في طفولتي قرأت قصة «باردليان» من تأليف زيفايج النمساوي على ما أذكر، وكانت قصة من 40 جزءا، التهمتها بشغف. وعند قصة مذبحة القديس بارتولوميوس اقشعر جلدي، فلم أكن أتصور أن يفعل الناس ببعضهم هكذا. ولقد رسم الروائي مناظر إبادة الهوجنوت على صورة انحفرت في الذاكرة، فلم تفارقني من يومها، وتجعلني أسطر بعضها مع هذه الكتابة؛ ولم تتكرر صورها إلا مع قراءتي كتاب «قصة الحضارة» للمؤرخ الأمريكي ويل ديورانت، ولم أكن أعرف يومها من هم الهوجنوت وما معنى هذا التلذذ بقتل البشر والفتك بالحوامل والأطفال وملء نهر السين بجثثهم أو مراقصة جثث النساء العاريات الميتات! هكذا أورد الروائي بعض فصول تلك المذبحة المروعة! ثم عرفت تفاصيل هذا الجنون وأنه كان ثمرة التعصب بين الكاثوليك والبروتستانت، كما هو الحال بين الشيعة والسنة اليوم، وكله خلاف خرافي تاريخي في الصراع على السلطة، أخذ بعدا عقائديا! وهو إحياء أمراض قديمة بأسماء جديدة؛ تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون. وهو نفس المرض الذي أطلق فولتير شعاره ضده يومها «اسحقوا العار»، جنبا إلى جنب مع شعاره الذي اشتهر به: قد أخالفك في الرأي مائة في المائة ولكنني مستعد أن أموت من أجل أن أدعك تعبر عن رأيك. وفي ثقافتنا، يوجد تعبير فقهي للشافعي يشبه هذا، وهو: إنني على حق يحتمل الخطأ وأنت على خطأ يحتمل الصواب. فهذا المبدأ يفتح باب الحوار، والثاني هو عين التعصب ويغلق كل إمكانية للتفاهم. وقصة «اسحقوا العار»، التي يجب أن نكررها هذه الأيام، هي عن عبثية الصراع الإيديولوجي الذي مبعثه اعتقاد كل واحد بأنه يمسك في يده الحقيقة النهائية المطلقة، وهو مبدأ كسرته عصور التنوير في أوربا ونحن لم نشم رائحته بعد؛ فكان ليسنج الألماني يقول لو أخذ الله الحقيقة المطلقة في يمينه والشوق إلى البحث عن الحقيقة في يسراه ومعها الخطأ لزام لي ثم قال لي اختر، إذن لجثوت على ركبتي ضارعا وقلت يا رب بل أعطني ما في يسراك لأن أسرار السماوات والحقيقة النهائية هي لك وحدك فقط. ويروي ديورانت في «قصة الحضارة» عن هذا المرض فيقول: «الإنسان حيوان منافس ما دام يخشى الخطر، كذلك حال الجماعات والطبقات والأجناس والأمم التي تفتقد شعور الأمن، فهي تتنافس بذات الحرص الذي يتنافس به الأفراد وبعنف أشد لأنها أقل تقيدا بالقانون وتمتعا بالحماية. وفي حمى الصراع الأوربي بين حركة الإصلاح البروتستاتني وصلح ويست فالن عام 1648، استخدم هذا التنافس الجماعي الدين ستارا وسلاحا لتحقيق أهداف اقتصادية أو مآرب سياسية، فلما ألقى المحاربون السلاح بعد قرن من النضال، احتفظت المسيحية ببقائها وسط الخرائب بشق الأنفس». وفي قصة الصومال نموذج، والعراق لن يشذ، وسوريا بوابة مفتوحة على ارتطام مذهبي قد يذكر بالحروب التي التهبت في أوربا، وسوف يصحو ربما بعد عشرين أو ثلاثين سنة، كما كانت حروب الثلاثين سنة في أوربا، وستلحق هذا المصير كانتونات عربية أخرى. والهوجنوت هم الاسم الثاني لبورتستانت ألمانيا، أي فريق المعترضين (كلمة بروتست بالألمانية تعني اعترض)، وابتدأت القصة مع وضع مارتن لوثر أسئلته على باب الكنيسة، وأهمها عن معنى بيع تذاكر لدخول الجنة للأغنياء! في الوقت الذي ينص فيه الإنجيل على أن دخول غني ملكوت السماوات هو أصعب من دخول حبل السفينة الغليظ ثقب إبرة. ومن هذا الانشقاق، الذي هو أشد من انسلاخ المشيمة لوليد جديد بنزف شديد، ولدت حركة الإصلاح الديني التي لولاها لما كان الغرب يتصدر العالم اليوم، كما قرر ماكس فيبر في كتابه «الروح الرأسمالية والأخلاق البروتستانتية»، فحيث انتشرت البروتستانتية ولدت مبادئ الحركة الرأسمالية، مثل بريطانيا وألمانيا وشمال أوربا، وانتهاء بأمريكا الوليد الجديد الذي يقوده الواسب، البروتستانت البيض. في كندا، التي أخذت أنا جنسيتها، تسبح الأمة بين ألف نحلة وشيعة وفرقة وملة وعقيدة، فلا يكفر أحد الآخر، ولا يذبح إنسان آخر على الهوية، كما يحدث في العراق هذه الأيام؛ فقد نقل جيفري فلايشمان، مراسل صحيفة «لوس أنجلوس تايمز»، أن حصيلة ضحايا العنف الطائفي بلغت في شهر يوليوز 2006م وحده ما يقارب 3500 قتيل، وكان أعلى معدل للضحايا منذ غزو العراق في عام 2003م. وحتى كتابة هذه الأسطر، يموت الناس يوميا وبالعشرات. وفي مشرحة بغداد لوحدها رقدت 1850 جثة في شهر واحد، تشكو إلى الله حماقة الإنسان وقلة عقله وضيق أفقه وتعصبه المجنون، مصدقة ظن الملائكة بالإنسان، أنه يفسد في الأرض ويسفك الدماء. فالعراق بعد أن كان مصابا بالاستبداد أضاف فوقه الاحتلال، مثل مصاب بالسرطان أصيب بداء الرئة الحاد، فهو في طريقه إلى الفوضى والتفسخ، كما يحصل للجثث الميتة. والفصل السهل في مسرحية العراق كان قطع سرطان صدام، ولكن السرطانات تترك خلفها انتشارات، تعيد ولادة السرطان في عضو جديد على شكل أخبث وأنشط، وهو مصير مهدد لسوريا بسبب حكم الأقلية العلوية، كما كان مع الأقلية السنية في العراق. ذرية بعضها من بعض والله سميع عليم. وما تمر به المنطقة العربية في صيف 2012م مرت به فرنسا في نفس الشهر قبل خمسة قرون في مذبحة القديس بارتولوميوس، عندما عُلِّمت بيوت الهوجنوت سرا، وأحكم إغلاق باريس، وقرعت أجراس الكنائس في الثالثة صباحا من يوم 24 غشت عام 1572م، وكان الشعار: اقتلوهم جميعا! وينقل المؤرخ ديورانت أنها كانت فرصة لتصفية الحسابات، فيقتل أي إنسان على الشبهة، شبهة أنه من الهوجنوت، بمن في ذلك من يريد التخلص من زوجة بغيضة أو جار غني أو فيلسوف مفكر، كما حدث بذبح المفكر راموس. «وجر الهوجنوت وأبناؤهم إلى الشوارع، وذبحوا ذبح الأنعام، وانتزعت الأجنة من بطون الأمهات القتيلات وهشمت، وما لبثت الجثث أن تناثرت على أرصفة الشوارع، وأخذ الصبية يلعبون فوقها، ودخل حرس الملك السويسري المعمعة وراحوا يذبحون في غير تمييز للذة الذبح الخالصة». وحدث أن نبتت شجيرات الشوك البري في يوم 25 غشت، في غير أوانها في مقبرة للأطفال، فقرعت أجراس الكنائس في باريس احتفالا بالمعجزة، فهلل الغوغاء والدهماء والحرافيش والزعران للخبر، وقالوا إنها دعوة إلى الذبح مجددا، وهكذا عادوا للذبح مرة أخرى. وحصل هذا في مناطق متعددة من كل فرنسا، في ليون وأورليان وديجون وتور وبورج وأنجيه وروان وتولوز، فبلغت أكثر من ثلاثين ألف ضحية في تلك الأيام، وهو ما يقابل مليونا من الأنام هذه الأيام. وحين وصلت الأخبار إلى روما، هلل القوم، ومنحوا البركات والليرات لمن أوصل البشارة، وأضيئت روما كلها بالأنوار، وأطلقت المدفعية ابتهاجا من قلعة سانت أنجلو، وقرعت الأجراس في ابتهاج، وحضر البابا جريجوري الثالث عشر وكرادلته قداسا مهيبا احتفالا بالنصر المبين على الملاحدة، شكرا لله على هذا (الرضى الرائع الذي أبداه الرب للشعب المسيحي)، وأنقذ فرنسا والبابوية من خطر عظيم، وأمر البابا بضرب ميدالية ذهبية خاصة تذكارا لهزيمة الهوجنوت وذبحهم، وأوعز برسم صورة في الصالة الملكية في الفاتيكان، وتحتها البابا يوافق على قتل كوليني! وكان الأخير أهم زعماء الهوجنوت. ولم تكن فرنسا الوحيدة التي خاضت الحروب الأهلية من عام 1562 حتى 1594م، فقد شربت ألمانيا من نفس الكأس بين عامي 1618 و1648 الذي ختم بصلح وستفاليا، ومعه زهقت روح 6,5 ملايين نسمة، من أصل 20 مليونا من الأنام، مما حدا بالكنيسة إلى إصدار مرسوم «نورمبرغ» الشهير، الذي فعلته مرة واحدة في تاريخها، بإباحة تعدد الزوجات، استنادا إلى العهد القديم الذي يحكي أن سليمان تزوج 899 من الحرائر، وتكررت الحرب الأهلية في بريطانيا بين عامي 1642 و1648 وطارت رؤوس ملوك فيها. ولم تنج أمريكا ولا إسبانيا ولا تركيا ولا اليونان ولا روسيا من الحروب الأهلية، فيبدو أنه ما من قرية إلا هي، وفق قانون التاريخ، مهلكة قبل يوم القيامة أو معذبة عذابا شديدا، كان ذلك في الكتاب مسطورا. وهو قدر ثقافي وليس إعادة عابثة لقوانين الطبيعة الجامدة، ولا مذنبا يصدم الأرض على حين غفلة، بل هو إفلاس أخلاقي ووباء فكري، وحداته المرضية من ميكروبات الأفكار التي تروجها الرؤوس الدينية، بما تلبس من عمائم وطواقٍ وطرابيش وطيلسانات ولفائف، وأفكار يعجز عن ترويجها الشيطان الرجيم.