ما هو الجنس الأدبي الأكثر ديموقراطية: الشعر أو النثر؟ يمكن أن نلاحظ ببساطة أن ليس كل الناس شعراء، ولا ينظمون مشاهداتهم وواقعهم شعرا، لكن كل الناس يعيشون الحكاية ويمارسون الحكي صباح مساء. قد يحكون حكايات واقعية من واقعهم المعيش، يرددون اليومي، يعبرون في حكي عابر عن أحداث عابرة، أو يسترجعون أمجادا قديمة، وقد يحلقون في إطار حق مفترض في الحلم في الخيال الرئيف بهم، وقد يجدون في الحكاية ما يثبتون به وجودهم . ربما الحاجة إلى الحكي لا تعدلها حاجة لغوية أو أدبية أخرى، لأن لها علاقة بالكينونة والوجود. الحكاية تعيد ترتيب تماسك الذات، تشفي وتمتع، تسعد وتمنع الرتابة، ربما تخلق حياة ثانية للكائن، لذلك فإن الحكي بشري ويومي وكوني ومستمر، وكأنه يؤكد الوجود الواقعي ويحدد معالم الكينونة، وفي بعض الأحيان يكون الحكي عن الأحداث أجمل من وقوعها الفعلي. لنبحث في الحكي عن هذا الأنا المبثوث في الخطاب في مكان ما، ينتج حقيقته الخاصة وسط الأحداث والأيام والزمان والمكان والشخوص. الأنا السارد هنا خلف الكلمات يراود أناه، منزويا في ركام ما من الكلام يلاعب المتلقي خلف الخطاب، ينتظر من القارئ المفترض أن يقتفي أثره ويتعرف على ملامحه الخفية.. هو هناك خلف حجر الاستعارة والكناية والمجاز والرمز يقاوم سطوة الأحداث والأيام الهاربة، يراوغ اللغة ليقول أنا هنا، ليطالب بحقه في الوجود في علاقات خانقة داخل الفضاء الروائي الحكائي الحياتي المتكون من زمان ومكان وأحداث وشخوص وعلاقات. أليست الذات هي منظمة العلاقات العامة والخاصة من خلال الحكي وبواسطته؟ هذا الأنا الذي يقيس أناه بالعلاقات التي ينسجها مع الغير والمفروضة عليه عبر محاور الصراع والرغبة والتواصل، يلبس كل أقنعة اللغة ويلعب بكل الضمائر حتى ضمير النحن والهو، ليظهر في صلب الحكاية كائنا هلاميا يحمل كل الأنوات الممكنة، يكون مفردا فيصير جمعا أو العكس .. وقد يتنازل الحاكي الملم بفن السرد عن أناه، ليصير مجرد سارد لأحداث يقوم بها غيره، يختفي ليظهر عبر شخصية من الشخصيات، يعلن أو يخفي تعاطفه معها من خلال الأوصاف والتعليقات، وقد يتحول في لعبة الأنوات المتجاورة إلى شخصية من شخصياته التي يمارس معها ميولات خفية من الحنين إلى الظهور الحقيقي، وقد يدركه نزوع مرضي لتأكيد الحضور المطلق. قد يتمكن من السارد لدرجة أنه يتنكر لكل الشخصيات ويلغي وجودها ليكون الشخصية التي يدور في فلكها الجميع، وكل الحوار والسرد والوصف، بل كل اقتصاد المحكي يوظف في هذا السبيل. الأنا داخل السرد والحكي كالسابح بلا ضفاف، قد لا يسمح له ذات الحكي بالانسلاخ تماما عن جلده. إذ لا بد له من الحضور بورقة تعريف شخصية كأن يعرف بوصف أو كلام خاص به في مجرى الحكي، لا بد أن تكون له حالة مدنية بين الشخوص الأخرى. في بعض الأحيان تكفي النعوت التي يضفيها على الشخصيات ليجد طريقه في اليم ظهورا، وفي أخرى لا بد له من استعمال وسائل أخرى للطفو على سطح الحكي. لا بد له من كلماته الخاصة ليكون له مسار سردي خاص به، ولا بد أن يعلن أنه الأنا رقم واحد في صلب الحكاية... و قد يتنازل سرديا عن حقوقه الحكائية للقبول بالبوح الخفيف مثل باقي الشخصيات، ويقبل بالحق في الاختلاف حتى في طرق الحكي وأساليب السرد ورؤية العالم، وأن لا حق له في أن يكون بطل فعل أو قول، ليصير ناقلا لكلام غيره، حيث الشخوص تتوادد أو تصارع ضمن منطق خاص جدا. ديموقراطية الحكي هي أن يعلم السارد أنه من بين أصوات الحكاية الحياة، التي لها كلها شرعية الوجود، لها نفس الحظوة في الحضور والوجود ومساحات الكلام.