّ إلى تقاسُم البيت مع تسعة إخوة.. أربعة منهم غير أشقاء، من الزوجة الأولى (راضية بلقايد) وخمسة من والدته منصورية غزلاوي، وهم: عبد الرحيم، لطيفة، عبد الغني، مصطفى، والسعيد، المرشح الأقوى لخلافة أخيه عبد العزيز في قصر المرادية في الجزائر، قبل أن يُقيله (مؤخرا) بطريقة غامضة بسبب تُهم مُتعلّقة بالفساد.. انتقلت عائلة «بنتفليقة» بعد ذلك إلى منزل آخر في زاوية «زنقة مدرومة» (الأصل فيها ندرومة وهي مدينة جزائرية في ولاية تلمسان).. وقبل فترة وجيزة، كان البيت مُحتلاً من طرف إحدى الأسر المغربية، غير أنّ القنصية الجزائرية تدخّلت، قبل شهور، لإفراغها من البيت وترميمه بهدف تحويله إلى متحف حزائري.. في هذا الحي سيتردّد الطفل عبد العزيز على فقيه يدعى الورسوسي، وكان فقيها يتلقى مبلغا يسيرا من المال أو صحناً من الكسكس لكي يُعلّم الأطفال القرآن أو ليقرأ بعض السّور على قبر فقيد.. على يديه سيحفظ عبد العزيز بعضَ السور القصيرة والقواعد الأولى للإسلام. في هذا الحي، كذلك، سيتعرّف على أصدقاء مغاربة وجزائريين، ويربط علاقات مع الثوار الجزائريين، ويقع في «الحبّ» لأول مرة، ويحاول الانتماء إلى حزب الاستقلال والعمل في وزارة الداخلية المغربية.. وهلم أسرارً كانت مُتداوَلة في دائرة ضيّقة جدا، قبل أن يكشفها أقرب أصدقائه إلى «المساء»..
«صديق» العمود الكهربائيّ كان الطفل عبد العزيز في السّابعة من عمره عندما التحق بمدرسة سيدي زيان (ليكول الجديد آنذاك). كانت مدرسة سيدي زيان أول مؤسّسة تعليمية عصرية في المغرب. تم إحداثها من طرف المُستعمر الفرنسي سنة 1907، أي قبل الحماية بخمس سنوات، بحكم أن الفرنسيين دخلوا مدينة وجدة في هذه السنة عن طريق الجزائر، التي كانت آنذاك «أراضي فرنسا ما وراء البحار».. هنا حصل بوتفليقة على شهادة الدروس الابتدائية في سنة 1948. كان في طفولته الأولية ميّالا إلى «العزلة والانطواء»، كما يشهد بذلك صديق طفولته محمد العربي (82 سنة) مضيفا: «كان عبد العزيز في سنّ المراهقة وكنت أكبره بحوالي 6 سنوات... وفي كل يوم وأنا ذاهب إلى المدرسة ألتقيه، بين الحين والحين، حتى وقع التّعارف بيننا، رغم كونه شخصا انطوائيا».. ويسترسل العربي مُستحثا ذاكرته للوصول إلى أقدَم صورة يحتفظ بها عن الطفل عبد العزيز: «لم يكن يُشاركنا اللعب الطفولي آنذاك. كان «صديقه» الوحيد هو عمود كهربائيّ قريب من جامع مدرومة، فقد كان دائما يتكئ عليه»، وفي بعض الأحيان يجلس مع والدته، التي كانت تشتغل في حمّام شعبي يدعى «بوسيف». أحد أصدقائه الأشد قربا منه، يدعى محمد بن «ض» رفض في البداية أيَّ حديث عن بوتفليقة، بدعوى أنه «شخص لا يستحقّ حتى الذكر، لأنه ناكر للجميل!».. يقول، بعد جهد جهيد لإقناعه بالكلام: «في صغره كان ذكيا ومُهذبا، وكان يقضي معظم وقته مع ثلاثة أو أربعة من أصدقائه الذين لازموه صبيا ومراهقا واحتفظوا بعلاقاتهم معه إلى زمن قريب».. مُرْدفا، ومرارة الجحود والنكران تمزّق كلماته وتمنعه من الاسترسال في الكلام: «الحياة تُغيّر الإنسان، فقد لعبنا وركضنا وتشاجرْنا معاً، وتشاركنا في كل شيء.. تحتفظ ضيعتُنا «جْنان بْنضيافْ» -غيرَ بعيد عن منزل الأسرة، بالقرب من سوق مليلية، عند بداية شارع علال الفاسي في وجدة- بذكريات تلك الأيام الجميلة.. كم أكل بوتفليقة من الخبز والبيض في هذه الضيعة، قبل أن يتنكَّرَ لي ذات زيارة إلى الجزائر!»... وإذا كان أكثر أصدقاء طفولته، وهم قليلون اليوم بحكم تقدمهم في السّنّ (أكثر من 76 سنة) يُجمعون على أنّ عبد العزيز كان انطوائيا في سنواته الأولى قبل أن يلتحق ب«التكميلي Le complémentaire» (لاحقا إعدادية عبد المومن) فإن قويدر آمال، المزداد في 1937، وهي السنة التي وُلد فيها عبد العزيز بوتفليقة، يقول: «السي محمد العربي صديقه ويعرفه كما أعرفه، لكنّ عبد العزيز كان «حْدودي» وماكرا أكثر منه انطوائيا». يحكي قويدر أنّ «بوتفليقة لم يظهر إلا بعد حصوله على «الشهادة»، وأنا لا أزال أتذكّر أحد أيام 1954، ونحن واقفون تحت شجرة للزيتون أمام إعدادية عبد المومن وكان الزلزال قد ضرب منطقة «الأصنام» في الجزائر.. كنا مُتحلّقين حوله وبدأ يتلو علينا «سورة الزلزلة»: «إذَا زُلْزِلَتِ الأرْضُ زِلَزَالَهَا وَأَخْرَجَتِ الأرْضُ أَثْقَالَهَا وَقَالَ الإنْسَانُ مَا لَهَا».. وكان يقصد بذلك إثارة إعجاب الأصدقاء بوعيه ولحفظة القرآن». ويستدرك قويدر: «كان ذكيا، رزينا ولطيفا، ولكنْ في الوقت نفسِه ماكرا، وسأذكر لك أين يكمن مكره وخداعه لاحقا». يسكت قويدر لثوانٍ بدت طويلة جدا. يستكمل فصول ذكرى مُوغلة، قبل أن يقول: «أنا كمن يجمع الماء بيده.. فكلما قلت أمسكته أتطلع إلى يدي فأجدها خاوية»، مضيفا: «تخونني الذاكرة بسبب المرض.. لمّا كنت أعمل في إذاعة وجدة كنت أقدّم البرامج بدون ما حاجة إلى الورقة.. كنت فصيحا، لكنّ المرض الأخير أفقدَني الذاكرة». يتوقف مرة أخرى ليصيح، بصوت خافت وابتسامة رقيقة تعلو مُحيّاه: «بْالحْق.. هاذي معلومة زْوينة تذكّرتْها: كان يُحب كرة القدم، وكان «كْوايْري بمعنى الكلمة».. كان يدافع بشراسة. أنت تعرف الجزائريين يلعبون بقلوبهم، نحن المغاربة لدينا التقنيات والدّريبلاجْ، لكنْ القلبْ والو، هاذي هي الحقيقة».. بقينا مع قويدر آمال أكثرَ من ساعتين «نستفزّ» ذاكرته بالأسئلة. كان يتوقف كثيرا مُردّدا: «ما فرّحتونيشْ.. كنت أريد أن أعطيَّ كل شيء على ذاك الولد». يتوه بين الذكريات فيلتقط، مرة أخرى، إحداها، ويحكيها وابتسامة وقورة لا تفارقه: «قبل قليل، قلتُ لك إنه كان ممتازا في كرة القدم، والآن تذكّرت أنه كان كذلك بارعا في التمثيل، وأدّى دورا رائعا في مسرحية «عبد يُحرّر حُراً».. كان ذلك في الاعدادية التكميلية بمناسبة الاحتفال المدرسيّ لسنة 1952». رئيس بدون باكالوريا.. «درس التأهيلي في ثانوية عمر بن عبد العزيز، وغادر في السنة الأولى باكالوريا -شعبة الفلسفة. وبعد ذلك التحق بالثورة الجزائرية، وكانَ كثير الغياب. كانت لغتاه الفرنسية والعربية جيدتَين، ما عدا ذلك كانت نتائجه جد متوسطة أو ضعيفة، وكثيرَ التغيب في المواد العلمية والتطبيقية». يقول عبد القادر الرّكاد - 67 سنة - مفتش تربوي، اطّلع قبل مدة على نتائج بوتفليقة، وكان جمع أرشيفا لأكثر الشخصيات التي درست في مدرستي «سيدي زيان» و»عمر بن عبد العزيز» (انظر المؤطر). يرفض الرّكاد أن يمدّنا ببيان نقط بوتفليقة، لأسباب أمنية، قائلا: «جاوْ عْندي البوليسْ.. فطلبوا مني أن أخفيّ عن الصّحافة أيّ معلومات مكتوبة وإلا كنت موضوعَ مُتابَعة قضائية».. لم نتوقف عند هذه الإحباطات.. فبعد أن نجحنا في ضمان استقبالنا، حاولْنا إقناع كل من تحدّثنا إليه خلال إعداد هذا التحقيق بأهمية ذكر اسمه حتى تكون شهادته أكثرَ مصداقية وتوثيقا لعمل الصّحافي.. لجأنا إلى أحد مدراء ثانوية عبد العزيز، فقبِلَ -بَعد شدّ وجذب- أن يُطلعنا على «بيان النقط»، ولاحقاً، أقنعناه بضرورة نسخها، مع تعهّد بحمايته كمصدر. «كان بوتفليقة كايْقرا مْع جنادر»، يقول قويدر آمال، مؤكدا أنّ «قسمه كان مليئا بالمغاربة المُجتهدين، من بينهم عمر بن جلون، شهيد الصّحافة الاتحادية، وموسى السّعدي، وزير الطاقة والمعادن الأسبق، وشخصيات جزائرية بارزة».. ورغم ذلك فقد كانت نتائجه جد متوسطة وضعيفة في الموادّ العلمية، وكانت ملاحظات الأساتذة في بيان النقط تشير إلى أنه «كثير التغيب» (souvent absent) وأحيانا: «نتائج ناقصة، لكنْ قابلة للتحسّن».. في هذه السنة سيبدأ بوتفليقة الاستعداد للالتحاق بالثورة الجزائرية، يقول قويدر آمال: «ربما أحسّ بأنّ الدنيا لا تأتي مُقبلة على الشخص بالدراسة فقط.. إيلا ما جاتشْ بْالدّراسة تجي إذن بالثورة».. أما محمد العربي فيذهب أبعدَ من ذلك، إلى التشكيك في «وطنية والده وارتباطاته بالاستعمار الفرنسي».. يقول: «كان والده عضوا بارزا في «ودادية الجزائريينبوجدة»، فهم كانوا يتمتعون بامتيازات فرنسية، عكسَ المغاربة، وكانت الودادية قريبة من الاستعمار الفرنسي»، مضيفا، كما لو أنه تخلص من شيء ما وقرّر، أخيرا، النطق بالحقيقة: «كان «بوسيف»، وهو عميل للإدارة الفرنسية، صديقَ بوتفليقة -الأب، وكانا معا في «ودادية الجزائريين في وجدة»، التي كانت قريبة من فرنسا، والدّليل على ذلك هو اغتيال بوسيف من طرف المقاومة الجزائرية بسبب الخيانة والتعامل مع المُستعمِر.. وإذا كان عبد العزيز قد انضمّ إلى المقاومة الجزائرية فبغرض إبعاد الضغوط عن أبيه، الذي لم يستطع إخفاء ارتباطاته بالمُستعمِر». من جهة أخرى، يقول الرّكاد «بوتفليقة قائد دولة بدون باكالوريا.. كان في السنة الأولى للباكالويا ولم يفلح في الحفاظ على جديته واجتهاده. وشخصيا، أعتقد أنّ ارتباطه بالثورة، في أواخر السنة الأولى للباكالوريا، أدى إلى انخفاض مُعدَّلاته». بوتفليقة «المخزنيّ» يقول محمد العربي إنّ الجزائريين بعد أن استقلّ المغرب عن الحماية الفرنسية، في 1956، أصبحوا يكرهون المغاربة، لأنّ معظم زملائهم في الدراسة التحقوا بالوزارات المغربية الحديثة، فيما سُحبت من الجزائريين الامتيازات الكبيرة التي كانوا يتمتعون بها خلال الحماية، مضيفا: «كانت الجزائر مُحافَظة فرنسية والجزائريون مواطنين فرنسيِّين، ولو من الدّرجة الثانية». يضيف مُحدّثنا أنه ليس متأكدا مما إنْ كان عبد العزيز بوتفليقة قد سعى يوما إلى الالتحاق بوزارة الداخلية المغربية بُعَيد الاستقلال، لكنّ عبد القادر الركاد شدّد مرارا على أنّ لديه معلومات صحيحة تفيد أنه لمّا كان بوتفليقة في السنة الأولى من الباكالوريا -سنة 1956- قدّمَ طلبا إلى وزارة الداخلية المغربية للعمل كإطار داخل الوزارة.. غير أنّ طلبه رُفِض بسبب أصوله الجزائرية (يتحدّر والده من تلمسان) رغم أنه ازداد في وجدة وعاش فيها طيلة فترة طفولته وشبابه.. مردفا بحزم: «كان معه حينما قدّمَ طلبه عبد الحق العشعاشي»، وهو من سيصبح، بعد 1964، شهيرا كضابط، ثم عميل في جهاز «الكاب 1»، المتهم في قضية اختطاف المهدي بن بركة.. وقد أصدر القاضي الفرنسي لوي زولينجر مذكرة اعتقال في حقه في أواسط تسعينيات القرن الماضي.. وكانت عائلة العشعاشي من البرجوازية المحلية لمدينة وجدة، وعلى علاقة وطيدة بأكبر العائلات الجزائرية. وإذا كان بوتفليقة بعد استقلال المغرب قد سعى إلى الدخول في منظومة ما يُسميه اليوم «المخزن»، فإنّ هناك شهادات أخرى استقيناها في هذا التحقيق ممّن عاشروه أو عرفوه في وجدة يؤكدون أنه انتمى إلى حزب الاستقلال لفترة وجيزة جدا، عبر ذراعها الطلابي.. يقول الركاد، الذي عرف بوتفليقة صغيرا: «كان عبد العزيز يكبُرني ببضع سنوات، ولا أزال أتذكره جيدا وأتذكّر عمه «بوتفليقة مولْ الحْليبْ».. كان والدي في رمضان يقول لي: «روح جيبْ لي اللبنْ عند بوتفليقة»، مضيفا: «معلوماتي صحيحة، وبوتفليقة انتمى إلى حزب الاستقلال، ويمكنكم أن تتأكدوا من ذلك». محمد العربي هو أحد الوجوه الاستقلالية المعروفة في وجدة خلال الحماية الفرنسية، وقد أصبح بعد الاستقلال أولَ رئيس مجلس بلدي للمدينة الحدودية، يقول ل«المساء»: «لا أعتقد أنه انتمى إلى التنظيم الحزبي».. ويتدخل قويدر آمال لتسجيل شهادته، مؤكدا أنّ «الحقيقة هي أنه انتمى، فعلا، في البداية إلى الشبيبة المدرسية، التي كانت تسمى قبل ذلك «الشبيبة الاستقلالية»، ويمكنك بعد ذلك أن تفهم ما تريد».. ولم يكن عبد العزيز بوتفليقة الرئيسَ الجزائريّ الوحيدَ الذي سعى إلى الحصول على الجنسية المغربية والعمل في الأجهزة الادارية للدولة الناشئة بعد الاستقلال، بل كان هناك رئيس آخر هو محمد بوخرّوبة، الذي سيُعرَف لاحقا باسم «الهواري بومدين» (هو اسم حربيّ، كما كان بوتفليقة يُدعى «عبد القادر المالي»، لأنه التحق بالثوار في الحدود الجزائرية المالية).. يحمل بومدين بطاقة التعريف ورخصة السياقة المغربيتين. يقول الركاد: «كانت بطاقة التعريف الوطنية لبومدين تدور في هذه المقاهي التي ترى أمامك، وكنا نسميها «النكوة».. كان بعض الإخوان حينما تنفذ أموالهم كايقمّرُو بلاكارط والبّيرمي ديال بومْدين.. ويمكن أن تجد رخصة سياقته عند شخص يدعى بْلمزيان».. يتوقف ليضعنا في السّياق: «قبل الثورة اقترض بومدين بعض المال من بلمزيان، وأخذ منه هذا الأخير رخصة السّياقة والبطاقة الوطنية كضمانة.. ولم يُسدّد المال الذي كان في ذمته حتى وهو رئيس».. مضيفا وهو يجاهد نفسه لكبح الضّحك: «كم كنا نتندّر من قصة بطاقة «بوخرّوبة»، حينما أصبح رئيسا للجمهورية الجزائرية باسم هواري بُومْدين!».. خدع عشيقته فأبكاها وسخط عليه الفقيه وتبرّأ منه أصدقاؤه.. يتداول أصدقاء عبد العزيز بوتفليقة -الشابّ قصة جرت له مع عشيقته، المُمرّضة في مستشفى الفارابي، وكان يسمى «موريس لوستو»، والطريقة التي خدعها بها، قبل التحاقه بالثورة ومغادرته وجدة بصفة نهائية.. يقول صديقه محمد العربي: «كان يحبها ومرتبطا بها ارتباطا شديدا قبل أن يتركها بطريقة مؤسفة». ويؤكد قودير آمال أنه يعرف صديقة بوتفليقة هذه، قائلا: «كانت شابة جميلة جدا وتعمل ممرّضة في مستشفى الفارابي». مُردفا: «في اليوم الذي غادر بوتفليقة وجدة دخل محتالا إلى غرفتها وسرق كل صوره ورسائله وكلَّ الوثائق والذكريات التي كانت تجمعهما.. كانت لديه نية مُبيَّتة للهرب. تركها نصبا تذكاريا تُذكّر بضحايا نار الحبّ».. مسترسلا في الحكي بشكل متقطع: «خرجت المسكينة إلى الحيّ وبدأت تبكي وتسأل عن مكانه.. كانت المسكينة تنزف دمعا بسبب الخيانة والخداع... كان عاشقا مُزيَّفا.. لقد تعاطف معها الناس كثيرا». ويؤكد العديد ممن تحدّثت إليهم «المساء» خلال هذا التحقيق، أنّ والدة بوتفليقة أوصته بدفنها بجوار زوجها في مقبرة «سيدي المختار» في وجدة، لكنه ولأسباب سياسية لم يُلبّ رغبتها بعد وفاتها سنة 2009.. ويذهب الكثير من المُتتبّعين إلى أنّ عبد العزيز بوتفليقة نزل عند ضغط الجنرالات، الذين يتجنّبون تسليط الضّوء على أصول بوتفليقة المغربية.. يقول صديقه محمد بن «ض». «لم يعد عبد العزيز، ومنذ أن أصبح رئيسا، «يرضى» بأصوله المغربية، فهو في الوثائق الرسمية مزداد في مدينة تلمسان!».. يتحدّث قويدر آمال، وهو الأشدّ التصاقا بالطفل والمراهق عبد العزيز، عما سماه «نكران الجميل» لدى بوتفليقة، قائلا: «هو ناكرٌ للجميل، ليس فقط مع أصدقائه، ولكنْ حتى الفقيه الذي علّمه القرآن تبرّأ منه»، مضيفا: «بعد استقلال الجزائر تولى بوتفليقة مناصب مهمّة، وذهب عنده الفقيه الوارسوسي وكان ينتظر استقبالا حارّا، ليتفاجأ برفض استقباله».. وهي تقريبا القصة نفسُها التي يحكيها محمد بن «ض». ل»المساء»، يقول: «تشاركنا كلَّ شيء، وكان يتردّد علينا دائما ونُكرم وفادته، ولمّا مرضتْ والدتي وقصدت الجزائر، معتقدا أنّ لي صديقا عزيزا هناك صُدِمت، لأنّ الرجل أصبح شخصا آخر غيرَ الذي أعرف. لقد رفض رؤيتنا أو حتى مساعدتنا.. بصراحة، لست فخورا بتلك الصّداقة». «نعم.. شتمته» بعد استقلال الجزائر سنة 1963 تقلب بوتفليقة في العديد من الوظائف وتولى، في سن الخامسة والعشرين، حقيبة وزارة الشباب والسّياحة، ثم وزارة الخارجية، ثم صار عضوا لمجلس الثورة على عهد الرئيس بومْدين، وعضوا في اللجنة المركزية لجبهة التحرير الوطني، ورئيسا للدورة ال29 للجميعة العامة للأمم المتحدة.. وبوفاة صديقه بومدين اضطرّ إلى مغادرة الجزائر إلى المنفى في الإمارات لمدة ست سنوات. بعد رجوعه إلى الجزائر -في نهاية الثمانينيات- قرّر أن يزور عائلته في وجدة. وفي هذه الأثناء، لا يزال بعض أفراد عائلته يقطنون في المدينة الحدودية. أما أخته الوحيدة، المتزوجة في المدينة المغربية، فقد توفيت وهي في ذمة المغربي أحمد الوجيدي، الذي كان أستاذا لمادة اللغة العربية في وجدة (رفض الحديث إلى «المساء» بدعوى أنّ علاقاته بعائلة بوتفليقة توقفت منذ وفاة «المرحومة زوجته»، وألححنا عليه لمدة أسبوع كامل، لكنه رفض الحديث).. ولم يستطيع عبد العزيز بوتفليقة الحضور إلى مراسيم العزاء. وفي التسعينيات، حلّ بمسقط رأسه لأول مرة بعد مغادرته وجدة في 1962، ووجد أمورا كثيرة قد تبدّلت.. يقول حسن المرزوقي (57 سنة): «أنا من أبناء الحي الذي كان يقطنه بوتفليقة.. كان حيا مختلطا، حتى إننا لا نعرف المواطن المغربي من الجزائريّ، فجميع العائلات «وجدية» بالنسبة إلينا.. وكم كنا نتفاجأ ونحن صغار بأنّ بعض زملائنا يطلبون منهم في المدرسة عقودَ ازدياد جزائرية.. آنذاك فقط، نعرف أنّ فلانا جزائري وليس مغربيا». يحكي المرزوقي عن الحادث الذي وقع له مع بوتفليقة خلال زيارة الأخير لوجدة، قائلا: «حينما عُدتُ من فرنسا سنة 1992، كنتُ في الطائرة أقرأ موضوعا حول «جبهة التحرير الوطني الجزائرية» في مجلة «جون أفريكْ»، وفي المقال يستعرض الكاتب أجواء المؤتمر، التي عرفت تهجّماً غيرَ مسبوق على المغرب من طرف عبد العزيز بوتفليقة.. بعد مرور يومين، كنت جالسا في مقهى فرنسا -وسط مدينة وجدة- مع بلقاسم بنشعو، رئيس الملودية الوجدية سابقا (الغريب أن أخاه الشقيق كان «كولونيل» في الجيش الجزائري). حينما رآه بوتفليقة جاء للسّلام عليه مرفوقا بعميد الأمن الاقليمي.. رفضت أن أمدّ له يدي لأصافحه وأسمعتُه كلاما نابيا، وكرّرت عليه: «سيرْ... لعنة الله عليك! المغاربة وْكّلوك وشْرّبوك وما تبغيهومْشْ».. ثم تدخل عميد الأمن قائلا: ما هذا الأسلوب؟»، وخاطبته مرة أخرى: «نتوما اللّي ضسّرتو عْلينا هاذو.. هاذو ما يْبغيوناشْ». ويضيف المرزوقي بغضب: «لم أندم على تلك الكلمات، لأنّ بوتفليقة إنسان جاحد، وخيرُ دليل على ذلك المهرجان الخطابي الذي نظمه في الحملة الانتخابية الأخيرة ونقله التلفزيون الجزائريّ، وأطلق فيه كلاما أعتبره إهانة في حقّ المغاربة، عندما ردّد: «حْنا، واشْ راحنا نجيبو مْن عندهم قشّ بختة وفناجْلْ مْريمْ!».. وكان يقصد أنّ الجزائر تصدّر للمغرب مواد بترولية وأدوية وأشياء ثمينة ولا تستورد غيرَ أثواب بالية ورخيصة»..