«الجنرال الذي انتهى في قبر «يطرد التنمية يرقد جثمان الجينرال محمد أوفقير في مقبرة مهملة في ملكية عائلة لمرابط بمنطقة بوذنيب على مشارف الجزائر، في قبة بسيطة دفن الرجل الأكثر جدلا في تاريخ المغرب الحديث، منذ مدة ضاق فضاء المقبرة ب«قاطنيه» ولم يعد به متسع للدفن أو مساحة لصلاة الجنازة، ومع مرور الأيام تحولت المقبرة إلا ملاذ للمتسكعين والمشردين الذين لا يجدون حرجا في معاقرة الخمرة على بعد أمتار من قبر رجل كان مجرد ذكر إسمه يكفي لإجلاء الأحياء والأموات. دفن الجينرال في موكب جنائزي صامت بقبر في بوذنيب، بعد أن اتهم بتدبير الانقلاب «الجوي» ضد الملك الحسن الثاني سنة 1972، رغم أنه من مواليد قرية عين الشعير التابعة إداريا لبوذنيب المدينة التي كان والد الجنرال يشغل فيها مهمة باشا. يحكي سكان المدينة عن مضاعفات وجود جثمان الجينرال في جوف تربة مدينتهم ويؤكدون أن التنمية أدارت وجهها لهذه المنطقة منذ أن دفن بها أوفقير، بل إن الأمر تجاوز حدود انتماء انقلابي لمدينة أصبح مغضوبا عليها بقوة قانون الانتماء، إلى اسم أوفقير الذي أصبح مرادفا للإقصاء والعار أحيانا رغم أن دفن العسكري مرت عليه أزيد من أربعة عقود، وكثير من شباب المنطقة لا يعلمون شيئا عن القبر الذي جلب لهم الإقصاء. لذا طالبت جمعيات المجتمع المدني بجبر الضرر الجماعي، فاستجابت هيئة الإنصاف والمصالحة للمطلب وأوصت بأن يشملها البرنامج التنموي لكن شبح الجينرال أوفقير لم يبرح المكان وظل مهيمنا، ليس فقط على بوذنيب بل على مسقط رأسه قرية عين الشعير، التي عاشت على إيقاع الاحتجاجات الشعبية حتى كادت أن تتحول إلى سيدي بوزيد المغربية، إثر إقدام حوالي 35 شابا على النزوح إلى الجزائر بعد أن تخلصوا من البطاقة الوطنية، بسبب الاختناق بحبال العزلة والتهميش. فقط لأن بعضهم يحمل إسم أوفقير المتهم بمحاولة قتل الملك الراحل الحسن الثاني، والبعض يعتبر سليل أسرته والبعض الآخر لاعلاقة تجمعه بالجينرال إلا رابطة الانتماء لمدينة بوذنيب أو قرية عين الشعير التي قدر لها أن تجلد بسياط القهر رغم أن المدن لا تختار ما يخرج من أرحام ساكنتها. حسب بعض الشهادات، فإنه من النادر أن يزور شخص المقبرة المهجورة فأحرى قبر أشهر دفين بها وهو الجنيرال أوفقير، إذ تعود آخر زيارة لعقد مضى حين زار حقوقيون قبر رجل ظل يعادي حقوق الإنسان من موقعه كمسؤول أمني وظل يحصي أنفاس معارضي القصر قبل أن يقرر ممارسة المعارضة بصيغة أخرى، بينما تعمل سلطات المدينة على تعقب كل من راودته رغبة زيارة قبر الراحل لتنجز تقارير استخباراتية عن طبيعة الزيارة وتسطر النوايا وتصدر الأحكام. هذا جزء من معاناة ساكنة بوذنيب وعين الشعير من مضاعفات جثمان ونموذج لمحنة سكان قدرهم أن يحملوا في وثائقهم الإدارية اسما عائليا يتقاسمونه مع رجل لازال يعاني وهو ميت من قسوة رموز نظام كانوا يدينون بالولاء للجينرال في عز جبروته قبل أن يتحولوا إلى جلادين لكل من يمت إليه بصلة رغم أنهم يدركون بأنه «لا يؤاخذ أحدكم بجريمة الآخر»، ثم إن القانون المغربي يحاسب الشخص على أفعاله التي ارتكبها بغض النظر عن إسمه وانتمائه وليس ما في أحشاء تربة بلده من رفات.
الحسين السلاوي.. ياغريب ليك الله
قدر الحسين السلاوي فنان الشعب أن يعيش أقصى درجات التنكر من الشعب، قدره أن يعيش آخر أيامه يعاني من حيف أشخاص لطالما تمايلت رؤوسهم وهم يرددون روائعه، لكن ما أمر النزاهة مع الناس «الجداد» الذين سرعان ما تناسوا ذكراه وأصبحوا بين عشية وضحاها من هواة فن الأغنية السريعة التي لا تختلف كثيرا في طعمها عن أكلات ماكدونالد السريعة. في سنة 1951 لفظ الحسين السلاوي أنفاسه في مسقط الرأس والقلب بسلا وتحديدا بباب سبتة، انتشر الخبر كما تنتشر النار في الهشيم وهرع آلاف السلاويين والرباطيين إلى مقبرة سيدي بلعباس لإلقاء النظرة الأخيرة على فنان استثنائي. لكن مع مرور الأيام غطت طبقات الغبار الذاكرة ونسي المسؤولون دفين المقبرة إلا من زيارات أفراد أسرته وبعض عشاق فنه الخالد، ومع مرور الأيام دخل القبر في عداد المفقودين، لاسيما بعد أن جرفت عوامل التعرية عددا من القبور بدعوى مرور أربعين عاما عليها، وهو تقادم روحاني أباح الإهمال التام لمكان يفترض أن تظل له حرمته، ويظل مزارا للناس قصد الترحم على موتاهم، خاصة إذا تعلق الأمر بقبر فنان الشعب الذي مات مرة أخرى حين عبث الإهمال بشاهد قبره، بعد أن داهمت جرافة المقبرة وحولت سكونها إلى صخب، ليجد صاحب «السينية والبير» نفسه في جب عميق إسمه الجحود. وياليت الأمر توقف عند هذا الحد بل تجاوزه حين سمحت السلطات الجماعية بفتح المقبرة من جديد لدفن موتى في حفر لازالت بقايا عظام تظهر في عمقها، في استخفاف كبير بالأموات، وهو ما جعل حفاري القبور، الذين يدوسون كل يوم قبر الفنان الراحل دون أن يعيروه أدنى اهتمام، يتاجرون في هذه الأزمة بتسهيل مأمورية دفن أموات آخرين دون اعتبار للسابقين. ومن غريب الصدف أن وزير الثقافة، سلاوي الانتماء، قد سار على نهج سابقيه مكرسا الغبن الذي طال الرجل، كما تكالبت المجالس البلدية ودفنت رأسها في الرمال خوفا من مساءلة التاريخ، في زمن كان أحرى بها أن تدفن في مقبرة سيدي بلعباس، «ياغريب ليك الله».
الصويري.. مدرب النادي القنيطري في مقبرة الغرباء
قدر أحمد الصويري، الأب الروحي للنادي القنيطري، أن يلقى ربه في الأراضي المقدسة ويدفن بمكةالمكرمة، بعد أن أفنى حياته في تعليم النشء المبادئ الأولية لكرة القدم، قدر مربي الأجيال في القنيطرة أن يدفن في قبر كتبت عليه عبارة «هنا يرقد الجثمان الطاهر لمسلم مجهول الاسم والهوية» بدأت الحكاية في موسم الحج سنة 1988، حين خصصت بلدية القنيطرة بتعاون مع النادي القنيطري لعائلة الصويري تذكرتي سفر إلى الديار المقدسة من أجل أداء مناسك الحج، شكر المدرب القدير الجهة المانحة على التفاتتها خصوصا وأنه كان في نيته القيام بزيارة قبر الرسول الأعظم، وحين عاد إلى منزله غير بعيد عن حي الخبازات، اقترح على زوجته مرافقته في سفرية ليست كبقية السفريات، إلا أن الحالة المرضية لوالدته جعلت الزوجة تفضل إرجاء السفر للعناية بشؤون الأم العليلة، على أن يبيع أحمد التذكرة الثانية لتدبير مصاريف الحج. اتصلت إحدى السيدات وتدعى الشلحة بالصويري، وطلبت منه الموافقة على طلب صفة رفيق لها خلال أدائها مناسك الحج، قبل أحمد على مضض المقترح، وتوجها معا صوب مطار محمد الخامس، حيث ودعته زوجته وأبناؤه ورسموا على جبينه قبلة الوداع الأخيرة، لأول مرة شوهد الصويري بلباسه الأبيض، بعد أن ظلت البذلة الرياضية رفيقه في حله وترحاله، تعرف عليه الكثير من الحجاج القنيطريين، لأن الرجل يعتبر من رموز المدينة وأحد صناع مجدها الرياضي. منذ أن وطئت قدماه الطائرة، لم تتوصل عائلته بأي خبر عنه وكأن الأرض ابتلعته، بينما ظل حجاج المدينة يتناقلون أخبارا لا أثر فيها للمدرب الصويري. وحين أنهوا المناسك شدوا الرحال إلى وطنهم برؤوس حليقة وحقائب مثقلة بالتمر وماء زمزم والقبعات والسجادات والسبحات وغيرها من هدايا الأراضي المقدسة، انتظر أفراد عائلة الصويري أياما عديدة في بهو مطار النواصر بالدار البيضاء، إلا أن أفرغت آخر طائرة قادمة من جدة ما في بطنها من حجاج بيت الله، وتأكد أن الاختفاء أصبح أمرا مكتوبا. كانت «الشلحة» رفيقة الصويري في مناسك الحج بمثابة العلبة السوداء التي تبتلع سر الاختفاء، لكن المعلومات التي قدمتها لأفراد العائلة زادت الأمور غموضا، قالت الرفيقة إن الصويري قد ودعها حين كان الحجاج يهمون بمغادرة مكة إلى المدينة، وأنه التمس منها التغيب لبضع ساعات بحثا عن عنوان لاعب قنيطري سابق يتواجد بالسعودية، ترك حقيبة سفره وأمتعته وبعدها لم يظهر له أثر، طال انتظار الرفيقة وقررت البحث بدورها عن الصويري بعد أن انضم إليها بعض معارفه الحجاج جثمت غيمة الحزن على بيت الأسرة الذي تحول إلى مزار، يتقبل فيه أبناء وبنات الحاج التعازي في فقيد لم يمت بعد بشكل رسمي، في الوقت الذي كان يفترض فيه أن تتقبل الأسرة التهاني وتقيم أعراس الفرح. توصلت عائلة الصويري بما تبقى من أمتعة الفقيد، حقيبة سفر وأمتعة وهدايا و«بادج» يؤكد فرضية الاختفاء دون إشارة إلى هويته، وباشرت الإبنة البكر بشرى ترتيبات اقتفاء أثر والدها الذي خرج ولم يعد، اتصلت بعمر دومو بوزارة العدل الذي ساعدها في البحث عن والدها الأب الروحي للنادي القنيطري، وشرعا معا في الاتصال بالسفارة المغربية في السعودية ووزارة الأوقاف المغربية ووزارة الخارجية وغيرها من المصالح، أملا في التوصل إلى خيط يقود إلى فك شفرة الغياب غير المبرر والغريب في نفس الآن. توصلت التحريات إلى وجود جثة رجل يحمل كل المواصفات التي تتضمنها البيانات المقدمة من المصالح الديبلوماسية، وبعثت الوزارة الوصية على الحج تقريرا يتضمن تشريحا لجثة الصويري يؤكد وفاته في الديار المقدسة، بسكتة قلبية أو نتيجة الحرارة المرتفعة التي تفضي أحيانا إلى نزيف داخلي على مستوى الدماغ، بعد ستة أشهر من الانتظار تأكدت الوفاة وتبين أن الصويري اختار مرقده النهائي في الأراضي المقدسة، وهو اختيار خفف من حجم الألم الذي ظل يعتصر الأسرة المكلومة. مات الصويري بعيدا عن القنيطرة بآلاف الأميال، لكنه لم يمت في ذاكرة القنيطريين لما له من فضل على التاريخ الكروي للنادي القنيطري، فهو لم ينجب خمسة أبناء فقط، بل أنجب مئات اللاعبين الموهوبين، وآخر العنقود كان هو اللاعب الدولي السابق يوسف شيبو، لكنه لم يحظ بتكريم يليق بمكانته، فقد أقام الفريق القنيطري مباراة تكريمية، في عهد الرئيس السابق بنموسى، لم يتجاوز مدخولها 10 آلاف درهم، أما زوجة الفقيد فلازالت تتوصل بمعاش من البلدية عبارة عن راتب شهري قدره 230 درهما فقط.
طريق غير معبدة لقبر المعتمد بن عباد
في قرية أغمات التي لا تبعد عن مدينة مراكش إلا بحوالي 30 كيلومترا، يوجد قبر الملك الأندلسي والشاعر الكبير المعتمد بن عباد، وإلى جانبه قبر زوجته اعتماد الرميكية ثم ابنه، وغير بعيد عن القبر غرفة لحارس مراكشي الأصل أصبح عارفا بالشعر والشعراء. الطريق إلى قبر الفقيد وأسرته وعر، ووجودها في دليل مهنيي السياحة نادر ومستحيل، والإهمال هو عنوان هذه الجماعة القروية التي كانت تقوم مقام مدينة مراكش قبل أن تتحول إلى منطقة أثرية يزورها بين الفينة والأخرى التلاميذ بإلحاح من مدرس يعشق الشعر والشعراء ويحن لزمن الملك الفقيد. في العصر الوسيط كانت أغمات حاضرة استقر بها المرابطون أثناء زحفهم نحو المغرب الشمالي ولم يبرحوها إلا بعد اتخاذ قرار تشييد مدينة مراكش، بل إن يوسف بن تاشفين مؤسس دولة المرابطين بالمغرب اتخذها مقرا لإقامة ونفي ملوك الطوائف بعد توحيد بلاد الأندلس. خاصة المعتمد بن عباد، ملك اشبيلية، (1040 – 1095م ). كان دفين أغمات رجلا استثنائيا حين جمع بين السلطة والشعر، ووصفته كتب التاريخ «بأنه من أندى الملوك راحة وأرحبهم ساحة وبابه محط الرجال وكعبة الآمال، وله شعر غاية من الحكمة والرصانة والجمال». لكن قدر الرجل أن يواجه جيش ابن تاشفين بعد أن أبلى في الدفاع عن مملكته أعظم البلاء، ولكن كفة الحرب مالت لابن تاشفين فانتهى أمر المعتمد في قبضة جاره فحبسه في سجن أغمات المقفر بعد أن جرده من ماله وكل ممتلكاته، وتحكي كتب الأدب عن زيارة بناته له في معتقله يوم العيد ووقفن على سوء أحواله حينها قال قصيدته الرائعة التي تعتبر من خوالد الشعر الأندلسي: فيما مضى كنتَ بالأعياد مسرورا وكان عيدك باللذات معمورا وكنت تحسب أن العيد مسعدةٌ فساءك العيد في أغمات مأسورا بني ضريح المعتمد بن عباد سنة 1970 ووضعت فيه بعض مرثياته الشعرية. ومن أجمل ما كتب في دفتر الزيارات بوح شاعر سعودي، عضو مجلس إدارة نادي الأحساء الأدبي ويدعى محمد الجلواح جاءه قاصدا من الديار المقدسة وأنشد فيه شعرا بحبر دامع «نم قرير العين أيها الشاعر فلا فرق بين القبور».