ولي العهد الأمير الحسن يستقبل الرئيس الصيني بالدار البيضاء الذي يقوم بزيارة قصيرة للمغرب    المغرب يدعو إلى هامش أكبر من الاستقلالية المادية لمجلس حقوق الإنسان    تحطم طائرة تدريب يودي بحياة ضابطين بالقوات الجوية الملكية    متابعة موظفين وسماسرة ومسيري شركات في حالة سراح في قضية التلاعب في تعشير السيارات    هل يؤثر قرار اعتقال نتنياهو في مسار المفاوضات؟    عشر سنوات سجنا وغرامة 20 مليون سنتيما... عقوبات قصوى ضد كل من مس بتراث المغرب        رسميا: الشروع في اعتماد 'بطاقة الملاعب'    أبناء "ملايرية" مشهورين يتورطون في اغتصاب مواطنة فرنسية واختطاف صديقها في الدار البيضاء    الحكومة توقف رسوم الاستيراد المفروض على الأبقار والأغنام    الصحراء: الممكن من المستحيل في فتح قنصلية الصين..        المغرب التطواني يقاطع الإجتماعات التنظيمية مستنكرا حرمانه من مساندة جماهيره    أول دبلوم في طب القلب الرياضي بالمغرب.. خطوة استراتيجية لكرة القدم والرياضات ذات الأداء العالي    الحزب الحاكم في البرازيل يؤكد أن المخطط المغربي للحكم الذاتي في الصحراء يرتكز على مبادئ الحوار والقانون الدولي ومصالح السكان    تعيينات بمناصب عليا بمجلس الحكومة    مجلس الحكومة يصادق على مشروع مرسوم بوقف استيفاء رسم الاستيراد المفروض على الأبقار والأغنام الأليفة    "بتكوين" تقترب من 100 ألف دولار مواصلة قفزاتها بعد فوز ترامب    الرباط : ندوة حول « المرأة المغربية الصحراوية» و» الكتابة النسائية بالمغرب»    المنتدى الوطني للتراث الحساني ينظم الدورة الثالثة لمهرجان خيمة الثقافة الحسانية بالرباط    بعد غياب طويل.. سعاد صابر تعلن اعتزالها احترامًا لكرامتها ومسيرتها الفنية    القوات المسلحة الملكية تفتح تحقيقًا في تحطم طائرة ببنسليمان    استطلاع: 39% من الأطفال في المغرب يواجهون صعوبة التمدرس بالقرى    "الدستورية" تصرح بشغور مقاعد برلمانية    تناول الوجبات الثقيلة بعد الساعة الخامسة مساء له تأثيرات سلبية على الصحة (دراسة)    بإذن من الملك محمد السادس.. المجلس العلمي الأعلى يعقد دورته العادية ال 34    المغربيات حاضرات بقوة في جوائز الكاف 2024    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الجمعة    الاستئناف يرفع عقوبة رئيس ورزازات    المركز السينمائي المغربي يقصي الناظور مجدداً .. الفشل يلاحق ممثلي الإقليم    مؤشر الحوافز.. المغرب يواصل جذب الإنتاجات السينمائية العالمية بفضل نظام استرداد 30% من النفقات    طنجة.. توقيف شخصين بحوزتهما 116 كيلوغرام من مخدر الشيرا    ميركل: ترامب يميل للقادة السلطويين    لأول مرة.. روسيا تطلق صاروخا باليستيا عابر للقارات على أوكرانيا    زكية الدريوش: قطاع الصيد البحري يحقق نموًا قياسيًا ويواجه تحديات مناخية تتطلب تعزيز الشراكة بين القطاعين العام والخاص    وزارة الإقتصاد والمالية…زيادة في مداخيل الضريبة    ارتفاع أسعار الذهب مع تصاعد الطلب على أصول الملاذ الآمن        رودري: ميسي هو الأفضل في التاريخ    أنفوغرافيك | يتحسن ببطئ.. تموقع المغرب وفق مؤشرات الحوكمة الإفريقية 2024    ارتفاع أسعار النفط وسط قلق بشأن الإمدادات جراء التوترات الجيوسياسية    بعد تأهلهم ل"الكان" على حساب الجزائر.. مدرب الشبان يشيد بالمستوى الجيد للاعبين    8.5 ملايين من المغاربة لا يستفيدون من التأمين الإجباري الأساسي عن المرض    مدرب ريال سوسيداد يقرر إراحة أكرد    انطلاق الدورة الثانية للمعرض الدولي "رحلات تصويرية" بالدار البيضاء    الشرطة الإسبانية تفكك عصابة خطيرة تجند القاصرين لتنفيذ عمليات اغتيال مأجورة    من شنغهاي إلى الدار البيضاء.. إنجاز طبي مغربي تاريخي    تشكل مادة "الأكريلاميد" يهدد الناس بالأمراض السرطانية    اليسار الأميركي يفشل في تعطيل صفقة بيع أسلحة لإسرائيل بقيمة 20 مليار دولار    شي جين بينغ ولولا دا سيلفا يعلنان تعزيز العلاقات بين الصين والبرازيل    جائزة "صُنع في قطر" تشعل تنافس 5 أفلام بمهرجان "أجيال السينمائي"    تفاصيل قضية تلوث معلبات التونة بالزئبق..    دراسة: المواظبة على استهلاك الفستق تحافظ على البصر    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    غياب علماء الدين عن النقاش العمومي.. سكنفل: علماء الأمة ليسوا مثيرين للفتنة ولا ساكتين عن الحق    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الشريعة بمقاصدها وأدلتها وأحكامها تعدل وتوجه إلى العدل
علال الفاسي العالم المجتهد
نشر في العلم يوم 05 - 09 - 2010

نواصل عبر الصفحة الأسبوعية نشر هذه المواد التي ترصد كتابات خاصة عن المرحوم الزعيم علال الفاسي بمناسبة الذكرى المائوية لميلاده (1910 2010) وقد اخترنا من كتاب قطوف دانية من فكر علال الفاسي مادة «علال الفاسي العالم المجتهد» للأستاذ محمد بلبشير الحسني التي يرصد فيها مواقف وأفكار وتعليقات في علاقة القانون بالشرع الإسلامي.
نواصل عبر الصفحة الأسبوعية نشر هذه المواد التي ترصد كتابات خاصة عن المرحوم الزعيم علال الفاسي بمناسبة الذكرى المائوية لميلاده (1910 2010) وقد اخترنا من كتاب قطوف دانية من فكر علال الفاسي مادة «علال الفاسي العالم المجتهد» للأستاذ محمد بلبشير الحسني التي يرصد فيها مواقف وأفكار وتعليقات في علاقة القانون بالشرع الإسلامي.
عرف الأستاذ علال الفاسي كرجل سياسي وزعيم وطني يرجع له فضل كبير في تحرير البلاد، وعرف كعالم سلفي ملأ الدنيا كتابة وخطابة منذ سن مبكر، وعرف كمشارك في كثير من ميادين الأدب والفكر، وكشاعر ورجل اقتصاد واجتماع. ولكن قليلا ما أبرزت مزاياه كمفكر مجتهد في ميدان التشريع الإسلامي، فقد اشتهر علال الفاسي بعبقريته الفذة وبنظرته البعيدة النافذة.
فبثقافته الإسلامية الواسعة المتينة، حيث يعد من أفواج العلماء الذين درسوا في جامعة القرويين على شيوخ ذوي شهرة كبيرة وحصلوا على علم غزير، وبذكائه الحاد، وروحه الوثابة المبكرة، إذ بدأ يقرض الشعر الوطني الحماسي وهو ابن أربعة عشرة سنة، بهذه الأوصاف المتميزة، وهذه الطاقة القوية، تفوق علال وذاعت شهرته.
وإذا أضفنا إلى هذه العناصر الذاتية للمرحوم علال عوامل أخرى خارجية تركت في نفسه أعظم الأثر، وهو طالب في عنفوان الشباب في النصف الثاني من العشرينات، ونعني بها حرب التحرير الريفية التي تزعمها محمد بن عبد الكريم، وريح الدعوة الى الاجتهاد والانعتاق من الاستعمار والتخلف والجهل، التي قدمت من المشرق وبدأ نسيمها يحرك النفوس في المغرب ، تجلت لنا شخصيته الفذة.
عرف علال قدره مبكرا، وعقد العزم، وتصدى لكثير من التحديات التي واجهته هو ورفاقه، فكافح كما هو معلوم ضد الاستعمار والشعوذة والتزمت والطرقية والجهل، كفاحا مستميتا بالقلم والعمل المتواصل.
والذي يهمنا في هذا الموضوع هو جانب الجهاد بالقلم والفكر، ولاسيما ما يتعلق بالشريعة . فعلال، كان بنظرته الشمولية البعيدة، لا يفرق بين ضرورة تحرير البلاد من السلطة الأجنبية وتحريرها من التخلف والجهل والانحراف، ولذلك فالحركة الوطنية التي كان يتزعمها عرفت منذ بدايتها بعدم الفصل بين الوطنية والدعوة إلى السلفية أي بالجهاد في الواجهتين معا.
وعندما نفي علال في أواخر الثلاثينيات ، كانت بذور كل من الروح الوطنية والسلفية قد زرعت وبدأت توتي ثمارها، إذ عمت البلاد فورة من الوعي والحركة المباركة. أما علال فينتظره أمر آخر، فستسنح له فرصة النفي لمدة تسع سنوات كي يطعم ثقافته الإسلامية بالثقافة الأجنبية وسيوسع مداركه، ويفكر ويمعن في التفكير، في قضايا المغرب والعالم العربي والإسلامي، وسيكتشف أن الشقة اتسعت بين الإسلام والمسلمين لانحرفهم عن تعاليم الإسلام وروحه، وأن الضربات قد توالت على الإسلام بغرض تشويهه والافتراء على عقيدته وشريعته، والدسائس قد حيكت ضد المسلمين لإبعادهم عن دينهم، بل لخلق عُقد في نفوسهم اتجاهه، ومحاولة تعبئة نفوسهم بعد فراغها ببديل يمسخ عقولهم ويشوه أفكارهم ويجعلهم فريسة طيعة هم وأراضيهم.
وزاد اقتناع علال بأن المعركة شديدة (معركة التحرير السياسي) على أن ما هو أشد منها يكمن في معركة العقول. وتصدى لهذه المعركة، وقد تزود بأسلحة إضافية من توسيع المعرفة وترسيخ التفكير وضبط المنهج، خلال منفاه الإجباري في الكابون، ومنفاه الاختياري في المشرق العربي.
وعاد إلى بلاده بعد أن حصلت على استقلالها، وبالرغم من أن الوحدة الترابية لم تكتمل، فلا بد من بناء الاستقلال وتحصينه ولابد من الاهتمام بالمواطن وتحريره، وخاض علال المعركة بضراوة، وقد وجد في طريقه كثيرا من التحديات من أهمها وأخطرها الغزو الفكري الأجنبي المشفوع بمسخ الفكر الإسلامي وتحقيره، فانتصب يصحح الأوضاع ويفهمها ويوضحها، في خطبه وتقاريره وكتبه ومقالاته ودروسه الجامعية.
وبفكره العملاق، الشمولي، العميق، اكتمل تصوره لحقيقة الأشياء ولحاجات عصره وأمته، وصار إنتاجه القيم يتوالى بكتب تغني شهرتها عن الحديث عنها كالنقد الذاتي والمذاهب الاقتصادية ودفاع عن الشريعة ومقاصد الشريعة ومكارمها.
والكتاب الذي يهمنا بالذات في هذا البحث هو هذا الكتاب الأخير، لأنه اصطبغ بالصبغة الجامعية، ولأنه برز فيه كمفكر مجتهد، يستطيع أن يجدد الفكر الإسلامي بما يقتضيه العصر، ولاسيما انطلاقا من الأصول وفلسفة التشريع الإسلامي.
ونظرا لسعة آفاق هذا الموضوع وتشعبه، وعدم مناسبة المقام لذلك، فنكتفي بإعطاء نبذة وجيزة عن مظاهر اجتهاد علال من خلال كتابه «مقاصد الشريعة» مكتفيا بأمثلة مقتضبة ومنتقاة من هذا الاجتهاد، مع الاعتماد أساسا على الاستشهاد بكلامه والتعليق عليه.
تناول المرحوم علال الفاسي موضوع الاجتهاد في هذا الكتاب، كعالم التزم بالروح الشمولية والنظرة التأليفية والغوص الموضوعي، فربط بين جميع عناصر الموضوع عند المسلمين وعند غيرهم، في الماضي والحاضر، وكأنه قبض على هذه الأزمنة الطويلة فضغط عليها حتى جمعها في يد واحدة، أو كأنه يحلق فوقها جميعا وقد انفلت من الزمان ليستطيع الحديث عنه شموليا والحكم عليه في مجموعه.
ثم إن علال الفاسي عاد بالحق إلى نصابه، وأعاد حلقات الفكر الإسلامي إلى سلسلة الفكر الإنساني، عبر العصور، وقد أبى خصوم الإسلام إلا إبعاده، والازدراء به والتنكر لمساهمته وعالميته.
ويجمع علال بين ما جاء في الخطاب الالهي مما يعجز العقل الانساني أن يدركه لبعد القدم وعدم وتوفر الانسان في بداية حياته الدنيوية على وسائل التواصل والتفاهم وتسجيل الاحداث كما هو شأنه اليوم، وبين الفكر الانساني في بُعديه النظري والواقعي، تلقف المعارف بدون أي عقدة، من الكتب السماوية وخاصة من القرآن، بما ثبت من حجيته القطعية وإعجازه العلمي والغيبي، ومن منابع المعرفة الانسانية على اختلافها: مع العلم أن استعمالها يحتاج إلى التثبت والنقد والحذر نظرا لحجيتها الظنية.
ومهما يكن من أمر، فالاستاذ علال الفاسي يتناول قضايا التشريع كتنظيم لعلاقات الانسان مع أخيه الانسان، ومع الله خالقه، ثم يجول بفكره عبر التاريخ مع الحضارات المتعاقبة، ومع تطور الفكر الانساني وفي كل مناسبة، يعطي لموقف الاديان، وخاصة للاسلام حقه في الاسهام التشريعي والقانوني.
وحيث ان التشريع الاسلامي هو الذي يهمه بصفة خاصة، فهو يركز بحثه في تطور التشريع الاسلامي عبر مذاهبه واجتهادات أئمته. ولا يتأخر عن إنصاف حتى من لم تبلغ شهرته شهرة أئمة المذاهب الفهقية الكبرى، لأنه يعلم أن الاجتهاد غير مقصور على أحد ولا مقصور على عصر دون عصر. وان ما يصلح لعصر ما أو لشعب ما، لا يصلح بالضرورة للعصور الاخرى أو الشعوب الاخرى، اللهم إلا ما كان من الثابت من المبادىء السامية والاخلاق الكريمة والاحكام العقائدية والتعبّدية.
وسنستعرض باختصار بعض مواقف علال وبعض تعليقاته وتوضيحاته على مختلف الآراء والمذاهب والاشارة إلى ما يرى فيه منها الصلاحية لقضايا العصر وتحدياته.
وأول ما يواجهنا في كتابه، عرضه المسهب عن نظرية القانون وتطوراتها وعن استخلاف الانسان وعن العقل بالشرع والعرف والقانون، ثم ينتقل بعد ذلك مباشرة إلى أصول الشريعة الاسلامية فيبدأ بالكتاب، كمصدر أول ثم يتبعه بالسنة النبوية وبعدها بالأدلة النظرية. وهنا تبرز عظمة علال في سعة علمه وثقافته الاسلامية وفي قدرته على الاستيعاب والنقد والمقارنة والتكيف مع الواقع المتغير المختلف. فإذا علمنا أن علالا اشتهر في الادب والخطابة كما اشتهر في العلم، وعرف بالنزاهة الفكرية والاستقامة الاخلاقية كما عرف بالتحليل والنقد، استطعنا أن نتأكد من أن علال بلغ درجة الاجتهاد وتوفرت فيه شروط الاجتهاد فحق له أن يجتهد، وحق لشعبه أن يقتدي به. وكل من عرفوه من خلال خطبه وكتاباته ودروسه تعرفوا على سلوكه المستقيم ومواقفه العملية التي لاتتناقض مع آرائه ونظرياته... وإليكم بعض ما قاله عن موضوع الاستخلاف وتطور نظرية القانون:
«يرى الاسلام ان علاقة الانسان بالله أزلية، فمنذ أراد الله خلق الكون، نادى في الازل أرواح البشرية كلها، وعرض عليها الامانة، فاعترفت بالديانة»، «ألست بربكم، قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين» (الأعرف 172).
فأعطاهم مقابل ذلك خلافة منه في الارض يتضح ذلك في قوله تعالى: «هو الذي أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها» (هود 61)، فهناك «عقد رباني إنساني هو السر في خلق الله للكون وفي تكريم الانسان وامتحانه بأنواع التكليف» ويجعل علال سر هذا العقد في النظرة الاسلامية إلى الانسان فيقول: «الانسان مركب من حيوانية هي بشريته، ومن روحانية وإنسانية هي فطرته» (1).
وجاء التذكير الالهي كمنبه للفطرة، ليهدي الى الحقيقة ويسير بالانسان تدريجيا نحو الرشد الكامل. فجاء محمد (ص) بخلاصة ما جاءت به الرسل، «وبما لم ياتوا به مما اقتضته درجة الرشد وحاجة إكمال الدين (2).
والتذكير الإلهي في الخطابات التي كلفت الرسل بتبليغها، يشتمل على أصول وتوجيهات وأحكام، وعلى ضرورة الاعتراف بالوحي والنبوة، وعلى حتمية استعمال النظر والتفكير، لبلوغ الأهداف المرسومة في العهد الرباني، وبذلك يكون الايمان مبنيا على أساس العقل، والشرع، وهو دليل الفطرة المركبة في إنسانيته، حدد المقاصد والحقوق والواجبات، فجعل الفاصل بين الخير والشر والحلال والحرام، والمخالفة تستوجب العقوبة، يقول علال: «والعقوبات التي شرعها الاسلام... هي في نظر الكثير من العلماء كفارات لما ارتكب الانسان من إثم... وهي زواجر لإصلاح حالة المجتمع وحمايته من ضعف الوجدان الانساني فيه، فسلطة القانون إذن وجدانية قبل أن تكون حكومية» (3).
وهكذا تتدخل الشريعة مرة أخرى بعد أن ظهر مفعولها في الفطرة الانسانية فترافق الانسان أثناء ممارسته لحياته في المجتمع وتحمل عصا العقوبة، بعد أن وجهت وأرشدت، على أن الغاية التي تسعى إليها دائما لم تتغير، فهي مصلحة الانسان كخليفة لله في المجتمع وفي الكون، ومسؤول أمامه.
والشرائع الالهية تتفق في أصولها العامة، ولكنها تختلف بحسب ظروفها وطبيعة الأمة المنزلة عليها، ولذا تتسم بروح المرونة.
ثم ان الشرائع زكت بعض العادات والأعراف «فالدين، يؤكد كثيرا من العادات والتقاليد التي ابتكرتها الانسانية ويكسوها ثوب الشرعية، إذا كانت لا تتنافى مع غايته وما قصد إليه» (4). والتشريع
الاسلامي أكد ما جاءت به الشرائع السماوية التي يتفق معها من حيث المصدر والمقاصد والمصالح. قال تعالى :«وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه» (المائدة 48).
وفي الصلة بين الشرع والقانون والعرف يقول علال: «فمن الفكرة الدينية نشأت الفكرة القانونية، وبطول الممارسة والخوف من الانحراف والتجديد، نشأت فكرة الخوف من الملأ الأعلى ومن التخلف عما ألفه الآباء والأجداد، فأصبحت العادة مقدسة، وتناسى الناس مصدرها... ثم تطور احترام العادة إلى تقديس المتعارف عليه، فأصبحت العادة عرفا ملزما يتبعه الناس ويخافون من مخالفته. وهكذا أصبح العرف يدل على القاعدة القانونية غير المسنونة» (5).
وان تشعب العلاقات الاجتماعية مع مرور الزمان وتطور الحضارات، وتقدم التفكير الإنساني جعل الحاجة الاجتماعية إلى التشريع وتطوير القانون تتزايد وتتفرع، لتقرب بين النظر والواقع.
إن مصدر الشريعة في الاسلام هو في مقاصدها وأدلتها الأصلية، وكذلك في الانسان نفسه بصفته مسؤولا كخليفة لله في الأرض، لأن «المقصد العام للشريعة الاسلامية، بحكم الاستخلاف الفردي والجماعي، هو عمارة الأرض واستمرار صلاحها».
والمسؤولية يتبعها الجزاء حتما وإلا كانت عبثا. ولذلك يشعر المكلف المسؤول بقوة الالزام أيضا، وفي ذلك من رفعة كرامة الإنسان، ومن إشعاره بامتلاكه لحرية المبادرة والتصرف ما يعطي للخلافة الإنسانية في الأرض قيمتها الحقيقية.
ولكن المنفذ لشريعة الله فيما يتعلق بحدوده إنسان، وهو معدن للخطإ والغفلة ولذلك تبقى مسؤولية العاصي أو الجاني كاملة أمام الله، في حالة تضليل القاضي أو استمالته، بناء على قول النبي عليه السلام: «إنما أنا بشر، وانكم لتختصمون إلي، وعسى أن يكون بعضكم ألحن بحجته من الآخر، فأقضي له على نحو ما أسمع، فمن قضيت له بشيء فإنما أقطع له قطعة من النار، فليأخذها أو ليتركها» وهذا ما يبرر التفريق بين الجانب القضائي والجانب الدياني. «فالانسان، كما يقول علال، في حاجة إلى شرعة تلجمه، ومنهاج يرشده، وعدالة تحميه حتى من نفسه» (7).
والشريعة بمقاصدها وأدلتها وأحكامها تعدل وتوجه إلى العدل، أي انها تشرك الانسان المسلم في التشريع عن طريق الاجتهاد.
ولا يعرف العدل عدلا والجور جورا بذاته كما لا يعرف الحسن حسنا والقبح قبحا بذاته بل بالصفات التي أعطتها الشرائع إياه، وبالمقاصد التي هدفت إليها باستخلاف الانسان على أن الفطرة والعقل والعرف كثيرا ما تتفق على استحسان ماهو حسن واستهجان ماهو قبيح، أو على التمييز بين ماهو عادل وما هو جائر.
«أما الشرائع، يقول علال، فلا شك أن الغرض الأساسي منها هو صلاح العالم عن طريق تكوين شرعة ومنهج يقومان على طاعة المشرع الأصلي وهو الله تعالى «فحجة الشرع لا يمكن أن تناقض العقل السليم أو المعرفة المتيقنة... كما أنه لا يتصور أن يكون هناك أصل ديني فوق ما يتصوره العقل، ويرد علال على المسيحية وعلى بعض المعتزلة فيوضح علاقة الدين بالعقل والعلم قائلا: «.. كما أنه ليس هناك عقل فوق الدين، كما يزعمه بعض المعتزلة، وانما هناك دين مطابق للعقل، وعقل مساعد للدين، وليس هنالك دين معارض للعلم وإنما هناك علم مساعد لاكتشاف حقائق الكون ودلالتها على خالقها» (8).
«واصل الأصول في القرآن، يقول علال، هو توضيح الحسن من القبيح والخير من الشر لهداية الانسان النجدين» «وهكذا تتضمن الشرعة معنى الدين، ويلتئم فيها القانون والخلق والعبادة، ومن هذا الاتصال بين ميلاد القانون كتوأم للدين وبين نموهما، أصبح من المستحيل فصل مصدرهما». والقرآن يشتمل على هداية تعبدية وهداية علمية وهداية سياسية (9).
ويعلم القرآن الانسان عدم قبول ادعاء ما لم يقم عليه دليل، وتلك أعظم الخطوات في تحرير الانسان ورفع مستواه العقلي والاجتماعي» (10).
والقاعدتان اللتان يعتبرهما علال أساس كل تشريع وكل حرية ان الأصل في الأشياء الاباحة، («هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا»)، وان الأصل في الانسان البراءة («فطرة الله التي فطر الناس عليها») (11).
ويتحدث عن الاسرائيليات الجديدة وهي ما تسرب إلى عقول المسلمين من الاستعمار الغربي والأفكار المسيحية الكنسية كرياسة الدولة بين الحق الالهي وسيادة الشعب، والانسان بين الخطيئة الأصلية وبين التحرر من القضاء والقدر، والمرأة بين الجسم الملعون الذي لا روح فيه وبين ملاك مقدس).
ويتبع علال الطريقة المنهجية الحديثة، فيعرض الأحداث أو القضايا ويستعرض ما قيل في شأنها قديما وحديثا ويناقش هذه الأقوال من حيث المبادئ والمواقف، وينتصر لهذا القول أو ذاك أو يأتي برأيه الخاص معللا إياه بالحجج العقلية أو النقلية أو هما معا، وكثيرا ما تأخذ آراؤه بالاعتبار الجهود التي بذلها الفكر الإنساني والخطوات التي قطعها في البحث عن حقيقة الأشياء بالفكر والعلم، كما يربط دائما النظر بالواقع، ومع تطور الفكر البشري وتقدم العلوم تنقشع كثير من الظلمات.
ففي الدراسات القرآنية وهي كما هو معلوم، المنطلق الأول لكثير من البحوث والدراسات الأدبية والفكرية والفقهية، درس علال الفاسي القضايا المتعلقة بنص القرآن الكريم كالنسخ والاعجاز والتفسير والترجمة، وربط الدراسات الحديثة بالقديمة وأوضح وعلق وناقش واستنبط الموقف المناسب لما وصل إليه الفكر الحديث وما يجيب به عن الاشكاليات والتساؤلات والتحديات المطروحة في عصرنا الحاضر.
وفي السنة النبوية أيضا، يعرض الآراء المختلفة في حجيتها، ويناقشها ويدلي بحجج كل فريق، ويستخلص الرأي المناسب عقليا وعصريا فيقول: «واذن فلا مبرر للتخوف من العمل (بالسنة) بالدلالة الظنية»(12).
وفي معرض حديثه عن الأحاديث المتواترة يذكر مواقف المذاهب والفقهاء، وما أفضى إليه رأي الجمهور في مدى ومستوى حجية المتواتر من الحديث، فيقول مثلا: «هل يفيد التواتر العلم القطعي بالضرورة كالمشاهدة بالعيان أو إنما يفيد القطع في الاستدلال والنظر»؟ ويجيب بأن «الجمهور يرى أن المتواتر لايفيد القطع مطلقا وإنما يفيد طمأنينة فوق التي تفيدها أخبار الاحاد... وهذه الطريقة، كما هو معلوم من طرق البحث العلمي الحديث المستعملة في العلوم الانسانية والعلوم الدقيقة»(13).
ولا يتأخر علال، وهو يفصّل القول في موضوع يتعلق بالكتاب أو السنة، أو مواقف الصحابة أو رأي الفقهاء، عن ذكر الأقوال التي تبدو له أنها أرجح الأقوال، ولو كانت غريبة أو شاذة ولكنها عميقة في منطقها قوية في عللها، متمشية مع روح الإسلام، متلائمة مع مشاغل عصرنا ومقتضياته.
وهذا لايمنعه أحيانا من الاقتصار على تحليل موضوع ما ووضعه بجميع معطياته وحيثياته دون الإدلاء برأيه، وهي أيضا من الأساليب المنهجية التي يكون القصد منها التنبيه إلى مختلف معطيات الموضوع واحتمالاته وتأويلاته وأبعاده، وضرورة عدم الشرع في الاستنتاج والتطبيق، قبل تقليب الموضوع من جميع جوانبه وارتباطاته. ونجد مثالا على ذلك في عرضه لجوانب تصرفات الرسول عليه السلام حسب رأي شهاب الدين القرافي وما ينتج عن ذلك من ملابسات، وبالتالي من مواقف تشريعية وإجراءات قد تتباين او تتقارب. واستشهد على القول بالحديث المشهور: «من أحيا أرضا مواتا فهي له» قائلا هل يعتبر قول الرسول هذا تصرفا منه بالإمامة باعتباره إماما فوضت إليه السياسة العامة في الخلائق من جلب المصالح لهم ودرء المفاسد عنهم، أم بالفتوى بحكم الصلاحية التشريعية التي تجعله يفتي بما يجده في الأدلة من الأحكام الإلهية (14).
لن نستطيع في هذه الخلاصة أن نستفيض في عرض ما يتعلق بآرائه في الأدلة النظرية من إجماع وقياس واستصحاب واستصلاح وغيرها فهذا ما لاتستيغه هذه المناسبة، ولكننا سنكتفي بعرض بعض مواقفه التي تثير الانتباه، وتجعله يفتح أكثر ما يمكن من أبواب الاجتهاد، لرفع جميع تحديات العصر، وفضح مواقف، المتزمتين والجاحدين والمتآمرين والتائهين.
وهكذا يتابع علال عروضه فيتناول الاجماع مثلا فيعرفه لغة وشرعا، ويذكر أقوال من اعترفوا به ومن أنكروه، وأدلة كل فريق منهم بناء على ما جاء في القرآن والسنة، ثم يفصل قول من أخذوه بالاعتبار إذا خصصوا أو شرطوا، ويناقش أقوالهم، إن اقتضى الحال، فيقول مثلا مع من حصر الاجماع في عصر الخلفاء الراشدين: «الاجماع (في عصر الخلفاء الراشدين) أدى أعظم خدمة للاسلام إذ فتح /باب الاجتهاد والشورى وسهل مواصلة العمل الذي قام به عليه السلام»(15).
وبعد أن يذكر بأن الخلفاء الراشدين كانوا يقضون بما يقرره من حضر من علماء الصحابة، يندد بالاستبداد والجدل العقيم الشكلي، ويدعو إلى تقويم الانحراف والعودة إلى الصواب، فيقول، ولكن الاستبداد الذي أصاب نظام الحكم الإسلامي هو الذي حول التطور في تنظيم الشورى والاجماع إلى مجادلات فارغة في حجية الاجماع وإمكان وقوعه وعدم ذلك»(16).
ويلخص رأيه بتحمس المومن المجاهد المجتهد قائلا: «فالأصلح أن يترك للاجماع مهمته كنظام الشورى بين المسلمين، يرجعون إليه كلما عن لهم أمر أو حدث لهم حادث، يتبادلون الرأي ويبذلون الجهد لاستنباط الحكم من الدين بما يوافق حاجة العصر ورغبة التقدم»(17).
ويتبع نفس الطريقة في عرضه عن القياس فبعد التعريف والتحديد وعرض آراء المُقرين والمنكرين وتحليل العملية العقلية للقياس والتفصيل في ميادين وأساليب تطبيقه، يوضح أن مادة المقاصد الشرعية ترمي إلى تبيين الحكمة من كل تشريع لتحقيق التطور وصلاحية الشريعة لمسايرته في كل زمان ومكان، ويستدل على مفهوم القياس من القرآن الكريم ومن السنة النبوية فيقول ان القرآن ارشد العقول لالحاق الشبيه والنظير بمثله في مثل قوله: «ان مثل عيسى عند الله، كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون» والرسول عليه السلام قاس قضاء الحج على واجب قضاء الدين على الوارث، فأفتى لامرأة نذرت أمها أن تحج وماتت قبل أن تحج، أن تقضي الحج عن أمها.
ودافع علال عن ابن حزم، إحقاقا للحق، وإزالة لكل التباس في الحكم على موقفه المنكر للقياس فقال: «والواقع أن ابن حزم وإن شذ في إنكاره القياس فإنه لايقصد ما اتهم به من جمود، وإنما يقصد حصر الشريعة في النصوص (حيث أن النبي عليه السلام أخبرنا أن الشرع سكت عن أشياء رحمة بنا). ثم ان موقف ابن حزم رد فعل لإفراط آخرين في استعمال القياس، ويختم القول بالإشارة الى موقف كل من ابن القيم الذي دعا الى التوسط في استعمال القياس، والإمام الشافعي في ضرورة رهن استعمال القياس من لدن المجتهد، باستيفاء مجموعة من الشروط والمؤهلات (18).
ويتطرق الى مبدأ الاستصحاب والشرائع السابقة، سيرا في خط المذهب المالكي، فيقول عن الاستصحاب بأن الفطرة تدل على قبول هذا الدليل بجميع أنوع لأنه يفتح الاجتهاد أبوابا، ويقول عن حكم الشرائع السابقة: «وعندي أن مقاصد الشريعة لاتأبى أن تستفيد من تجارب السابقين ومن شرائعم إذا كانت تندرج تحت أصل عام من أصول الشريعة، وأخرى إذا أكدها الرسول، وستكون إذن شريعة لنا» (19).
ويواصل تحليله للادلة النظرية الأخرى التي قبلها بعض الأئمة ورفضها لابعض الآخر، وهو لايقف دائما عند المالكية، فكثيرا ما نجده يساند بعض آراء أئمة المذاهب الأخرى، حتى ولو كان ينفرد بها بعض أتباع هذا المذهب أو ذلك، ومن ذلك وقوفه عند مذهب أحد أئمة الحنابلة الذي عاش ما بين القرن السابع والثامن الهجري وهو الإمام الطوفي، الذي اعتبر أن المصلحة مقدمة على جميع الأدلة بناء على الحديث النبوي «لاضرر ولاضرار» فالأستاذ علال الفاسي، بالرغم من أنه لايوافق الطوفي على تقديم المصلحة على مافيه نص من الكتاب أو السنة أو الإجماع، فهو يرى أن نظرية الطوفي نظرية عظيمة الأهمية، إذ من شأنها أن تساعد على فهم أحكام الشريعة والتوفيق بين مقتضياتها وبين حاجات العصر الحاضر».
وتعرض كغيره من علماء الأصول لموضوع تقييد المصلحة بالمقاصد، وهو من المواضيع الخطيرة التي تعتبر قطب الرحى بالنسبة للمذاهب الاجتماعية والاقتصادية، والتيارات الفكرية المعاصرة، وتمس القانون العام والخاص في آن واحد.
فقد ذكر من بين قواعد تقييد المصلحة بالمقاصد تحميل الضرر الخاص في سبيل دفع الضرر العام أي بتقديم مصلة الجماعة على مصلحة الفرد، عند الحاجة. ووصف هذه القاعدة بأنها تشهد «باجتماعية الشريعة الاسلامية ومقاومتها للفردية المتطرفة». ثم استنتج منها فروعا كحق الدولة في التوجيه الاقتصادي، وحق الحجير على السفهاء الخ... (20).
وذكر كذك قاعدة «دفع المقسدة مقدم على جلب المصلحة»، وجعل مع أبي زهرة تعدد الزوجات من هذا القبيل.
وذكر قاعدة تقضي باختلاف أحكام التصرفات لاختلاف مصالحها، كضرورة شرط التوقيت في الإجارة والمزارعة وحرمته في الزواج، وعلق على هذه القاعدة بأن قال: «وهذه القاعدة بأن قال: «وهذا مبحث دقيق في فلسفة التشريع».
ثم ختم الموضوع قائلا: «ولا نريد من ذكر هذه القواعد المفيدة للمصلحة، حصرها واستقراءها وإنما نريد أن ننبه الى أن المصلح لا تتعدى مجالها، ولاتعتبر إلا إذا لم يكن هنالك في الشارع ما يدل على إلغائها أو تقديم مصلحة أخرى عليها أو درء مفسدة قبلها» (21).
ونظرا لأهمية موضوع المصلحة في مفاهيمها المختلفة وتعارض بعضها مع البعض الآخر، نجد علالا يوضح معالمها ويستجلي مقاصدها قائلا: «.... ولكن مفهوم المصلحة في الإسلام لايعني مجرد النفع الذي يناله الفرد أو الجماعة» ويضيف قائلا: «المقاصد الشرعية تعمل على تحقيق المصلحة، ولكن لاتخرج عن المقاييس التي وضعها الإسلام لمعرفة المصلحة الحقيقة من المصلحة المتوهمة أو المرجوة».


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.