انتشرت في بلادنا مؤخرا عينة طريفة من «التحاليل» التي يقول عنها أصحابها إنها علمية، يتناولون من خلالها وقائع ومعطيات محلية، ويضيفون أنها تلقي أضواء جديدة تجعلنا نكتشف البلاد والمجتمع. والحقيقة أنه إذا كان هناك من «يكتشف» شيئا فهم أصحاب تلك «التحاليل» بالتحديد، وإن كانت نوعية «اكتشافاتهم» تحيلنا على بدايات تحليل المجتمع المغربي والشروع في اكتشافه. آخر مثال، على ذلك، «التحليل» الذي ظهر بعد إعلان إحدى مؤسسات تتبّع نسب الاستماع أن «إذاعة محمد السادس للقرآن الكريم» تظل على رأس المحطات الإذاعية المغربية في نسبة عدد مستمعيها عبر ربوع البلاد؛ حيث خلص «التحليل» إلى أنه «إن دل هذا على شيء فإنما يدل» على أن الشعب المغربي «شعب متديّن». وهذا «اكتشاف» غير جديد بل ومعروف لدى الباحثين والمحللين (الحقيقيين) منذ القرن التاسع عشر على الأقل. لكن يتعين أن نضيف إليه أن هذا الشعب، وبقدر تديّنه، هو «سكايري» أيضا؛ والدليل على ذلك أن الحانات (وما يماثلها) ممتلئة في بلادنا نفس امتلاء المساجد أو أكثر، بما قاد بعض علماء الاجتماع المهتمين بالظاهرة إلى اعتبار ذلك مكوّنا رئيسيا من مكوّنات «الخصوصية الثقافية» المحلية، والتي يتعين احترامها من قبل جميع الفاعلين، سواء أكانوا سياسيين واقتصاديين أم «جمعويين» فحسب. بذلك يفقد هذا «التحليل» (وأمثاله) كل قيمة، ليس فقط لصدوره عن قوم مازالوا في مرحلة اكتشافٍ لمجتمعنا المعاصر، وإنما لعجزه، في هذه الحالة، عن تفسير كيف يختار المستمع المغربي النموذجي (أي المتديّن - السكّير) -وحسب شركات متابعة نسب الاستماع (التي تصطفي عينة يفترض أنها تمثل المجتمع المغربي ككل وتعمم النسب انطلاقا منها)- إذاعة دينية ويضعها في الصدارة. والواقع أن التفسير هنا سهل وليس في حاجة إلى أي درس أو «تحليل»، حيث يمكن القول إن المستمع المغربي «النموذجي» يختار تلك الإذاعة، بكل بساطة، لا حبا فيها وإنما هربا مما يتم بثه في المحطات الإذاعية الأخرى التي يبدو أنها موجهة إلى جمهور آخر غير الجمهور المغربي وإلى انتظارات أخرى غير انتظاراته. إن معظم المحطات الإذاعية الخاصة تذيع برامجها باللغة الفرنسية، بل إن منها من يعتقد نفسه في فرنسا وليس في المغرب، ويخصص حيزا لا بأس به من ساعات بثه لبرامج ولنقاشات داخلية فرنسية؛ وأجمل ما في الأمر أن الهيئة العليا للاتصال السمعي البصري (الهاكا)، التي رخصت لتلك المحطات بالعمل، لا تُلزمها ببث برامجها بلغة أهل البلاد، أي العربية (لا يدرج دستور البلاد، مثلا، الفرنسية ضمن «اللغات الوطنية»). وحين يوقف المستمع المغربي مؤشر مذياعه عند إذاعة مغربية خاصة ويجدها ترطن بالفرنسية (التي لا يفك تسعة أعشار المغاربة، الآن، مغاليقها) سرعان ما يهرب منها نحو إذاعة تتحدث لغته ويجدها أقرب إلى نفسه. الهروب نفسه يتم من إذاعات تملأ ساعات بثها بأي كلام، بالكلام التافه الذي لا طائل وراءه، والذي يحتقر ذكاء المستمع المغربي؛ ومن إذاعات ترفض الاجتهاد في عملها وتفضل الاعتماد على خط تحريري يمكن نعته ب»خط المعكاز»، ويتمثل في الاقتصار على اتصالات المستمعين الهاتفية وعلى مدعوين «متطوعين» (يحضرون إلى الأستوديو على حسابهم ويتدخلون «فابور»)؛ ومن مذيعات يستضفن خبراء في علم النفس وعلم الاجتماع والطب وعلم الإجرام... ويتحدثن طيلة الوقت بدلهم على أساس أنهن يفهمن في مجال تخصصهم أكثر منهم، وحين يطلب الخبراء الكلمة يقلن لهن إن الوقت انتهى... إن المغاربة لا يهربون إلى محطة إذاعية للقرآن الكريم فقط لأنهم متدينون، ولكن لأنه ليس أمامهم خيار آخر: ليست هناك محطات للثقافة والمعرفة والتربية والفن، مثلا، أو محطات متخصصة في الموسيقى الرفيعة، العالمية والعربية والمغربية، ولا محطات تعكس انتظاراتهم ويجدون فيها أنفسهم... وفي خضم حيرتهم أمام «تعددية إذاعية وهمية لا تمثلهم»، يلجؤون إلى المثل المغربي القديم «اللي تلف يشد الأرض». وبه وجب الإعلام.