في 20 أكتوبر 2011م سقط القذافي الصنم الثالث بعد اثنين من أباطرة العرب، ولكن على نحو مهين، دموي جدا. كل من كان يسألني سابقا كنت أقول له إن نهاية القذافي ستكون شبيهة بنهاية موسوليني، فقد سطر مصيره بريشة من دم.. وقد كان. في القرآن، جاءت كلمة «وكلا أخذنا بذنبه» ثم استعرضت الآية نماذج من التدمير غير معهودة وجديدة ومفاجئة جدا. فرعون يغرق؛ عاد تهلك بالريح الصرصر العقيم؛ ثمود تمسحها صاعقة عذاب الهون؛ نوح طوفان يمشي بأمواج كالجبال؛ لوط يجعل الرب عاليها سافلها ويرسل عليهم حجارة من سجيل منضود؛ صاحب الفيل تطوقه أسراب من طير أبابيل لا نعرف تماما كيف حولتهم إلى شيء اسمه عصف مأكول؛ جيش هتلر الذي حاصر ستالينغراد وقتل مليونا من البشر كما يفعل الأسد الصغير مع حمص ستالينغراد سوريا، سيناله نفس المصير إلا أن يتوب. ولكن متى تاب فرعون وجنوده أو تحول هامان إلى قديس وقارون إلى متصوف؟ هذا ما ذكر القرآن بعضه، ولكن التدمير في التاريخ له أشكال لا تنتهي من نهايات مأساوية للطغاة: موسوليني علقوه مثل خروف المسلخ مع عشيقته كلارا ميتاتشي؛ هتلر ينتحر بالسيانيد والرصاص؛ الشاه ترتب له أمريكا ملفا بعنوان الخازوق؛ هيلاسيلاسي في الحبشة يرمى في دورة المياه ويردم بالإسمنت المسلح. القذافي لا يعرف أين قبره تماما مثل تشاوسيسكو الروماني. هل سيكون مصير الأسد في المنفى في قم يتعمم بعمامة خضراء من استبرق ويتعلم على يد الملالي هناك العلوم الشرعية أم يفتح عيادة طبية متواضعة في ريف الأناضول عند الأتراك أم ينتهي معلقا بحبل المشنقة والمخنقة؟ لا أحد عنده الإجابة، ولكن التاريخ يقول دوما إن لي عينين لا تنامان، فمن يغفل عن سنن الله فإن سنن الله لا تغفل عنه. مع هذا، فلا شك أن استخدامات الأسد للقتل والقتل والقتل تعني أنه مقتنع تماما بأن هذا هو الأسلوب الأفضل لضبط الأمر، وهذا لا يأتي من فراغ، فالتاريخ وفلسفة التاريخ تفتح أبوابا لا نهاية لها في جدلية الحق والقوة. ينقل عن روسو قوله: «القوة لا تصنع الحق»، فهل أصاب روسو؟ حين ننظر إلى آلة القمع والقتل الأسدية في سوريا يخيل إلينا من سحرهم أنها تسعى! لقد درس توينبي نموذج دولة آشور في التاريخ فقال إنها اختنقت في الدرع، فقد كانت تطور آلتها الحربية دوما ولم تغفل، ولكن من هذا الباب جاء الهلاك، فأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون. هناك من يرى أن القوة تصنع الحق، وهناك من يرى الحق كلمة كاذبة، وهناك من يرى أن الحق ينتشر في مفاصل الكون فلم تخلق السماوات والأرض عبثا، وبالحق نزل الكتاب وأوحي إلى النبيئين. علينا، إذن، أن نكرر مع أرسطو قوله لأفلاطون: أنت عزيز علي ولكن الحقيقة أحب إلي، أو هكذا نزعم، فالحقيقة النهائية هي عند الرب، ونحن باجتهادنا قد نقترب من الحقيقة شبرا أو نبتعد قدر أربعين خريفا. وينقل عن ليسنج، من فلاسفة التنوير، قوله: لو وضع الله الحقيقة المطلقة في يمناه، والشوق إلى البحث في يسراه ومعها الخطأ لزام لي، ثم قال لي: اختر؟ إذن لجثوت على ركبتي ضارعا وقلت: يا رب بل التي في يسراك، فالحقيقة المطلقة هي ملك لك وحدك لا شريك لك. وينفع في هذا أيضا قول آينشتاين عن الحقيقة إن التعرف عليها مرة واحدة لا يكفي بل يجب غربلتها دوما، فقد تكون زيفا كاملا! إن الحقيقة، على فرض وجودها، تشبه تمثال الرخام المنتصب في الصحراء والمهدد في كل لحظة بالغرق في عواصف الرمل، وما يبقيه ملتمعا في هذه الصحراء هو الأيدي التي لا تمل ولا تكل وتنفض عنه الغبار باستمرار. إنها فلسفة اكتشاف الحقيقة وصقلها المتكرر، فالحقيقة قوة حيوية وليست كما جامدا كما ترون. لنبدأ بالتأسيس الفلسفي عند فكرة «القوة لا تصنع الحق» نقلا عن روسو، فهل أصاب روسو؟ ينقل إلينا التاريخ عكس هذه المقولة؛ ننقل منها باقة من الوقائع: هنري الثامن في بريطانيا أسس كنيسته بالسيف، كان منها أربعة رؤوس من ست زوجات طارت بالبلطة، وحكمت إليزابيث الأولى وانتهاء بفيكتوريا وإليزابيث الثانية بنفس تاج هنري القاتل؛ ولم تنتشر البوذية من الهند إلى اليابان لولا الملك أشوكا؛ وانتصر الإسبان ولغتهم في أمريكا الوسطى والجنوبية بعد إهلاك ثمانين مليونا من الأنام، كما قرر أستاذ السوربون تزفيتان تودوروف ذلك في كتابه «مسألة الآخر»، فانتشرت الكثلكة والصليب وماتت حضارة الأنكا والآزتيك بحد السيف على يد هيرناندو كورتيس والبيزارو؛ وفي فرنسا تم ذبح كل الهوجنوت في عيد القديس برتيليميوس، وألقيت جثثهم في السين وتعقمت فرنسا من اللوثرية ومازالت؛ وكذلك فعل الجزار الصربي في البوسنة ويذوب المسلمون كل يوم بعد مذبحة سبرينتشكا التي تمت بموافقة الهولنديين، فكانت مقبرة لم يشهد لها العالم مثيلا منذ الحرب الكونية، ضمت ثمانية آلاف ضحية؛ وانتصرت الدولة الصفوية في إيران وتمدد التشيع حتى الإحساء والبقاع وغزة وكانت سورية مرشحة لأن يتحول نصفها إلى شيعة في مدى خمسين عاما بنشاط التشيع وأموال إيران الذي فتح الطريق إلى المسجد الأموي؛ وتم تدمير كل حضارة أمريكا من الهنود الحمر، فصادهم المهاجرون الأوربيون بالبنادق مثل العصافير كما رأينا في فيلم «يرقص مع الذئاب»، ومعه ماتت ثقافة كاملة، فلم تبق إلا حفنات من الراقصين بريش على الرؤوس؛ وفي إسبانيا اكتملت حركة الاسترداد (La Requnqista) وقضي على كل نفس من المورو فلم يبق من المساجد إلا محاريب تبكي وهي عيدان. وحاليا، يراهن الأسد على تصفية الاعتراضات بآلة القتل الجهنمية، وقد ينجح كما نجح أبوه من قبل عام 1982م في حماة، فذبح أربعين ألف نسمة والعالم يتفرج ببلاهة؛ فيقتل الابن هذه المرة أربعمائة ألف ويتابع الركوب على ظهور العباد قائدا أبديا! إذن، هذه الجملة (جدلية الحق والقوة) يجب إعادة النظر فيها، قد تستقيم إذا قلنا عن مواجهة بين قوة عارية بدون فكرة داعمة، كما في نموذج أتيلا والهون والمغول، فأبادوا الحضارات على جبال من الجماجم، ومع ذلك اعتنقوا دين المغلوب. كما أن العكس صحيح، فهناك أفكار جيدة طمرت كما في المسيحية في اليابان، والطاوية في الصين مقابل انتشار الكونفوشوسية مدعومة بالإمبراطور، بل حتى المذاهب، فمن أصل 13 مجتهدا في العالم الإسلامي لم تنتشر سوى أربعة بقوة السلطان كما في المالكية في المغرب والبكتاشية عند بني عثمان، ويشبه في هذا اللوثرية في ألمانيا التي قادت إلى حرب الثلاثين سنة ورسخت البروتستانتية واعتبرها ماكس فيبر روح التحول في كتابه «روح الرأسمالية والأخلاق البروتستانتية». وفي التراث الإسلامي أن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن. وينص القرآن على قانون التدافع بل والقتال المسلح (القوة العارية) لحماية الرأي كي لا تكون فتنة، وهو أمر اختلط مع مفهوم الجهاد فوجب فك الارتباط. واستفدنا من الجزائري مالك بن نبي تفصيله عن الفرق بين فعالية الفكرة وصدقها، فلا يشترط لصدق فكرة أن تكون فعالة، والعكس كذلك، فقد تنتشر فكرة غير صادقة لوجود فعالية لنشرها. يبدو أن كل فكرة مهما بلغ سخفها تنتشر ويجتمع حولها الناس إذا توفر النشطاء والمال والسلطة وضعفت المقاومة. كما انتشر حزب التحرير في أقصى الأرض في هولندا وأندنوسيا بعد أن مات في الشرق الأوسط، والمورمون في كوريا واليابان، والتشيع في إيران، والسلفية في الخليج؛ أو البعث والتشيع في سوريا جنبا إلى جنب مع الفكر السني التقليدي الخرافي، بل وحتى الشاذ، شريطة أن يكون واعظا للسلطان، مؤمما في أقنية الدولة كما في معاهد لتحفيظ القرآن التي أنشأها الأسد الكبير. تفيد العلوم الحديثة بتخليها عن المطلقات (Absolutisms) وحطمت نسبيةُ آينشتاين الزمانَ والمكانَ المطلقين عند نيوتن، فولد عالم جديد يمشي بساقين جديدتين من الكوانتوم والنسبية، ولا يخرج عن هذا مفهوم الحق والقوة المطلقين. وتعلمنا من عالم الاجتماع الوردي حكمته حين يسمع من يتحدث عن الحق والعدالة والمنطق ألا نصغي إليه كثيرا. وحسب الوردي، فالعقل عضو للبقاء مثل ساق النعامة ودرع السلحفاة وناب الأفعى! أنا شخصيا أرتاح لأمثلة القرآن، فهو يرى أن الكلمة الخبيثة تكبر وتصبح شجرة هائلة، وما تختلف به عن الشجرة الطيبة أنها تجتث من فوق الأرض ما لها من قرار. ومنه فالقرآن يرى أن ما ينفع الناس يمكث في الأرض وأن الزبد يذهب جفاء، كذلك يضرب الله مثل الحق والباطل. حاليا سقط تحت نظرية الدومينو ثلاثة أباطرة في عالم العرب سوف تتبعهم أعداد أخرى، الله أعلم بها، وشرارة سوريا لن تبقى في سوريا بل ستحرق قم وقلب التنين الصيني. الأكيد أن كل طاغية يرسم مصيره بريشته، فمن رسم أسطره بالدم كانت روايته دموية جدا ونهايته دموية جدا جدا.. وقل كل متربص فتربصوا فسوف تعلمون من أضعف ناصرا وأقل عددا. حاليا، يهدد الأسد الصغير بتفجير العالم لو هاجمه الغرب، وهي قصة تحكي ارتجاج مفاصله هلعا ونكبا، كما كانت قصة القذافي من قبل. ورد في قصة الذئب والثعلب أن الذئب سقط في الفخ، فمر به الثعلب شامتا! نظر إليه الذئب منكسرا حائر النظرات وحديد الفخ قد أثر في جنبه، وقال: يا أبا حصين يقولون إن القيامة اقتربت، هل عندك خبر عنها؟ أجاب الثعلب المكار: يا صديقي أما دنو القيامة فلا علم لي به، ولكن الأكيد أن قيامتك قامت... ألا ترون معي أن قيامة الأسد قامت، وزلزلت الأرض زلزالها وأخرجت الأرض أثقالها، وقال الشعب ما لها، يومئذ تحدث أخبارها بأن البعث تدمر وعائلة الأسد انقرضت إلى غير رجعة غير مأسوف عليها..