سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
«الكتابات السياسية» لمحمد عبده أو هكذا تحدث الإمام في السياسة الملعونة تبقى الأمة العربية الإسلامية في مسيس الحاجة إلى قراءتها للوقوف على فكر مجدد سبق زمانه
كتاب "الكتابات السياسية" للإمام محمد عبده، الذي يوزع مجانا مع عدد مجلة "الدوحة" لشهر أبريل الحالي، كتاب مهم ليس لكونه يعيد صورة مثقف بعمامة يتحدث من داخل الدين بكل جرأة، ولكن لأنه يجعلنا نقف أمام واقع يبدو أنه يصر على الثبوت وعدم التغير، فما أشبه قضايا اليوم بذاك الأمس الذي استيقظ فيه العالم العربي والإسلامي على صدمة الحداثة والوقوف على حقيقته، التي كان يخفيها تحت بطولات الماضي. لقد اكتشف العرب أنهم متخلفون عن الركب. كما تكمن أهمية الكتاب أيضا في كون نقاشات ورؤى مفتي الديار المصرية تجاوزت حدود "أم الدنيا"، التي كان كل ما يحدث فيها يبلغ صداه باقي العالم العربي والإسلامي. ويعد هذا الكتاب هو الثاني الذي تقدمه سلسلة "كتاب الدوحة" للإمام المصلح المجدد محمد عبده، ويضم طائفة من مقالاته السياسية. تتعلق المقالات بوقائع الحياة السياسية ومعاركها في نهايات القرن التاسع عشر، لكنها لم تزل صالحة للقراءة في أيامنا هذه، بل إن الأمة العربية والإسلامية في أمس الحاجة لتأملها اليوم، إذ تكشف عن رؤية هذا الإمام الإصلاحي لدور الدين في تصريف حياة الناس وشؤون الدولة. صدرت مجموعة الكتابات السياسية هاته مع مقدمة مميزة بقلم المفكر الإسلامي محمد عمارة. يقع الكتاب في 223 صفحة متوسطة القطع مع لوحة خطية للغلاف صممها الفنان العراقي صباح الأربيلي تقول: «أعظم الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر». جاءت كتابات الإمام محمد عبده السياسية تحت أربعة عناوين، هي: «ما قبل الثورة العرابية»، و»في الثورة العرابية»، و»مفكرة الأحداث العرابية» و»في السجن». استهل محمد عمارة مقدمته للكتاب، التي جاءت تحت عنوان: «هكذا تحدث الأستاذ الإمام»، بكلمة تفصح في الحقيقة عن مشروع الرجل الذي ناضل من أجله طيلة عمره، فهي تلخص كثيرا من الأهداف التي سعى إلى تحقيقها. وكتب محمد عبده «لقد ارتفع صوتي بالدعوة إلى أمرين عظيمين: الأول تحرير الفكر من التقليد والثاني إصلاح أساليب اللغة العربية في التحرير. وهناك أمر آخر كنت من دعاته والناس جميعا في عمى عنه وهو التمييز بين ما للحكومة من حق الطاعة على الشعب وما للشعب من حق العدالة على الحكومة». ويضيف «نعم كنت ممن دعا الأمة المصرية إلى معرفة حقها على الحاكم.. فالحاكم وإن وجبت طاعته هو من البشر الذين يخطئون وتغلبهم شهواتهم ولا يرده ويوقفه إلا نصح الأمة له بالقول والفعل». وقد ألح محمد عبده على أمرين أساسين لأنه رأى خيطهما بيديه. يكتب «ولا أبرح أدعو إلى عقيدتي في الدين، والإصلاح اللغوي». أما بالنسبة إلى قضية الحكومة والمحكوم فهو أمر «تركته للقدر يقدره، وليد الله بعد ذلك تدبره، لأنني عرفت أنه ثمرة تجنيها الأمم من غراس تغرسه وتقوم على تنميته السنوات الطوال، فهذا الغراس هو الذي ينبغي أن يعنى به الآن». والحقيقة أن الإمام محمد عبده لم يتخلى عن النضال السياسي والقيام بدور «المثقف العضوي»، بل راهن على تكوين الأرضية الصالحة لذلك، والتي يكون الشباب هو غرسها ولا شك. وفي تقديمه للكتاب رأى محمد عمارة أن الحملة الفرنسية كانت بمثابة الزلزال. إذ يكتب «كانت الحملة الفرنسية على مصر 1213 ه /1798 م بمثابة الزلزال الذي أحدث صدمة حضارية لدى المصريين. لقد شابهت صدمة اللص الذي نبه صاحب الدار إلى الخلل البنيوي القائم في المنزل الذي يعيش فيه». ويضيف موضحا «صحيح أن هذه الغزوة لم تكن جديدة في ممارسة العنف المفرط الذي مارسته سابقتها الصليبية... لكن الحملة الفرنسية البونابرتية التي مثلت الامتداد للعنف الصليبي تميزت عن سابقتها تلك بأنها قد جاءت على بلادنا بفكر النهضة الأوروبية الحديثة وإنجازات وتقنيات الثورة الصناعية وفلسفة العدالة الغربية. جاءت مع المدفع بالمطبعة والصحيفة والبعثة العلمية». ويستدرك عمارة بأن «أوروبا الاستعمارية قد اجتمعت -على رغم تناقضات دولها وإمبراطورياتها- على ضرب المشروع النهضوي الذي بناه محمد علي والذي بنى فيه «دولة» كبرى سعت إلى تجديد شباب الشرق وإنقاذه من التخلف العثماني الذي فتح الأبواب أمام الغرب الاستعماري كي يلتهم ولايات دولة الرجل المريض». ويضيف «عندما حاصرت أوروبا -مستعينة بالسلطان العثماني- «دولة» محمد علي بمعاهدتي لندن سنة 1840 وسنة 1841 انتقلت جذوة التنوير والتجديد من «الدولة» إلى «الأمة» فتبلور تيار التنوير الشعبي الذي قاده جمال الدين الأفغاني 1254-1314 ه/ 1838-1897 م، والذي هندس بناءه الفكري الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده1266-1323 ه/ 1849-1905 م، والذي رابط على ثغور مناهج الفكر وإحياء ملكات الاجتهاد والتجديد وإصلاح المؤسسات، التي تصنع عقل النخبة والصفوة في الأزهر والمعارف والمساجد والأوقاف والقضاء لتأخذ الأمة طريقها بالتدريج إلى إفراز الدولة الرشيدة التي تحكم الشورى وترعى العدل بين الناس». ويشرح عمارة الوضع العام، الذي كان يحيا فيه محمد عبده «كان العقل الإسلامي في مصر يتنازعه تياران: أولهما ينكفىء على الموروث الذي كتب أغلبه في عصور التراجع الحضاري، والذي خلا من الإبداعات المتوهجة لعصر الازدهار والاجتهاد... وثاني هذه التيارات تيار الوافد الغربي الذي رفض أصحابه هذا الموروث وخافوا منازلة شيوخ الأزهر على أرض التجديد وآثروا استعارة النموذج الغربي في جملته بديلا وسبيلا للتقدم والنهوض». ويضيف عمارة «وهنا.. وأمام هذا الاستقطاب الحاد بين أهل الموروث وأهل الوافد.. جاء الدور الرائد والمميز للإمام محمد عبده في حركة الإصلاح. جاء دور التيار الوسطي ينتقد الموروث ويختار منه الثوابت والمناهج التي تجعل لهذا الموروث فعالية في إصلاح الواقع واستشراف المستقبل، والذي يميز أيضا في الوافد بين النافع الملائم الذي هو «حكمة» تمثل ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق الناس بها وبين الخصوصيات الغربية التي أفرزتها معالم طريق التطور التي عرفت الكهانة الكنسية والدولة الثيوقراطية وما أحدثته من فلسفات وضعية ومادية وقطيعة معرفية مع الدين». واستدل عمارة على موقف محمد عبده الوسطي، الذي ميز موقفه الفكري ومنهجه الإصلاحي، بقول الإمام: «لقد خالفت في الدعوة إلى الإصلاح رأي الفئتين العظيمتين اللتين يتركب منهما جسم الأمة: طلاب علوم الدين ومن على شاكلتهم وطلاب فنون هذا العصر ومن هو في ناحيتهم». ويوضح أن كل ذلك ظهر بجلاء في إبداعات محمد عبده الفكرية، حيث إن هذه الوسطية هي منهاج الإسلام، وخصيصة أمته. يقول محمد عبده:»فلقد ظهر الإسلام لا روحيا مجردا، ولا جسديا جامدا، بل إنسانيا وسطيا بين ذلك، آخذا من كلتا القبيلتين بنصيب، فتوافر له من ملاءمة الفطرة البشرية ما لم يتوافر لغيره، ولذلك سمي نفسه دين الفطرة، وعرف له خصومه اليوم، وعدوه المدرسة الأولى التي يرقى فيها البرابرة على سلم المدنية». ويؤكد عمارة أنه في سبيل تحديد «موقع الوسطية الجامعة بين النافع من الموروث والنافع من الوافد سعى الإمام محمد عبده إلى تحرير مصطلح «السلف»من أسر تيار الجمود والتقليد. فالسلف الصالح هو المنابع الجوهرية والنقية - البلاغ القرآني والبيان النبوي لهذا البلاغ القرآني ومناهج النظر في هذه المنابع قبل ظهور الخلاف الذي اتسم في أحيان كثيرة بشغب الفرق وتعصب المتكلمين.. لذلك وجب التمييز بين السلفية في الدين وثوابته وبين المستقبلية في فقه الواقع والمستجدات. وفي هذا المنهاج المتميز قال الأستاذ الإمام «يجب تحرير الفكر من قيد التقليد وفهم الدين على طريقة سلف هذه الأمة قبل ظهور الخلاف والرجوع في كسب معارفه إلى ينابيعها الأولى والنظر إلى العمل باعتباره قوة من أفضل القوى الإنسانية، بل هي أفضلها على الحقيقة». كما أشار عمارة في تقديمه الشامل إلى نظرة عبده للنهضة الأوروبية. إذ أكد أن الإمام عبده أنصف «هذه الحضارة التي كشفت الكثير الذي ارتقى بحياة الناس وخفف آلامهم ووفر لهم سبل التقدم والرفاه.. لكنه عاب سيادة الطابع المادي في هذه النهضة الأوروبية وغلبة الطابع الدنيوي وغيبة الدين الذي مثل ويمثل الفطرة الإنسانية السوية». وفيما يشبه الرد على من ألبس لبوس الكهانة على الفكر الديني الإسلامي كتب عمارة وهو يتتبع مفاصل كتابات محمد عبده «كان الأستاذ حريصا الحرص كله على نفي الكهانة عن الفكر الديني الإسلامي، وعلى نفي الثيوقراطية عن الدول الإسلامية ومؤسساتها...فالإسلام لم يعرف تلك السلطة الدينية التي عرفتها أوروبا، فليس في الإسلام سلطة دينية سوى سلطة الموعظة الحسنة». ويذكر أنه إذا كان الشيخ رفاعة الطهطاوي قد كان أول من ارتاد ميدان الدعوة إلى تحرير المرأة –بالتعليم والعمل- فإن محمد عبده كان أبرز من فصل في انتصار الإسلام لهذا التحرير. وبخصوص السياسة التي كتب فيها محمد عبده كثيرا، بل انغمس فيها تارة ثم طلقها ولعنها تارة أخرى يجلي محمد عمارة ذلك موضحا بأن «مزاج» محمد عبده الرجل كان «منحازا للمقولة التي تقول: «كما تكونوا يولى عليكم». لذلك كان تركيزه على سياسة «الأمة» كي تفرز «الدولة» الراشدة، فالأمة عنده قبل الدولة والتربية عنده قبل السياسة وتربية الأمة هي السياسة الحقيقية التي دعا إليها ومارسها طوال حياته». ويضيف بأن عبده انغمس انغماسا شديدا في سياسة الدولة عندما كان تحت سلطان أستاذه جمال الدين الأفغاني، الذي كان من أنصار «كما تكونوا يولى عليكم، ولكن كما يولى عليكم تكونوا». ولم يفت عمارة التأكيد على تأثير فكر محمد عبده على فضاءات وشخصيات مختلفة، ومن ضمنها المغرب. إذ يؤكد في هذا الصدد «وفي المغرب العربي سلكت حركة الإصلاح على نهجه، بقيادة المجاهد المجدد الشيخ علال الفاسي». وكتب محمد عبده في إحدى مقالاته المنشورة ضمن الكتاب: «إنما تسعد البلاد، ويستقيم حالها، إذا ارتفع فيها شأن القانون، وعلا قدره، واحترمه الحاكمون قبل المحكومين، واستعملوا غاية الدقة في فهم فصوله وحدوده، والوقوف على حقائق مغزاه، وسهروا لتطبيق أعمالهم جزئية وكلية على منطوقه الحقيقي ومفهومه. عند ذلك تحيى البلاد حياة حقيقية، وتسري فيها روح السعادة، وتهطل سحائب الرحمة، فتخصب بها أرض الثروة، لكون جميع الأعمال على اختلافها حينئذ متجهة إلى غاية واحدة، هي النفع العمومي المنقسم على كل فرد من أفراد الرعية على التساوي، كل بمقدار عمله».