تنشر «المساء» في واحتها الصيفية، صفحات من تاريخ الكرة المغربية، خاصة في الجانب المتعلق بوفيات رياضيين في ظروف لفها الغموض، وظلت جثامينهم ملفوفة بأسئلة بلا جواب، رغم أن الموت لا يقبل التأجيل. العديد من الرياضيين ماتوا في ظروف غامضة، وظلت حكايا الموت أشبه بألغاز زادتها الاجتهادات تعقيدا. ونظرا للتكتم الذي أحاط بالعديد من الحالات، فإن الزمن عجز عن كشف تفاصيل جديدة، لقضايا ماتت بدورها بالتقادم. قدر أحمد الصويري، الأب الروحي للنادي القنيطري، أن يلقى ربه في الأراضي المقدسة ويدفن بمكةالمكرمة، بعد أن أفنى حياته في تعليم النشء المبادئ الأولية لكرة القدم، قدر مربي الأجيال في القنيطرة أن يدفن في قبر كتبت عليه عبارة «هنا يرقد الجثمان الطاهر لمسلم مجهول الاسم والهوية». بدأت الحكاية في موسم الحج سنة 1988، حين خصصت بلدية القنيطرة بتعاون مع النادي القنيطري لعائلة الصويري تذكرتي سفر إلى الديار المقدسة من أجل أداء مناسك الحج، شكر المدرب القدير الجهة المانحة على التفاتتها خصوصا وأنه كان في نيته القيام بزيارة قبر الرسول الأعظم، وحين عاد إلى منزله غير بعيد عن حي الخبازات، اقترح على زوجته مرافقته في سفرية ليست كبقية السفريات، إلا أن الحالة المرضية لوالدته جعلت الزوجة تفضل إرجاء السفر للعناية بشؤون الأم العليلة، على أن يبيع أحمد التذكرة الثانية لتدبير مصاريف الحج. اتصلت إحدى السيدات وتدعى الشلحة بالصويري، وطلبت منه الموافقة على طلب صفة رفيق لها خلال أدائها مناسك الحج، قبل أحمد على مضض المقترح، وتوجها معا صوب مطار محمد الخامس، حيث ودعته زوجته وأبناؤه ورسموا على جبينه قبلة الوداع الأخيرة. لأول مرة شوهد الصويري بلباسه الأبيض، بعد أن ظلت البذلة الرياضية رفيقه في حله وترحاله، تعرف عليه الكثير من الحجاج القنيطريين، لأن الرجل يعتبر من رموز المدينة وأحد صناع مجدها الرياضي. منذ أن وطئت قدماه الطائرة، لم تتوصل عائلته بأي خبر عنه وكأن الأرض ابتلعته، بينما ظل حجاج المدينة يتناقلون أخبارا لا أثر فيها للمدرب الصويري. وحين أنهوا المناسك شدوا الرحال إلى وطنهم برؤوس حليقة وحقائب مثقلة بالتمر وماء زمزم والقبعات والسجادات والسبحات وغيرها من هدايا الأراضي المقدسة. انتظر أفراد عائلة الصويري أياما عديدة في بهو مطار النواصر بالدار البيضاء، إلا أن أفرغت آخر طائرة قادمة من جدة ما في بطنها من حجاج بيت الله، وتأكد أن الاختفاء أصبح أمرا مكتوبا. كانت «الشلحة» رفيقة الصويري في مناسك الحج بمثابة العلبة السوداء التي تبتلع سر الاختفاء، لكن المعلومات التي قدمتها لأفراد العائلة زادت الأمور غموضا، قالت الرفيقة إن الصويري قد ودعها حين كان الحجاج يهمون بمغادرة مكة إلى المدينة، وأنه التمس منها التغيب لبضع ساعات بحثا عن عنوان لاعب قنيطري سابق يتواجد بالسعودية، ترك حقيبة سفره وأمتعته وبعدها لم يظهر له أثر، طال انتظار الرفيقة وقررت البحث بدورها عن الصويري بعد أن انضم إليها بعض معارفه الحجاج. كلما مر يوم إلا وكبرت علامات الاستفهام، وتعددت الروايات التي كانت تحاول أن تجعل من الاختفاء مرادفا للاختطاف، بل إن البعض حاول نسج قصص تجعل الاختفاء فعلا مقصودا، وعلى الرغم من تعدد السيناريوهات التي أجمعت على الاختفاء واختلفت حول مسبباته، فإن الأيام التي أعقبت فترة الحج كبدت الأسرة خسائر معنوية لا تعد ولا تحصى، بل إن إحدى بنات الحاج أصيبت بمرض عضال من شدة البكاء والنكد. جثمت غيمة الحزن على بيت الأسرة الذي تحول إلى مزار، يتقبل فيه أبناء وبنات الحاج التعازي في فقيد لم يمت بعد بشكل رسمي، في الوقت الذي كان يفترض فيه أن تتقبل الأسرة التهاني وتقيم أعراس الفرح. توصلت عائلة الصويري بما تبقى من أمتعة الفقيد، حقيبة سفر وأمتعة وهدايا و«بادج» يؤكد فرضية الاختفاء دون إشارة إلى هويته، وباشرت الابنة البكر بشرى ترتيبات اقتفاء أثر والدها الذي خرج ولم يعد، اتصلت بعمر دومو بوزارة العدل الذي ساعدها في البحث عن والدها الأب الروحي للنادي القنيطري، وشرعا معا في الاتصال بالسفارة المغربية في السعودية ووزارة الأوقاف المغربية ووزارة الخارجية وغيرها من المصالح، أملا في التوصل إلى خيط يقود إلى فك شفيرة الغياب غير المبرر والغريب في نفس الآن. توصلت التحريات إلى وجود جثة رجل يحمل كل المواصفات التي تتضمنها البيانات المقدمة من المصالح الديبلوماسية، وبعثت الوزارة الوصية على الحج تقريرا يتضمن تشريحا لجثة الصويري يؤكد وفاته في الديار المقدسة، بسكتة قلبية أو نتيجة الحرارة المرتفعة التي تفضي أحيانا إلى نزيف داخلي على مستوى الدماغ، بعد ستة أشهر من الانتظار تأكدت الوفاة وتبين أن الصويري اختار مرقده النهائي في الأراضي المقدسة، وهو اختيار خفف من حجم الألم الذي ظل يعتصر الأسرة المكلومة. مات الصويري بعيدا عن القنيطرة بآلاف الأميال، لكنه لم يمت في ذاكرة القنيطريين لما له من فضل على التاريخ الكروي للنادي القنيطري، فهو لم ينجب خمسة أبناء فقط، بل أنجب مئات اللاعبين الموهوبين، وآخر العنقود كان هو اللاعب الدولي السابق يوسف شيبو. لم يحظ الراحل بتكريم يليق بمكانته، فقد أقام الفريق القنيطري مباراة تكريمية، في عهد الرئيس السابق بنموسى، لم يتجاوز مدخولها 10 آلاف درهم، أما زوجة الفقيد فلازالت تتوصل بمعاش من البلدية عبارة عن راتب شهري قدره 230 درهما فقط.