أجرت مجلة «VH» حوارا متميزا مع محمد الناجي، السوسيولوجي المغربي، ناقشت معه جوانب كثيرة من حياته الخاصة ومساره الدراسي والأكاديمي وحيثيات اتصاله بالعمل النضالي الطلابي قبل الاعتقال والانطلاق في حياة جديدة استقرت، في الأخير، بالتدريس بالجامعة المغربية. الناجي يعتبر أحد الباحثين القلائل في المغرب والعالم العربي الذين يشتغلون على علاقة السلطة والمواطن وارتباطاتها بالتاريخ. له إصدار في هذا المجال يحمل عنوان «Le sujet et le mamlouk»، ويبقى أحد المراجع القليلة التي يمكن اعتمادها في البحث الأكاديمي في الموضوع. هذه ترجمة، مرخص بها، للجزء الأول من الحوار. - وُلدت في قلعة السراغنة، كيف كانت طفولتك؟ < الحقيقة أنني عشت طفولة عادية، بسيطة، متقشفة وبدون مشاكل في جو مطبوع بكثير من النقاء وبكثير من اللهو البسيط والعدو الكثير في الحقول، وبكثير من القراءة والحلم. طفلا، عشت موزعا بين قلعة السراغنةوالصويرة؛ بين السهل الجاف وشمسه الحارقة، من جهة وتغارت، بريحها القوي، من جهة أخرى. تغارت، كان هو اسم شاطىء الصويرة سابقا. عندما أذكر هذا الاسم أمام صديقي حسين الميلودي يبتسم ويقول إنه لم يعد يسمعه إلا في بيتي وفي بيت إدمون عمران المالح. إنها ذاكرة في طريقها إلى الضياع؛ كلمة فرنسية، لابلاج، تحل محل كلمة بربرية! عشت طفولة مليئة بالأحداث من حيث ما يتعلق بالتربية، مع أب فقيه (المسيد) ومدرس في الوقت نفسه. كنت مواظبا على ارتياد المسيد والمدرسة العصرية في وقت واحد إلى غاية حصولي على شهادة الدروس الابتدائية. كانت طفولة مليئة بالذكريات والبادية كانت خلفيتها الطبيعية بكل زهورها وضوئها؛ عشت السعادة والانسجام الكبير مع الذات بكل الأساطير التي تؤنس عادة الأطفال في طفولتهم. كانت السماء، بالنسبة إلي، شفافة وموطنا لإلاه قوي وعادل. أعتقد أن ارتباطي بالعدل والمساواة بين بني الإنسان، كما ثورتي فيما بعد، نابعان من ذلك الإحساس، قبل اتصالي بالنظريات الاشتراكية بكثير. - هل لك أن تذكر مدى تأثير ما عشته في طفولتك عليك اليوم؟ < مؤكد أنني أعتبر بالكثير مما عشته في طفولتي، وهي أمور يزيد اقتناعي بها أكثر فأكثر اليوم. هنالك أمران مهمان على مستوى وضع تصور مجتمعي. أولهما هو الأهمية الاستراتيجية، في اعتقادي، للتربية الدينية التي تلقيتها في طفولتي الأولى. أجدني، اليوم، أدرك التأثير الإيجابي للتشبع المبكر بالدين من حيث دوره في الوقاية من الانحرافات. فمهما كانت الأسئلة التي يمكن طرحها حول الهوية ومهما كانت طبيعة قناعاتنا في سن متقدم يبقى المرء، المتشبع بالدين، مسنودا بقوة إلى قاعدة صلبة. يتعلق الأمر، طبعا، بتربية دينية جدية وليس بمطاردة الساحرات. يمكن، إذن، أن نواجه تحدي الحداثة بكل طمأنينة وليس بالهيجان كما هو الحال عند عدد من المتنورين اليوم. الوجه الثاني مرتبط بتطور المجتمع المغربي. فباعتباري أستاذا للتاريخ الاقتصادي والاجتماعي، أعرف البطء الكلاسيكي للتغيرات الاجتماعية المرتبطة بتطور القوى المنتجة. لكن بالنظر إلى طفولتي، وإطارها الاقتصادي وسياقها الاجتماعي والذهني، أدرك أن التغيرات كانت كبيرة وسريعة جدا. عشت، كما أقراني، زمن الرحا والطبخ التقليدي على نار المواقد المنصوبة مباشرة على الأرض. عانيت، أنا الآخر، من أخطار التداوي الشعبي، حتى إن نظري مازال يعاني من ذلك. كما أن الشعوذة والسحر كانا جزءا من واقعنا اليومي؛ كأن يقال لك لا يجب السباحة في هذه الساعة من النهار، لايجب الرمي بهذا الشيء أو ذاك، إلخ... أذكر بهذه الأمور لأبين أن التغيير الاجتماعي بشكل عام يستحق أن نطالعه عن قرب وأن مجتمعنا يعاني من هذه السرعة التي لا تحدث، دائما، في ظروف انسجام مثالية. - وبعد ذلك، جاءت المرحلة الثانوية في مراكش؟ < نعم، وقد كانت ثانوية راقية بالنسبة إلي حينها. تعلمت الكثير من الأشياء فيها كما اغتنيت فيها كثيرا على المستوى الفكري. اكتشفت فيها، كذلك، المسرح من خلال مسرح موليير وراسين وكورناي. تأثرت فيها، أيضا، بالبيانو، الذي كان منتصبا في جناح الاستراحة بالثانوية، والذي مازالت صورته ماثلة في ذهني. ومنذ ذلك التاريخ عملت على اقتناء بيانو من أجل أبنائي، وربما تلبية لرغبة ذلك الطفل الذي كنت. طبعا، بدأت بعد هذه المرحلة قراءة أشياء أخرى وإعادة النظر في الكثير من أفكاري. فقد كانت الثانوية عالما آخر بالنسبة إلى شخص جاء من القرية. عموما، حب الأدب، الذي لم يفارقني، أبدا، يعود إلى تلك الفترة. - بعد الباكالوريا حطيت الرحال بالرباط حيث بدأت دراسات في الطب سرعان ما تخليت عنها بسبب النضال السياسي... < نعم، عشت فترة من النضال الطلابي. الحقيقة أنني التحقت بالنضال، سنة 1969، تقريبا بالصدفة، على إثر مظاهرة طلابية كنت فيها مجرد متفرج قبل أن يُلقى علي القبض وأُقتاد إلى مفوضية الشرطة بساحة بييتري. هناك، أرادت الصدفة مرة أخرى، بسبب شعري الطويل على طريقة الهبيين، مما لاشك فيه، أن أصبح واحدا من الجماعة القيادية التي اقتيدت إلى الزنازن قبل تقديمها إلى المحاكمة. بعد أسبوع، حكم علي ببضعة أشهر موقوفة التنفيذ وأُطلق سراحي. خلال ذلك، اكتشفت الاتحاد الوطني لطلبة المغرب والحياة الطلابية التي كنت أجهلها تماما. اكتشفت، في الوقت ذاته، الأفكار الاشتراكية، فانغمست بعمق في الأدبيات الماركسية. صحيح أنني كنت أعشق الكتب قبل ذلك التاريخ، إلا أن ماركس ولينين سيحلان، لبعض الوقت، محل قراءاتي الأولى والكتاب الآخرين. هكذا قرأت بشراهة كتاب «أصل العائلة والملكية الخاصة والدولة» ل فردريك إنجلز وكتاب «Anti-Dühring» اللذين بثا في الكثير من الحماس. قرأت كذلك، بكثير من الشغف كتابي «الرأسمال» و»مساهمة في نقد الاقتصاد السياسي» لكارل ماركس دون أن ألتقط جوهرهما المنفلت، الذي لم أدركه إلا بعد وقت طويل؛ أي بعد عودتي إلى الجامعة. لقد كانت فترة رائعة تميزت بالاستكشاف الكبير، كانت لنا دفاتر نكتب عليها ملخصات الكتب التي نقرأ. وكنا فخورين بأن نرى صفحاتها تمتلىء، لأن الدفتر الذي اسودت صفحاته يعني أن صاحبه كثير القراءة. أذكُر هنا أن المرحوم عبد السلام المودن، الذي توفي متأثرا بسنوات السجن في القنيطرة والذي كان صديقا حميما لي، كان قارئا نهما. كلانا كان يفاخر بالتلويح بعمل من أعمال فلادمير إليش لينين بعد الانتهاء من قراءته قبل أن يبدأ قراءة الكتاب الموالي. ولم نكن لنحتاج إلى الكتب، لأنها كانت متوفرة. فقد كان المركز الثقافي السوفياتي –الذي حل محله اليوم مطعم ماكدونالد، وهذه علامة من علامات الزمن الحاضر- بشارع علال بن عبدالله هو مقر تزودنا بما نحتاج. كنا نشحن الكتب، من كتب غوركي إلى كتب بليخانوف وفلاسفة ماديين آخرين- في حقائب كبيرة، دون أن أتكلم عن الأعمال الكاملة للينين. كما كنا نمسح مسحا كاملا بعض المكتبات بحثا عن الكتب التي لا نجدها في مكان آخر، من قبيل المنشورات الاجتماعية بالنسبة إلى ماركس وطبعات ماسبيرو... كنت أدخل إلى المكتبة وأخرج منها بكنز من الكتب حد أننا شكلنا خزانة حقيقية يعتز المرء بها قبل أن تحتجزها الشرطة على إثر القبض على المودن. ومما لاشك فيه أنها أُلحقت بأدلة الإدانة في إحدى قضايا «المؤامرات الكبرى». - كيف كان نمط عيشكم في تلك الفترة؟ < كان من أبسط الأنماط. فقد كانت الحياة الطلابية سعيدة جدا. خبز وماء ونشيد وكتب. كنا نحلق فوق سحابة أمام المستقبل المشرق، الذي كان ينتظرنا بعد التحرير المرتقب للبروليتاريا. إلا أن الأمور تغيرت بعض الشيء عندما قررنا مغادرة الرباط والوسط الطلابي للاقتراب من الجماهير البروليتارية. هناك اتصلت من جديد بجبيهة رحال، الرفيق السابق المتحدر من قلعة السراغنة، الذي أصبح نموذجا للعامل البروليتاري. شنبه أدهشني كثيرا. دعاني إلى الأكل لدى وصولي إلى الدارالبيضاء في مطعم عمالي بالقرب من سوق الجملة. لأول مرة وجدتني في وسط عمالي مغربي. رحال كان مناضلا حقيقيا وجادا في نضاله. إلا أنه توفي بعد ذلك بسنوات في السجن. كان استقرارنا، أنا والمودن، بمنزل صغير تحاذيه الأراضي الفلاحية بسباتة. وقد كان ذلك المنزل هو الأخير في صف الأحياء بالمدينة بتلك المنطقة. كان كما تذكير بعالم القرية والريف. عشنا، هناك، حياة التقشف: أسرّة ووسائد من الحلفاء. كنا نخشى أن نبتلي بشعور الرقي البورجوازي بينما كانت صور ماركس وإنجلز ولينين وستالين وماو تسي تونغ تعتلي طاولة العمل في المنزل. لم تكن لنا كراسي. كنا نكتفي بمقاعد بسيطة لنتذكر، دائما، بأننا جنود بروليتاريون لا يغمضون العين، ونكثر من القراءة والاطلاع. لكن كل هذه الأشياء سرعان ما ستنهار مثل لعبة ورق بعد حملة الاعتقالات البوليسية، التي وضعت حدا للحلم وقضت على حياة الكثير منا.