عرفت سنة 2007 وقائع غير مسبوقة. أما سنة 2008 فقد عرفت حصول عدد من المفاجآت السياسية المدوية، ونعني بها وقائع وأحداث غير منتظرة ولا مرتقبة، لم تسبقها مؤشرات دالة عليها ولا أوصلنا إليها خيط متصل من القرائن الموحية بحدوثها. يتعلق الأمر بوقائع صادمة لم نهيئ أنفسنا لاستقبالها، وسنتوقف عند عشر من هذه المفاجآت: المفاجأة الأولى هي الإعلان عن اكتشاف شبكة إرهابية يرأسها شخص يُدعى عبد القادر بلعيرج أو بليرج. الطابع المفاجئ لهذا الإعلان يتجلى أساسا في الجهد الخاص الذي بُذل لإقناعنا بأن الأمر يتعلق بأخطر مخطط إرهابي حيك ضد الأمن العام، وفي التصريح بتورط قياديين منتمين إلى أربعة أحزاب سياسية مغربية في المخطط، ثلاثة منها شاركت في آخر انتخابات عرفها المغرب. لقد تصدت الصحافة لعدد من أوجه التناقض الذي تحمله الرواية الرسمية بخصوص هذا الملف العجيب والغريب، وعاين الجميع كيف تمت عرقلة ممارسة حقوق الدفاع. المعتقلون السياسيون الستة في هذا الملف ليسوا عناصر مجهولة، بل هم مناضلون بارزون يشتغلون في واضحة النهار ويشتركون في تبني خط عمل سلمي منذ سنين طويلة. ورغم منع هيأة الدفاع من تصوير وثائق الملف، فقد تم تسريب محاضر تتضمن اعترافات المعتقلين الستة بضلوعهم في مخطط إرهابي، والحال أن هؤلاء كما جاء على لسان حميد نجيبي لم يدلوا قط بهذه الاعترافات، وبذلك يكون الرأي العام قد تعرض لعملية تدليس منهجية، كما تم حظر حزب البديل الحضاري بقرار إداري دون انتظار حكم القضاء وبدون أن تقوم هناك أدلة على أن استمرار وجود الحزب في حد ذاته سيعرض أمن البلاد للخطر. وكان وزير الداخلية في كل مرة ووجه فيها بنقد سلوك وزارته، يقترح على المتضررين اللجوء إلى القضاء، وحدها الوزارة تفادت اللجوء إلى القضاء، وسبقت هذا الأخير بإعدام حزب البديل، بل وأعلنت عزمها على إعداد تعديل لقانون مكافحة الإرهاب يرمي إلى إقرار المزيد من التضييقات على الحريات، ولا ندري ماذا سيتبقى من هذه الأخيرة إن تم اللجوء إلى تعديل القانون المذكور في اتجاه المزيد من التشدد. كان لنا هذا العام كالعادة موعد مع حلقات أخرى من مسلسل المحاكمات في إطار قانون مكافحة الإرهاب، وصدرت كالعادة أحكام ثقيلة بدون أن يُمنح الملاحظون والحقوقيون فرصا حقيقية للتثبت من نظاميتها، وفتحت الدولة بصورة غامضة، في ظل هذه الأجواء المشحونة، ما يسمى بحوار مع بعض رموز السلفية الجهادية المعتقلين، وبادر وزير الأوقاف بتقديم التعازي في وفاة أحد قياديي جماعة العدل والإحسان، في خطوة اعتبرت ذات أبعاد سياسية وفي مرحلة يتعرض فيها حق الجماعة في التنظيم إلى هجوم قاس ومرير. المفاجأة الثانية هي مجريات المؤتمر الثامن للاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية. بدأت الأحداث المفاجئة بفشل ما اعتبر بعد ذلك شوطا أول للمؤتمر، ولم تنفع وسائل الحماية الذاتية في تجنب التعثر، ثم جرى الشوط الثاني في جو من التباري الديمقراطي المشهود، وتسلم الأستاذ عبد الواحد الراضي زمام القيادة الحزبية بواسطة صناديق الاقتراع، وكان قد وعد بالتخلي عن حقيبة وزارة العدل إذا ما انتخب كاتباً أول للحزب ليتفرغ كلية لمهمته الجديدة. إلا أنه بعد ذلك، عاد ليعلن أن العزم على مغادرة الوزارة لا يكفي، إذ يتعين احترام المساطر العرفية لذلك، ثم حسم الأمر في النهاية في اتجاه بقاء الأستاذ الراضي في الحكومة بقرار ملكي. وهذا يطرح في العمق قضية استقلالية الأحزاب السياسية في المغرب، وجدية الالتزامات المعلنة للقادة. وفضلاً عن كل ما سبق، فلقد عاد الاتحاد الاشتراكي إلى طرح مطلب الملكية البرلمانية -بعد سنوات من تجميد هذا المطلب- من خلال البيان السياسي الذي دعا إلى مفاتحة الحلفاء في هذا المطلب وفي موضوع تركيبة وبرنامج التشكيلة الحكومية، إلا أن رد حزب الاستقلال كان حاسما وسريعا، فقد أكد الوزير الأول على ضرورة «الاحتفاظ للملك بدوره الحالي لأنه الوحيد الذي يمكنه توحيد المغاربة». ولا شك أن شعار الإصلاح الدستوري أصبح يستهوي المزيد من السياسيين، بما في ذلك بعض قطاعات الشبيبة الحركية مثلاً، وربما كان الإعلان الملكي عن قرب تشكيل لجنة استشارية لوضع تصور جديد للجهوية واعتماد مقاربة موسعة ومتدرجة، يمثل تذكيراً رسمياً بأن المجال الوحيد الممكن لإعادة توزيع السلطة هو المجال الأفقي وليس العمودي. المفاجأة الثالثة هي الهروب الكبير. فقبل فرار السجناء التسعة من السجن المركزي بالقنيطرة، والمحكومين في إطار ملف السلفية الجهادية بمدد طويلة، كان الانطباع السائد أن مثل هذا الهروب غير ممكن تماماً، بفعل درجة التعبئة العالية للأجهزة الأمنية، واستنفارها لكل الوسائل والإمكانيات المتاحة للدفاع عن هيبتها. وقد تعمق بعد ذلك نهج التشدد في التعامل مع الساكنة السجنية، ومع المحامين، ومع الصحفيين الذين غدت التعويضات المحكوم بها عليهم سلاحاً ضاريا للفتك بحريتهم وقدرة مؤسساتهم المهنية على الاستمرار والتوسع. المفاجأة الرابعة هي نجاح الأستاذ عبد الإله بنكيران في تولي مهمة الأمين العام لحزب العدالة والتنمية، عبر آلية ديمقراطية نموذجية. كان الكثيرون يتوقعون استمرار د.سعد الدين العثماني على رأس الحزب، لأنه رجل التوازن واللباقة ويحظى بعطف مختلف مكونات الحزب، ولأن هذا الأخير في حاجة إلى شخصية تضمن وحدته في مواجهة الزوابع والخطط التي تستهدف الإجهاز عليه، ولأن بنكيران كان يبدو لعدد من الملاحظين كزعيم لتيار داخل الحزب تلاحقه الشائعات والمؤاخذات. المفاجأة الخامسة هي الرسالة القنبلة التي وجهها الملك إلى المناظرة الوطنية للرياضة التي انعقدت بالصخيرات، حيث استُعملت عبارات نقد بالغة الشدة في تشخيص الوضع الرياضي في البلاد، حتى إن عدداً من الصحفيين اعتبروا أن بعض الخطب الملكية غدت تتوسل إلى لغة «معارضة». تحدثت الرسالة الملكية عن الذين يستعملون الرياضة مطية للارتزاق، وعن الارتجال والتدهور والجمود والخلل في الحكامة، وعن التبذير وسوء التدبير، وعدم توفر عناصر الشفافية والنجاعة، وغياب التسيير الديمقراطي، وضعف التجديد، وهزالة النتائج، ومحدودية البنيات، وعدم ملاءمة الإطار القانوني والتمويلي، وعدم تأهيل الرياضة المدرسية... غضبة الملك لم تنحصر هذا العام في طريقة تدبير الشأن الرياضي، بل شملت عدداً من المسؤولين الذين تم إعفاؤهم بشكل مفاجئ بعد ضبط اختلالات في سير قطاعاتهم خلال زيارات ملكية، مما جعل بعض الملاحظين يشيرون إلى هذا المعطى الجديد في السياسة الوطنية الذي أصبح يسمى «الغضبات الملكية»، وهو معطى قد يثمر بعض الإيجابيات ولكنه في أحيان كثيرة يمعن في تهميش الجهاز الحكومي. المفاجأة السادسة هي تقرير المجلس الأعلى للحسابات. هذا التقرير يتعلق بسنة 2007، وقد سبقته تقارير أخرى، تم إعدادها في إطار الوظيفة المحددة طبقا للفصل 96 من الدستور. التقرير الأخير أوفى وأشمل وأُتيحت له فرصة التغطية الواسعة مما سمح للرأي العام بأخذ فكرة عن محتواه، وكان لذلك وقع المفاجأة، فالمجلس مثلاً مارس عمليات رقابية واسعة شملت صندوق الإيداع والتدبير، والمركز الاستشفائي الجامعي ابن رشد، والجماعات المحلية بمدن كبرى كالبيضاء ومراكش وفاس والرباط وسلا وتمارة، والمركز السينمائي المغربي... وخلص التقرير النهائي للمجلس إلى حصول خروقات خطيرة في التدبير، كحصول وزير على امتيازات، واعتماد بيانات غير صحيحة في توزيع الدعم على المطاحن، وعدم تحقيق شركة الطرق السيارة للأهداف المسطرة لمشاريعها ووجود فوضى في التسعيرة المعتمدة لديها، ووجود اختلالات في تدبير صندوق الإيداع والتدبير، وعدم احترام المساطر الخاصة بالصفقات العمومية في مدن كبرى، ووجود موظفين أشباح، وتبذير للمال العام في المكالمات الهاتفية، وإهمال استخلاص مداخيل مستحقة للخزينة العامة... وعلى العموم، فلقد بلورت صدمة تلقي التقرير، تيارا عاماً مطالبا هذه المرة بالانتقال إلى اتخاذ إجراءات التتبع والجزاء اللازمة. المفاجأة السابعة هي صيغة ظهور الحزب الجديد (الأصالة والمعاصرة). لقد بحث الناس عن «الجديد» في الصيغة التي أُعلن بها عن ميلاد الحزب الجديد، فلم يعثروا عليه. ففي النهاية اتخذ الحزب شكل اندماج لخمسة أحزاب إدارية أو قريبة من منطق الأحزاب الإدارية، وأُدمج فريق الأصالة والمعاصرة في البرلمان مع فريق التجمع الوطني للأحرار. كان المفروض حسب خطاب السيد فؤاد عالي الهمة أن تنجح مبادرته في إدخال فئات جديدة وخاصة من الشباب إلى حلبة العمل السياسي، لتجاوز قصور الهياكل العتيقة، فكانت النتيجة هي الاعتماد على أشدها عتاقة لصنع إطار بتسمية جديدة فقط. أما نتائج الانتخابات الجزئية فلقد أظهرت أن الأعيان الذين لهم شرعية ما سابقة على وجود الحزب الجديد هم الذين يفوزون، أما الرموز التي تقدمت للساحة كمؤتمنة على فلسفة المبادرة فلم تفز، بمعنى أن التبشير بتلك الفلسفة ليس كافياً وحده لخلق واقع جديد على الأرض. المفاجأة الثامنة هي قيام منشقين عن حزب الاستقلال بتأسيس حزب جديد، هو حزب الوحدة والديمقراطية، بينما كان الاعتقاد السائد دائماً أن حزب الاستقلال عرف انشقاقا واحداً هو الأول والأخير في 1959، وأن آليات التنظيم الداخلي الراسخة والوطيدة تسمح لمختلف أجنحة وقطاعات وقادة ومسيري الحزب بتحصيل ما يريدون وفق نظام مثالي للتفاهم، ينتهي بإشباع حاجات الجميع وتكريس سلم داخلي وحصانة ضد الزوابع. كما أن طريقة تبادل الاتهامات بين بعض رموز الحزب وصلت إلى درجة هزت الرأي العام وأعطته انطباعاً بأن بعض الخلل قد بدأ يدب إلى بنية الحزب العتيد التي اعتادت التكيف بنجاح مع مختلف الظروف والتطورات والاستفادة من تماس دائم مع جهاز الدولة. المفاجأة التاسعة هي قرار الكنفدرالية الديمقراطية للشغل بالانسحاب من البرلمان، لقد كان القرار مفاجئاً حتى بالنسبة إلى الأعضاء النقابيين أنفسهم رغم أنه اتخذ مبدئياً في إطار مجلس وطني، وكان مشفوعاً بقرار خوض إضراب وطني عام. وسبق ذلك اتخاذ مركزيات نقابية أخرى بصورة موحدة قرار خوض إضرابات في قطاع الوظيفة العمومية. وقد قام أغلب مستشاري الكنفدرالية بالعودة إلى البرلمان، فتم طردهم من المركزية، وقاموا بالالتحاق بالفدرالية الديمقراطية للشغل مرفوقين بعدد هام من أنصارهم. وإذا كان «المنسحبون العائدون» قد فتحوا ملف الديمقراطية الداخلية في الكنفدرالية، فإن مناسبة ذلك، وهي خرقهم لقرار مركزيتهم الذي أيدوه في بادئ الأمر ولم يعترضوا عليه، تجعل فتح الملف المذكور فاقداً لجزء كبير من مصداقيته. إن الكنفدرالية لا يمكنها أن تستهين اليوم بحجم النزيف الذي أصابها، وعليها الاعتراف بأنها جردت نفسها من سلاح حيوي في نضالها اليومي رغم شرعية الاعتراضات على الغرفة الثانية، وأنها قدمت لمنافسيها خدمة ثمينة. نأمل أن تستطيع تدارك بعض تداعيات قرارها. المفاجأة العاشرة هي صعود نجم «طبقة سياسية جديدة». يتعلق الأمر بأعيان للانتخابات كانوا يكتفون فقط بالخوض في الشأن الانتخابي، وأصبحوا اليوم يبدون طموحاً سياسياً لا حدود له، ويتوقون لقيادة الأحزاب التي يترشحون باسمها، ولم يعودوا يقبلون بأدوار ثانوية أو بنفوذ جهوي أو باستعمالهم من طرف القادة التقليديين. إنهم يتقدمون في زحفهم السياسي والتنظيمي، ولا يخجلون من لغتهم الشعبية المباشرة ومستوياتهم الدراسية المحدودة، بل يشعرون بقيمة الخدمة التي يقدمونها للدولة قبل تلك التي يقدمونها للأحزاب. إن سنة 2008 كانت إذن مسكونة بالمفاجأة والتوتر، وأصبح الحقل السياسي مصدراً لكل ما قد لا يخطر على الذهن. وهذا مرتبط ربما بمخاض يعتمل في أحشاء الوضع العام دون أن ينتج عناصر تفاؤل بمستقبل الديمقراطية والسياسة ببلادنا. مساحة المفاجآت السعيدة بالمعايير الديمقراطية كانت محدودة. وبالنسبة إلى المفاجآت غير السعيدة، فرغم اتجاه مركز القرار إلى مزيد من الانغلاق، ورغم السياسة التقليدية للحكم والقائمة على المباغتة في كل مرة بطرح مبادرة ما، فقط من أجل تحريك الوضع، فليس النظام وحده هو الذي صنع كل مفاجآت العام الماضي أو أوحى بها كلها أو استفاد منها كلها، هناك أيضاً مسؤولية الآخرين.