وفرت المبادرة المصرية الداعية ظاهريا إلى وقف القتال في قطاع غزة مناخاً ملائماً لتصعيد الغارات وأعمال القصف الإسرائيلية لقطاع غزة، مثلما أنقذت الإدارة الأمريكية من إحراج كبير في مجلس الأمن الدولي، عندما أجهضت مشروع قرار عربي يطالب بإدانة العدوان الإسرائيلي ووقفه فوراً، تقدم به وفد وزراء الخارجية العرب الموجود في نيويورك، وكان من المؤكد استخدام المندوب الأمريكي لحق النقض «الفيتو» ضده. الحكومة المصرية تعمدت التقدم بهذه المبادرة، مستغلة وجود الرئيس الفرنسي نيكولاي ساركوزي في المنطقة، لإضفاء شراكة أوروبية عليها، مما يسهل تسويقها عربياً وعالمياً، ولكن واقع الحال يقول إنها مبادرة مصرية صرفة موحى بها أمريكياً وإسرائيلياً، بدليل أن حكومة أولمرت تلقفتها بسرعة خيالية، ورحبت بها وقررت إيفاد مبعوث عنها إلى القاهرة لمناقشتها، بينما قامت في الوقت نفسه، بإعطاء الضوء الأخضر لتكثيف الغارات الجوية على الحدود المصرية الفلسطينية (محور صلاح الدين) لفرض واقع على الأرض يُحْكم السيطرة الإسرائيلية على طول هذه الحدود. المبادرة تمت دون أي تنسيق مع حركة «حماس» وفصائل المقاومة الأخرى في القطاع، وطالبت بوقف إطلاق نار مؤقت، مساوية بين الجلاد والضحية، وموحية في الوقت نفسه بأن هناك تكافؤا بين الطرفين المتواجهين في هذه الحرب. وفي هذا مغالطة كبيرة، وتزوير للوقائع على الأرض، وتشريع للمجازر الإسرائيلية في القطاع. الصمود الفلسطيني الرائع الذي استمر لأكثر من ثلاثة عشر يوماً أحرج إسرائيل وحلفاءها في الغرب، وحشد الرأي العام العالمي في معظمه ضدهم، وفضح كل الادعاءات الكاذبة حول الديمقراطية الغربية، ومبادئ حقوق الإنسان، وكان لا بد من «طوق نجاة» لإنقاذ إسرائيل على وجه الخصوص من هذا المأزق، وليس هناك غير النظام المصري لكي يقوم بهذا الدور بكفاءة وإتقان. صور الأطفال الشهداء غطت صدر الصحف العالمية ونشرات محطات التلفزة، وأحدثت حالة من «الصحوة» في الشارع العربي، وعبأت العالم الإسلامي كله ضد إسرائيل والعالم الغربي، وهي كلها تطورات فوجئت بها دوائر صنع القرار في إسرائيل، وكان لا بد من التحرك سريعاً لتقليص الخسائر والأضرار من خلال إيجاد مخارج تمتص الغضب العالمي ولو جزئياً، مثل إعلان هدنة لثلاث ساعات للسماح بمرور بعض المعونات الإنسانية، وإطلاق بالون المبادرة المصرية لوقف إطلاق النار. إنها مؤامرة جديدة على المقاومة الفلسطينية، تنطلق من شرم الشيخ، مصدر كل الطبخات المسمومة لتركيع الأمة العربية، ونزع كل مقومات كرامتها وعزتها، وتصفية القضية المركزية الأولى بثمن بخس. الحكومة المصرية تجاوزت دور الوسيط منذ زمن بعيد عندما انحازت بالكامل إلى الطرف الإسرائيلي، وأدارت ظهرها لكل واجباتها الوطنية والأخلاقية. فلم يكن من قبيل الصدفة أن يهاتف الرئيس الأمريكي جورج بوش نظيره المصري مهنئا بمواقفه المتميزة والمقدرة تجاه العدوان الإسرائيلي الحالي على قطاع غزة. التحركات المصرية الحالية تأتي في توقيت محسوب بعناية ولتحقيق أهداف عديدة غير التي ذكرناها، نوجزها في النقاط التالية: أولا: منع انعقاد أي مؤتمر قمة عربي، سواء لدول ال«ضد» أو دول ال«مع» أي الدول المتواطئة مع العدوان الإسرائيلي أو المعارضة له. وجعل هذه المبادرة المصرية أساس أي تحرك مقبل. ثانيا: جاءت هذه المبادرة بعد نجاح المقاومة في امتصاص حالة الصدمة الناجمة عن الغارات الجوية الإسرائيلية أولا، والحرب البرية ثانيا، وتأقلمها مع هذا العدوان وبدء التصدي له، وإحداث خسائر في صفوف القوات المهاجمة. ثالثا: ظهور بوادر عن إمكانية توسيع هذه الحرب، ودخول أطراف فيها، وخاصة على الجبهة الشمالية، فلم يستبعد السيد حسن نصر الله قائد المقاومة اللبنانية، أي خيار في هذا الصدد دون أن يؤكده. رابعا: قيام بعض الدول الإقليمية المؤثرة، وخاصة تركيا، بتقديم مبادرات وتحركات لوقف الحرب، ولكن بشروط أفضل تحفظ مصالح المقاومة والشعب الفلسطيني، وزيادة الاتصالات بين طهران وأنقرة لتنسيق المواقف. خامسا: تصاعد حالة الغضب والإحباط في صفوف الجاليات الإسلامية في أوروبا، بسبب المجازر التي تستهدف الأطفال والمدنيين بشكل وحشي، ووجود مخاوف أوروبية من حدوث أعمال عنف وإرهاب، ودخول تنظيمات متشددة على الخط مثل «القاعدة» لاستغلال الموقف، وتجنيد شباب محبط لتنفيذ هجمات دموية، على غرار ما حدث في لندن ومدريد. سادسا: وقف القتال، وفق الشروط الإسرائيلية، وبعد كل هذه الخسائر البشرية، هو مكافأة للقاتل، وإهانة للضحية. ما يمكن قوله، وبإيجاز شديد، إن إسرائيل أدركت أن أهداف حربها في تغيير حكومة «حماس» في قطاع غزة من خلال الخيار العسكري لن تتحقق، كما أن وقف إطلاق الصواريخ بات مسألة شبه مستحيلة، إن لم تكن مستحيلة، وبدأ العد التصاعدي للخسائر السياسية في تزامن مع تصاعد الخسائر البشرية. إسرائيل فشلت وبعد ما يقرب من الأسبوعين في اعتقال أي من قادة «حماس»، أو الإفراج عن الجندي الإسرائيلي جلعاد شاليط، والشيء الوحيد الذي أنجزته بنجاح (لا تحسد عليه) هو قصف المدارس الآمنة، وقتل وإصابة أكبر عدد من الأطفال والمدنيين. ساركوزي تطوع لتوفير تغطية لهذا الدور الرسمي المصري بوضع اسمه شريكا في هذه المبادرة، بعد إدراكه مدى خدمتها للمصالح والأهداف الإسرائيلية، وعلينا أن نتذكر أنه أوثق صديق لإسرائيل بعد جورج بوش، إن لم يكن قبله، وعلينا أن نتذكر أنه استغل رئاسة فرنسا للاتحاد الأوروبي التي انتهت مع نهاية هذا العام، لإعطائها كل امتيازات الدول الأعضاء في الاتحاد، دون أن تكون عضوا فيه، وخاصة الامتيازات التجارية والاقتصادية والأمنية. الشعب الفلسطيني سيتجاوز هذه الحرب الدموية، وسيعيد بناء كل ما تدمر من أنفاق ومنازل، تماما مثلما فعل شقيقه اللبناني، أما ما سيصعب بناؤه وإصلاحه فمواقف أنظمة عرب الاعتدال المتآمرة على عدوان وحشي على شعب أعزل قرر المقاومة نيابة عن هذه الأمة وهذه العقيدة. المبادرة الوحيدة المطلوبة من الحكومة المصرية هي أن تفتح المعابر والحدود، وترسل الدبابات لوقف العدوان، وتنحاز إلى المقاومة في مواجهة هذه المجازر النازية، هذا هو ما يريده الشعب المصري، وهذا ما يتظاهر من أجله يوميا للتعبير عن غضبه العارم واستعداده لإرسال آلاف الاستشهاديين لوضع حد لهذه الغطرسة الإسرائيلية. أما غير ذلك فمرفوض وغير مقبول ومعيب أيضا.