أن تجتمع الحكومة الإسرائيلية لمناقشة المبادرة الأوروبية بوقف لإطلاق النار لمدة أربع وعشرين ساعة، ناهيك عن القبول بها، فهذا يعني إقرارا بعدم القدرة على تحقيق الأهداف المعلنة من العدوان الحالي على قطاع غزة، مثلما جاء على ألسنة كل من إيهود باراك وزير الدفاع وتسيبي ليفني وزيرة الخارجية، وأبرزها القضاء على المقاومة، وتغيير الأوضاع بشكل نهائي في قطاع غزة، وهو نفس ما حدث في حرب تموز ضد لبنان. الاتحاد الأوروبي لم يتحرك لإنقاذ الفلسطينيين، وإنما لإنقاذ نفسه، وأمنه، ومصالحه، ثم بعد ذلك إنقاذ إسرائيل نفسها من نفسها، بعد أن أدرك قادته أن نتائج كارثية ستترتب على هذا العدوان على المديين القريب والبعيد، في وقت يواجه فيه العالم الغربي حروبا خاسرة في العراق وأفغانستان، وانهيارا اقتصاديا شاملا، وتنبؤات بموجات من العنف والإرهاب. فبعد أربعة أيام من القصف الوحشي، وتعاظم أرقام الضحايا من الأبرياء، وانتشار صور الأطفال الشهداء على صدر الصفحات الأولى من الصحف، وعلى شاشات التلفزة العالمية، بات واضحا للعيان أن الخاسر الأكبر في هذه المواجهة غير المتكافئة هو إسرائيل وحلفاؤها من الزعماء العرب الذين شجعوها على هذا العدوان على أمل التخلص من حركات المقاومة الإسلامية في قطاع غزة، وإزالة عقبتها أمام خطواتهم التطبيعية معها التي تتسارع بشكل مسبوق هذه الأيام. الغارات الجوية الإسرائيلية لم ترعب فصائل المقاومة، ولم تدفعها إلى رفع الرايات البيضاء استسلاما، بل زادتها قوة وصلابة، فإطلاق الصواريخ لم يتوقف مطلقا، وزاد خطره عندما وصلت هذه الصواريخ إلى بئر السبع وأسدود، وبدأت توقع ضحايا من القتلى والجرحى في صفوف الإسرائيليين. القيادة السياسية الإسرائيلية وجدت نفسها أمام خيارين: الأول هو الاستمرار في الغارات الجوية وحدها، حتى بعد استنفاد مهامها، حيث لم يعد هناك ما يمكن ضربه من أهداف غير أكوام اللحم الفلسطيني، أو الانتقال إلى العمليات البرية، وإعطاء الضوء الأخضر للدبابات المحتشدة على تخوم غزة لبدء عملية الاقتحام. التورط في حرب برية هو آخر شيء يريده جنرالات الجيش الإسرائيلي، لأن هذا يعني خوض حرب عصابات طويلة الأمد، ربما تترتب عليها خسائر بشرية ضخمة، وهزيمة ثانية في غضون عامين بعد الهزيمة الأولى في جنوب لبنان، الأمر الذي سيدمر ما تبقى من معنويات وهيبة لدى المؤسسة العسكرية الإسرائيلية. صباح أول أمس كان إيهود باراك يقول إن ما تم حتى الآن هو المرحلة الأولى من هذه الحرب، وإن هناك مراحل أخرى عديدة قادمة، وإن الحرب ستستمر حتى نهاية حركة «حماس» وفصائل المقاومة الأخرى، واقتلاعها من جذورها، وبعد ذلك بساعتين سمعنا المتحدثين باسم الحكومة الإسرائيلية يتحدثون عن دراسة مبادرة وقف إطلاق النار، وبعد دقائق معدودة من هذا التراجع المهين، نطق الناطق باسم البيت الأبيض بعد صمت طويل، وتحدث بدوره عن ضرورة وقف إطلاق النار. جميع هذه الأطراف، من أوروبية وأمريكية وعربية لا تقيم أي اتصالات مع حركة «حماس» باعتبارها حركة « إرهابية»، الآن أصبحوا يطلبون وسطاء للتفاوض معها على وقف إطلاق النار، ألا تدل هذه الحقيقة على تغير المعادلات السياسية بفضل الصمود على الأرض، والإصرار على المقاومة؟ الهدنة في حال إقرارها، يجب أن تعني فتح المعابر بما فيها رفح وتدفق المساعدات الإنسانية، ورفع الحصار الظالم، ودفن الشهداء، وعلاج الجرحى، ولذلك تبدو مطلوبة، لالتقاط الأنفاس، والانطلاق نحو التفاوض من أجل تحسين شروط أي تهدئة جديدة، تجبّ كل ما قبلها من وسطاء وبنود ظالمة مجحفة جاءت نتيجة تواطؤ ذوي القربى، وخداعهم الواضح والمتعمد للطرف الفلسطيني ولمصلحة الطرف الإسرائيلي. وبإجراء جردة سريعة لوقائع الأيام الأربعة الماضية، والنظر إلى النتائج من منظور الربح والخسارة، يمكن تلخيص كل ذلك في النقاط التالية: أولا: استمرار حكومة «حماس» وفصائل المقاومة الأخرى في قطاع غزة هو هزيمة للمشروع الإسرائيلي العربي الرامي إلى إنهاء ظاهرة المقاومة. ثانيا: سلطة رام الله هي الخاسر الأكبر بكل المقاييس، فقد ظهرت بمظهر المتواطئ مع العدوان، وتعاملت مع أهل الضفة الغربية كسلطة قمعية، عندما التقت مع الحكومة الإسرائيلية على هدف منع المظاهرات تضامناً مع أشقائهم في قطاع غزة. والأهم من ذلك أن هذه السلطة كانت مهمشة عربياً ودولياً، لا أحد يتصل بها، ودون أن يكون لها أي دور فاعل في الحرب أو التهدئة. ثالثاً: تعرضت الحكومة المصرية إلى أكبر صفعتين في تاريخها، الأولى من شعب مصر الوطني الشريف الذي تعاطف بملايينه مع أشقائه في قطاع غزة وخرج بالآلاف في مظاهرات غضب عارمة، والثانية من الشعوب العربية التي فضحت التواطؤ الرسمي المصري مع العدوان الإسرائيلي، عندما تدفقت في مسيرات احتجاج إلى سفارات النظام المصري في عواصمها. رابعا: خسر «عرب الاعتدال» ما تبقى لديهم من مصداقية، عندما تلكؤوا في عقد قمة طارئة لبحث الأوضاع في قطاع غزة، لإعطاء القوات الإسرائيلية المزيد من الوقت على أمل أن تنجز مهمتها، وتحقق آمالهم في «سحق» ظاهرة المقاومة الشريفة، تماماً مثلما فعلوا أثناء الاجتياح الإسرائيلي لجنوب لبنان. ما نريد قوله هنا، أنه سواء نجحت جهود الوساطة في وقف إطلاق النار أو تعثرت، فإن الأيام الأربعة الماضية أكدت أن المنطقة العربية تغيرت، وشهدت «صحوة» غير مسبوقة، حيث تحدت الشعوب سجانيها، ورفعت صوتها عالياً ضد مشاريعهم الاستسلامية، وخطواتهم المتسارعة نحو تحويل إسرائيل إلى صديق يمكن التعويل عليه للعب دور الشرطي، أو «الفتوة» في مواجهة العدو الجديد إيران. الرئيس المصري حسني مبارك بشّرنا يوم أول أمس بأنه لن يسمح بإعادة فتح معبر رفح إلا بعد عودة قوات السلطة والمراقبين الأوروبيين، مؤكداً على عدم استفادته من الوقائع الجديدة التي فرضها الصمود الفلسطيني على الأرض في الأيام الأربعة الماضية، وربما فيما هو قادم من أيام. تصريحات الرئيس مبارك هذه تكشف الاستمرار في التواطؤ، والإصرار على إهانة الشعب المصري، وتقزيم دور مصر، هذا إذا بقي مثل هذا الدور في ظل سياساته هذه، الأمر الذي يذكرنا بعناد الرئيس الراحل أنور السادات في الأشهر الأخيرة من حكمه. قواعد اللعبة في المنطقة تغيرت فعلا، ولكن في غير مصلحة إسرائيل والغرب المنافق المتواطئ مع عدوانها الذي ساوى بين الجلاد والضحية بتبريره العدوان، وتبنيه للأدبيات الهمجية الإسرائيلية، وسد أذنيه وعينيه عن رؤية ضحايا النازية الإسرائيلية في مستشفيات قطاع غزة من الأطفال الأبرياء. هذه المجزرة الإسرائيلية رسخت قيم المقاومة، وأنهت عملية سلمية مضللة، ومهدت لصعود جيل جديد من الاستشهاديين، يتحرق شوقا للانتقام لأشقائه وآبائه الذين مزقت أشلاءهم الصواريخ الإسرائيلية. بقي أن نختم بالقول إن هذه الشعوب العربية والإسلامية الشريفة بزئيرها المزلزل في مظاهرات العزة والكرامة ضد العدوان، وشعاراتها المتحدية لتخاذل النظام الرسمي العربي وانحيازه الفاضح للمعتدين، ساهمت بدور كبير في حدوث هذا التغيير، وقلب كل المعادلات التي فرضها الإسرائيليون والأمريكيون في شهر عسلهم الموبوء الذي أوشك على نهايته.