المقال الذي نشرته «المساء» في عددها الصادر يوم الثلاثاء الماضي على امتداد صفحتين (20-21) ليس مقالا عاديا بالمرة، وإنما هو من تلك المقالات النادرة التي ينبغي قراءتها وإعادة قراءتها أكثر من مرة، بالضبط لأنها تضع بين يدي القارئ جملة من المعلومات التي تساعده على الفهم الصحيح لعدد من الأمور التي تحصل في العالم حوله، والتي يعتقد، عن خطأ، أنه يعرفها خير معرفة ويدرك مغاليقها كل الإدراك. فهذا المقال، وخاصة منه القسم المتعلق بمداخلة الباحث الأمريكي في الاستراتيجية العسكرية د. ماكس مانوارينغ، يفتح العيون، مثلا، على حقيقة أن ما أطلق عليه اسم «الربيع العربي» ليس ربيعا ولا عربيا ولا هم يحزنون؛ وإنما هو أحد التجليات الإقليمية لرغبة القوى الاستعمارية القديمة – الجديدة (تحت قيادة أمريكا، طبعا) في إعادة ترتيب خريطة المنطقة عن طريق خلق، ما أسماه د. مانوارينغ، «الدولة الفاشلة». لقد دخلنا، بحسب الباحث الأمريكي، مرحلة «الجيل الرابع من الحروب» (بعد الجيل الأول الذي انطلق في أوروبا مع التوقيع على «صلح وستفاليا» عام 1648، والجيل الثاني الذي انطلق مع حلول القرن التاسع عشر، والجيل الثالث الذي جرى تطويره ابتداء من الحرب العالمية الأولى). وتتمثل أهمية هذا «الجيل الرابع» في أن الحرب فيه لا تتم عن طريق الأسلحة والتدخل العسكري واختراق حدود الدول، كما كان يحصل سابقا، وإنما تجري بواسطة حسن استخدام ما يطلق عليه «القوة الناعمة»، التي ترتكز على الإعلام بالدرجة الأولى، وخاصة منه الوسائط التي تستطيع الوصول مباشرة إلى المتلقي، بعيدا عن «الرقابات الحكومية» في هذه الدولة أو تلك (الإنترنيت، مثلا، أو المحطات التلفزيونية والإذاعية الفضائية). والهدف هنا لم يعد هو «تدمير» نظام سياسي معين أو القضاء عليه بشكل مبرم وإحلال آخر محله، وإنما صار «إنهاك إرادة الدولة المستهدفة، ونسف قدراتها ببطء ولكن بثبات» وذلك لأجل «اكتساب نفوذ» داخل هذه الدولة، في البداية، ثم «إرغامها على الامتثال لإرادة الدولة الغازية» فيما بعد. إن بإمكان هذا «الجيل الرابع» من الحروب، بحسب د. مانوارينغ، أن يخلق «دولا فاشلة» يسهل «التحكم فيها» بل و«الذهاب إلى ما هو أبعد من التحكم كلما أمكن ذلك». وبطبيعة الحال فإن هذه الحرب ليست سريعة خاطفة، بل هي عبارة عن «سيرورة يجري تنفيذها ببطء، ودون أن يكون أحد منتبها لما يقع»؛ و«إذا قمت بتنفيذ ذلك بطريقة جيدة، ولمدة كافية، وببطء شديد، فسيستيقظ عدوك ميتا». المثير واللافت للانتباه في هذا الكلام هو أنه يلقي كثيرا من الضوء على ما حصل ويحصل من وقائع في العالم العربي طيلة عقد من الزمان، منذ غزو العراق إلى ما يجري حاليا في سوريا، مرورا ب«إسقاط قيادات» تونس ومصر وليبيا واليمن، إضافة إلى كثير من الوقائع المتفرقة والمتناثرة هنا وهناك؛ حيث حل عهد «الدولة الفاشلة» التي عوضت «الدول القوية» في العراق ومصر وسوريا وغيرها، ولم ينجح الغزو الأمريكي في جلب «الديمقراطية الموعودة» إلى المنطقة (بدءًا بالعراق) بقدر ما نجح في إذكاء نار الحروب الأهلية والعودة بنا إلى عصر العشيرة والقبيلة والبداوة الأولى. لقد كانت «القوى الأمبريالية» (كما كان يطلق عليها في الماضي) تقبل بوجود «دول قوية» في الماضي، تنوب عنها في الدفاع عن مصالحها الجهوية، لكن يبدو أن هذا الخيار لم يعد مقبولا اليوم في ظل إعادة صياغة جديدة للعالم يبدو الجميع غافلا عنها متلهيا ب«التويتر» و«الفيسبوك» و«الآراب آيدول» و«المسلسلات المدبلجة»، وسوى ذلك من أدوات «القوة الناعمة» التي تجعل منهم «مواطنين نموذجيين» ل«دولة فاشلة».