أجرت مجلة «VH» حوارا متميزا مع محمد الناجي، السوسيولوجي المغربي، ناقشت معه جوانب كثيرة من حياته الخاصة ومساره الدراسي والأكاديمي وحيثيات اتصاله بالعمل النضالي الطلابي قبل الاعتقال والانطلاق في حياة جديدة استقرت، في الأخير، بالتدريس بالجامعة المغربية. الناجي يعتبر أحد الباحثين القلائل في المغرب والعالم العربي الذين يشتغلون على علاقة السلطة والمواطن وارتباطاتها بالتاريخ. له إصدار في هذا المجال يحمل عنوان «Le sujet et le mamlouk»، ويبقى أحد المراجع القليلة التي يمكن اعتمادها في البحث الأكاديمي في الموضوع. هذه ترجمة، مرخص بها، للجزء الأول من الحوار. - هل من أشياء احتفظت بها عن فترة النضال السياسي؟ < أشياء كثيرة عن الرجال، فيها الجميل والقبيح، والكثير من الحزن عن الأشياء التي ضاعت هباء. أجدني لا أستطيع حبس دموعي في مقلتي كلما تذكرت أصدقائي الذين قضى الاعتقال على حياتهم، لا لذنب ارتكبوه إلا لأنهم حلموا، ولأنهم اعتقدوا في إمكانية بزوغ يوم جديد، ومستقبل آخر. لم يكن هنالك من تنظيم يمكنه أن يهدد النظام القائم ولا أسلحة دمار شامل. مازالت تحضرني صورة صديق لي من القرية، حميد الزروري، الذي كانت نفسيته الهشة واضحة للعيان. رغم ذلك تعرض للاعتقال وقضى فيه سنوات عديدة، ولم يغادر السجن إلا وقد فقد عقله. كنت ألتقيه أو أراه في الشارع أو جالسا في مقهى يردد كلاما مبهما لاعلاقة له بالواقع؛ وتعود بي الذاكرة إلى كل ذلك العالم الجميل، والفتيات الجميلات اللاتي حلم بهن هذا الفتى دون أن يستطيع الضحك ملء فيه في حضورهن. خطب إحدى الفتيات قبل اعتقاله بفترة قصيرة، إلا أن حياته توقفت فجأة. توقفتُ طويلا عند حميد لأن حالته تثير فيّ الكثير من المشاعر، فحتى عندما كنا نقرر القيام بإضراب في الثانوية كان هو يبتعد عنا؛ وعندما كنا نحتج، لم يكن يشاركنا في ذلك ويبقى بعيدا عن مجموعتنا. مازلت، إلى اليوم، أرى نظرته التائهة وعدم إدراكه لانتفاضتنا. وحده، يرمز، بشكل من الأشكال، لآلة القمع اللاإنسانية. معه، كان النظام يعض ذيله. حميد هذا لم يفكر أبدا، ولو في أحلامه، في مشروع انقلابي؛ بل كان طفلا للبراديغم المهيمن ولم يفكر أبدا في أي أمر لا شرعي مهما كان بسيطا. - ماذا تبقى لك من هذه الفترة على المستوى الفكري؟ ** الحذر من التحاليل السريعة. لقد كانت الأشياء بالنسبة إلينا كمناضلين بسيطة. المجتمع المغربي كان منقسما إلى طبقات اجتماعية واضحة: البروليتاريا، البورجوازية وطبقة الفيوداليين... لقد كانت صدمتنا كبيرة، فيما بعد، عندما أدركنا أن المجتمع كان بعيدا كل البعد عن نقاشاتنا وتحليلاتنا. مازلت أتذكر مظاهرات فاتح ماي حيث كان العمال ينظرون إلينا باندهاش كبير دون أن يفهموا شيئا من شعاراتنا. بعد ذلك بوقت طويل، أدركت كم كنا بعيدين عن المجتمع الحقيقي. فهمت، كذلك، أن المجتمع المغربي كان مختلفا عن المجتمع الأوربي وأنه كان لا بد من انتظار وقت طويل قبل الخروج بتحاليل نهائية، لا رجعة فيها. ألاحظ اليوم كم للديني ولكل ما كنا نعتبره تقليدا من راهنية كبيرة. ولا أتكلم هنا عن الأحداث كما هي في وسائل الإعلام، بل عن منطق اشتغال المجتمع في وقتنا الحاضر. لا أقول إنني لم أعد ماركسي التفكير، إلا أنني ماركسي معتدل، ناضج، يزن أفكاره قبل الإفصاح عنها ويقارب ثقافة المجتمع المغربي من زوايا جديدة حبلى بالخبايا. صحيح أن سبل الحداثة متعددة، لكن سبيلنا، نحن، إليها مازال في حاجة إلى كشفه. - التقيت فيما بعد سوسيولوجيا كبيرا، بول باسكون، الذي يُقال إنك تتلمذت على يديه... < كان لقائي ببول باسكون لقاء حاسما في حياتي المهنية. فبعد تلك الفترة «البروليتارية»، استأنفت دراستي في الاقتصاد؛ وفي نهاية دراستي حدث هذا اللقاء المهم مع بول باسكون، باعتباره أستاذا للسوسيولوجيا. ولم أفارقه بعد ذلك حتى موته المأساوي. فقد كنت أنا من أوصله إلى المطار ليسافر إلى موريطانيا التي جاءنا منها خبر موته. حدث بيننا نوع من التقارب الحميمي، بل إنه عرض علي أن أشتغل معه على دار إيليغ. كانت تلك هي خطوتي الأولى في دراسة السلطة، وهو الموضوع الذي سأتأثر به فيما بعد. بدأت حينها دراسة موضوع الرسائل حول دار إيليغ. وكانت مناسبة تعمقت فيها في معرفة مؤلف مثل محمد المختار السوسي. في نفس الوقت، كنت أشتغل على موضوع العبودية وكنت مواظبا على التردد على الخزانة الملكية بالرباط. تعلمت الانضباط والمثابرة والصبر في العمل برفقته. لمست كم كان همُّ التفصيل مركزيا في عمله كما سيصير عندي أنا كذلك. تعلمت، كذلك، بجانبه كيفية تحرير وتصور البحث السوسيولوجي، كما أنني كنت منبهرا بطريقته المهنية في الكتابة. لدي ذكرى في هذا الموضوع أثرت علي كثيرا عندما كنت أحرر عملا للنشر في موضوع الفلاحين الذين لا أرض لهم. كانت تلك هي المرة الأولى التي أحضر فيها كتابا للنشر حول حالة الفقر التي كان يعيشها الفلاحون في المغرب. سلمته. وفي اليوم الموالي استقبلني في مكتبه وسلمني إياه وقد أعاد كتابته بخط يده. كان نصا نقيا، خالصا، كان كما لو أن يد صانع ماهر صاغته بكثير من المهارة. كان أول كتاب أؤلفه بتعاون معه، لكنه لم يُنشر إلا بعد وفاته. تعلمت، خلال تأليفه، أن الكتاب له سر واحد، هو العمل أولا، العمل ثانيا والعمل دائما. تعلمت معه، كذلك، كيف أبتعد عن المعتاد والعادي في الكتابة. هنا، لا بد من أن أعترف بأن العمل الذي قمت به حول إيليغ كان من قبيل العناية الإلهية. فقد كان هو الأصل، تقريبا، في كل أعمالي الأكثر عمقا. خلال ذلك، استهواني موضوع العبودية؛ وهو ما أفضى في النهاية، بعد بحث طويل، إلى كتابي «Soldats, domestiques et concubines» ، الذي قدم له الباحث الكبير إرنست غيلنر، الذي أتيحت لي فرصة التعرف إليه خلال زيارة لي لهارفارد. وقد تُرجم الكتاب إلى اللغة الإنجليزية بالولايات المتحدة. فمن خلال مقاربة بيئة إيليغ استطعت كتابة حكاية حول قائد حاحا، عبد الله أوبيهي (الكذبة القاتلة)، التي كانت الأصل في تأليفي كتابي الأخير « Le sujet et le mamelouk ». - كيف فرض موضوع السلطة هذا، الحاضر في أعمالك، نفسه عليك؟ < في إيليغ أولا، ثم من خلال فتح عيني حولي. هذا سؤال أساسي في عمل الباحث. عندما فكرت في تأليف كتابي حول رابط السلطة هذا، كانت فكرتي الأولى والأساسية هي فهم ميكانيزمات السيطرة، وسر رابط السلطة، وسر الزعيم وسلطته ونفوذه وتأثيره على محيطه وعلى خدامه. وخلافا لما قد يُعتقد، فليست سلطة زعيم كبير أو سلطة ملك هي التي أثارت فضولي في البداية، بل هي السلطة في جميع حالاتها، حتى البسيط منها. أسرة بودميا، مثلا، القاطنة في إيليغ، تتحدر من سيدي احمد وموسى وبودميا، الذي كان أميرا مهيب الجانب في منطقة سوس كلها في القرن السابع عشر. أسرة بودميا هاته طُردت من قبل العلويين ولجأت إلى الصحراء قبل أن تستعيد بعض النفوذ خلال القرن التاسع عشر مع الحسين بن هاشم. هذه، إذن، دار أميرية قديمة؛ إلا أنها لم تعد تمثل إلا نفسها في القرن العشرين. لكن، وعندما زرنا إيليغ، اندهشت للوقار الذي يتمتع به زعيم الدار، والذي كان مرفوقا دائما بعبد في تنقلاته. كانت له هيبته، التي لا شك في أنه كان يستمدها من عراقة الدار ومن القناعة العميقة التي لدى أصحابها بالانتماء إلى نخبة نادرة وُلدت لتحكم. كما أن اسم حسين، مثلا، لا يُطلق على أحد في عائلات الشرفاء اعتباطا. نحن أمام حالة صارت، اليوم، خارج تاريخ السلطة، رغم ذلك فنبتة الحكم مازالت حاضرة. هذا النوع من الملاحظات هو الذي يدعو إلى طرح الأسئلة. صحيح أن السلطة تطرح أسئلة على مستوى أوجها وتألقها، إلا أنها تطرح أسئلة أخرى على مستوى تدهورها عندما تصبح غادرة وخائنة. الملك يكون رحيما لما يكون في أوج قوته ومجده، ويعتبر نفسه فريدا لا مثيل له، وينتشي بصورته هذه، التي لا تهاب شيئا؛ فيوزع حوله الصفح والعطاء. لم تعد دار إيليغ على هذه الحال؛ بل قد صارت اليوم في خلاف مع عبيدها القدماء. هؤلاء، الذين استعادوا حريتهم وصاروا أغنياء، يريدون شراء أراض وحقوق على المياه تعود إلى الشرفاء. يبدو الأمر كما لو أن السماء هوت على هؤلاء. لحظات السلطة هاته لها أهميتها، كذلك، من حيث خباياها وديناميتها. أهمية دار مثل هاته تتمثل في كونها بقيت محنطة منذ أن أخلفت الموعد مع مستقبل الحكم على المستوى الوطني. في هذا الركن، الذي يصعب العيش فيه، والذي يوجد على مشارف الصحراء، ستولد أسرة ملكية حاكمة. مثل هذه الأمور هي ما يثير الفضول ويعطي الرغبة في معرفة ما كان سيقع ودواعي وقوع الأمور بهذا الشكل أحيانا... إنها أمور تخص الميكرواقتصاد كحقل معرفي يدعونا إلى الاقتراب كثيرا من التفاصيل. نسيت الأحداث الكبرى في التاريخ الوطني حيث لا مكان للفرد أو اليومي. هنا، نقترب من الأشخاص، ونستغرق ما يكفي من الوقت لمتابعة ذهابهم ومجيئهم، وحركاتهم؛ أي حياتهم اليومية، باختصار. لكن، ليس لهذا السبب يوجد تاريخ الأحداث. نحن دائما في إطار التاريخ الاجتماعي؛ والفرق هو أن المدخل إليه ليس هو المدخل الاعتيادي (...) إيليغ كانت، بالنسبة إلي، بمثابة مدرسة، والفضل يعود إلى بول باسكون. انطلاقا من هنا، ألفت نصي الأول حول العبودية، والذي كان يتمحور بشكل خاص حول إعادة النظر في أسطورة التعامل اللائق المحترم مع العبيد في العالم الإسلامي. تحفز باسكون لهذا النص فقام بإرساله إلى مجلة لاماليف؛ وبقي هناك 8 أشهر قبل أن يعرف الطريق إلى النشر. لأن الطابوهات كانت ماتزال قوية مقارنة باليوم، حيث يمكن نشر كتب حول القضية دون مشاكل. وبقية الحكاية معروفة... (...). - في كتابك الأخير، الملاحظ أنك اعتمدت كثيرا على الكتب كمراجع لنصك وأنك تتموقع داخل مجال واسع، بل واسع جدا؛ إذ إنك لم تعد تكتب من داخل الميكروتاريخ؟ < لقد أخطأت التقدير في سؤالك. أنا ظللت وفيا للميكروتاريخ. فالمنطلق، أولا، كان وثائق عثرت عليها في الخزانة الملكية. بعد ذلك، جمعت بعناية عددا من العناصر الضرورية لعملي وبحثت عن معاني الكلمات في القواميس بكل ما يتطلبه ذلك من تركيز وانضباط؛ وأبحرت في عدد من المجالات الضيقة لأصل إلى التاريخ الكبير. الأمر أشبه بجداول ماء تكون، في الأخير، مجرى مياه جارف. في تقديمه لكتابي، يتحدث رجيس دوبراي عما أسماه «ميكروفيزيقا السلطة». ترى، إذن، أنني بقيت وفيا لمقاربتي. - تحدثت عن الطابوهات. هل مازال منها في المغرب اليوم؟ < أكيد؛ لكنها ليست بالشكل الذي نعتقده. أنظر إلى كمّ المنشورات التي تقارب بحرية السلطة الملكية وستدرك حجم الطابو الكبير الذي سقط بين الأمس واليوم. طبيعي أن هذا لا يعني أننا أحرار في أن نقول كل شيء؛ هذه الحرية لا توجد في أي مكان آخر. لكن يمكن، للأسف، أن نضيف أن الحرية لا تنحصر في القدرة على النقد كما يشاء المرء. فالشرط الأول للنقد الحقيقي هو ذكاء ما ننتقده والحال أننا لا نهتم كثيرا، اليوم، بفهم الأشياء؛ ولا نستغرق ما يكفي من الوقت لذلك. مجتمعنا، وقد قلت هذا سابقا، لم يخضع للتحليل الكافي ولم يُساءل من حيث ميكانيزماته وديناميته واتجاهاته وتمثلاته. ولا أعتقد أن هناك شيئا ما يمنع، بمرسوم، ذكاء مجتمعنا. صحيح أن هناك طابوهات، خاصة ما تعلق بالوضع الديني. هنا غالبا ما توجد ممنوعات متعلقة بالرقابة الذاتية أكثر من ارتباطها بشيء آخر. من هذه الزاوية، بقي لنا أن ننخرط في ثورتنا الثقافية. لكن، هذا موضوع طويل لا يسعه حوارنا. عموما، يمكنني أن أقول لك إن الثقافة، بالنسبة إلي، بمعناها الواسع، صارت اليوم مسألة مركزية، هي الرافعة التي تمكننا من التحكم في مستقبلنا. - كلمة أخيرة عن الموسيقى < هي وحدها تحتاج إلى تخصيص حوار لها. إنها أكثر من شغف. بل بها وبالكتب وبزوجتي أحيا!