جاء على لسان السيد الفاضل وزير العدل، خلال حوار تلفزيوني منذ أيام، أنه «لا توجد في الأفق جماعة منظمة تفوق جماعة الإخوان المسلمين»، مضيفا أنه إذا رحل الإخوان عن الحكم، لن يأتي سوى الجيش.. لأن الدولة يلزمها «سيف».. ومؤكدا أن القوات المسلحة مؤسسة قوية.. ولديها «سيف».. وتستطيع أن تحقق الأمن بالقوة.. «وإذا رحلت الديمقراطية، فلن يسود سوى منطق القوة»، لأن هناك دولا تقوم على «القوة» و«السيف» و«الغزوات».. خطورة هذا الكلام أنه يأتي من وزير العدل الذي يتمثل دوره الأساسي في حماية القانون وتمكينه في دولة شهدت ثورة ضد دولة اللاقانون. المشكلة الأساسية لمثل هذا النوع من التفكير ذات شقين، الأول أنه يحاول فهم الواقع الجديد بمنطق قديم وبآليات عصر انتهى ويجب مقاومة من يقاوم تجاوزه؛ أما الثاني فهو أن أصحابه لا يدركون أن هناك سننا كونية في مسألة حكم المجتمعات وإدارة الدول، تمتلئ بها كتب العلوم السياسية وأدبيات التحول الديمقراطي، وتعلمتها النخب في الدول التي شهدت تحولا ديمقراطيا ناجحا، وذلك على عكس ما تم في الدول التي شهدت تحولا ديمقراطيا فاشلا. تغيب عن أصحاب هذا التفكير عدة أمور، أولها أن ما كان قائما في مصر قبل الثورة أكبر بكثير من وجود قوة منظمة واحدة. لقد كان لدينا أحد أنواع النظم التسلطية الذي يستخدم فيه الحاكم استراتيجيات كثيرة للبقاء، منها آلية الحزب الواحد المسيطر (وهو لم يكن حزبا حقيقا وإنما آلية تدافع عن مصالح ضيقة وتجمع ثلة من المنتفعين في قيادته)، بجانب أمور أخرى كثيرة، منها: التحالف مع قوى غربية وإقليمية مؤثرة، أجهزة أمنية واستخباراتية تابعة لشخص الرئيس، أجهزة رقابية غير مستقلة، قضاء استثنائي وقضاء غير مستقل، شراء ذمم الناس والنخب بالترغيب أو إسكاتهم بالترهيب، التلاعب بالدستور والقوانين، السيطرة على العقول بإهمال وتخريب التعليم والإعلام والثقافة، وغير ذلك من أمور تمتلئ بها كتب السياسة. وقد حقق هذا النظامُ «الأمنَ» لكثير من الناس، لكن على حساب كرامة الإنسان وانهيار الدولة بالداخل وتبعية الدولة ومهانتها في الخارج. وبالطبع، لا تريد جماعة الإخوان -ولا الجيش ولا أي فصيل وطني آخر- إعادة إنتاج هذا النظام، ولن يمكن لأي فصيل -إنْ أراد- إعادة إنتاجه إلا إذا سالت أنهار من الدماء. ولا أعرف لماذا الربط بين «سيف» الجيش القادر -من وجهة نظر البعض- على تحقيق «الأمن» وبين وجود الإخوان الآن في الحكم؟ وهل لدى الإخوان «سيف» آخر لتحقيق الأمن حتى يكون الاختيار بين الإخوان أو الجيش؟ ثم ألم يحكم المجلس العسكري لمدة عام ونصف وفشل في تحقيق الأمن وفي أشياء أخرى؟ كما أن الإخوان في الحكم منذ ثمانية أشهر ولم يتحقق الأمن أيضا؟ ألا يدعونا هذا إلى التفكير في أمور أخرى تحتاجها البلاد غير وجود «سيف» الجيش أو «القوة المنظمة» لأي فصيل حتى يتحقق الأمن والرفاه؟ ألا نحتاج إلى التفكير في كيفية الوصول إلى نظام قائم على «قوة القانون» وليس «قانون القوة» وعلى دولة المؤسسات وتمكين المواطن من ممارسة السلطة وحماية كرامة الإنسان وحقوقه، بجانب التفكير في المضامين الاقتصادية والاجتماعية للديمقراطية لتحقيق العدالة الاجتماعية وتمكين الأغلبية الفقيرة والمهمشة، وفي زراعة ثقافة جديدة تزرع الأمل وفضيلة الالتزام بالقانون بعد عقود من ثقافة اليأس والرأي الواحد. ولماذا أساسا افتراض أن البلاد تحتاج إلى «جماعة منظمة» حتى يمكن أن يتحقق «الأمن» أو تسود «الديمقراطية»؟ إذا ساد هذا المنطق فلن تظهر ديمقراطيات حقة في أي مكان في العالم، إذ على الجميع انتظار وجود «أحزاب قوية» أو «جماعات منظمة» حتى نتصور إمكانية قيام ديمقراطية. لقد سارت الأمور الجيدة معا في معظم الحالات. ثم إن مثل هذا النوع من التصريحات قد يُفهم منه أنه يصب في النهاية لصالح تسييس «المؤسسة العسكرية» إذا فشلت «الجماعة المنظمة»، كما قد يُفهم منه أنه لا يختلف كثيرا عن منطق الحزب الحاكم سابقا الذي كان لا يتصور له بديلا إلا الإخوان أو الفوضى! ألم تحدث ثورة وأسقطت كل هذه المفاهيم؟ فلماذا العودة إليها؟ إن بناء النظام السياسي الديمقراطي الجديد «علم» من علوم السياسة، له قوانينه وسننه ومهاراته، وهو يحتاج إلى سياسيين ونخب تفهم الواقع وتقرؤه جيدا وتدرك أولويات الشعب في هذه المرحلة التاريخية والتي تختلف بالطبع عما كان سائدا قبل 25 يناير، وتعرف سنن الكون ومهارات بناء الدول والمؤسسات. بجانب امتلاك هذه النخب (وهذا أمر مهم للغاية) إرادة التغيير وإرادة الخروج من أسر الماضي ومقاومة من يقاوم التغيير، وامتلاك القدرة الفعلية على التغيير واستعانتها بالخبرات العلمية القادرة على ترجمة أولويات المجتمع إلى واقع ملموس والعمل على تغيير نمط ممارسة السلطة حتى يتمكن الشعب من ممارسة السلطة، وذلك على اعتبار أن بناء دولة القانون والمؤسسات سيؤدى إلى ظهور حكومات قادرة بدورها على وضع سياسات تلبي هذه المطالب والأولويات. وهناك تفاصيل أخرى كثيرة عند التصدي لمهمة بناء دولة القانون والمؤسسات الديمقراطية، ليس من بينها تخيير الناس بين تنظيم محدد والجيش. إن على وزراء مصر بعد الثورة بذل كل الجهد الممكن لمعرفة كيفية بناء مؤسسات سياسية قوية وفعّالة (برلمان وحكومة)، وأحزاب متعددة وفعّالة تمارس الديمقراطية داخلها وفي ما بينها، ونظام انتخابي منصف وفعال، ومؤسسات دولة محايدة وفعالة وغير مسيسة (شرطة وجيش وقضاء وجهاز إداري)، وأجهزة رقابة محايدة ومستقلة تماما عن السلطة التنفيذية هيكليا وماليا. بجانب كيفية إيجاد وابتكار آليات (ومحفزات وعقوبات) تدفع المؤسسات والأفراد دفعا إلى الالتزام بالدستور والقانون وترفع تكلفة اختراق القانون وتغلظها على المسؤولين، وآليات أخرى للتقريب بين الأحزاب على قاعدة المصلحة الوطنية العليا وثالثة لتوعية الناس وغير ذلك. بناء مصر الجديدة لا بد أن يتم استنادا إلى أولويات البلاد بعد الثورة ولا بد ألا يتجاهل الخبرات والتجارب الأخرى الناجحة، ولا بد أن يتم بعيدا عن الانتماءات السياسية والأوزان الحزبية وقبل التنافس السياسي بالانتخابات. لا بد من مقاومة من يقاوم التغيير، والله أعلم.
عبد الفتاح ماضي * *أستاذ مساعد في العلوم السياسية بجامعة الإسكندرية