[email protected] في جميع بلدان العالم تبث القنوات التلفزيونية والمحطات الإذاعية برامجها بلغتها الوطنية سوى عندنا نحن، وخاصة مع مقدمي المحطات الإذاعية الخاصة التي تبين أنها تفتقد إلى البوصلة يفترض أن توجهها في كل ما يتعلق بالثقافة وبالهوية الوطنيتين، بل والتي صار معظمها يمعن في تخريب لغتنا وهويتنا وإحساسنا بالانتماء إلى وطن اسمه المغرب، ويحرضنا على الانسلاخ من لغتنا وهويتنا واللجوء إلى لغة (وهوية) أخرى هي لغة (هوية) هجين، لا هي عربية ولا هي فرنسية، متناسين (أو جاهلين فحسب) أن المغربي (أو «الماروكان»، في لغة المستعمر القديم) يبقى دائما، ومهما تفنن في «تقليد» هذا الأخير مجرد «بوتي ماروكان». الأدهى من ذلك أن معظم مذيعي ومذيعات المحطات الإذاعية الخاصة (الذين يسمون أنفسهم «منشطين» و«منشطات») لا يتوفرون على ما يكفي من الثقافة (العامة) والمعرفة (المهنية) ل«تنشيط» برامجهم حتى بذلك الشكل «المبتكر»، مما يجعل من محطاتهم أدوات إضافية لتسطيح الوعي وتعميم التخلف في مجتمع أمي متخلف أصلا. مع ملاحظة أن هؤلاء المنشطين لا يكتفون بنشر الأمية والتخلف، بل يدافعون دفاعا مستميتا عن صنيعهم، حيث يقول أحدهم على الأثير مباشرة، ودون خجل، إن مهمة الإذاعة هي أن ترفه (ترفيها بئيسا تعيسا، في العمق) عن المستمعين وليس أن تناقش مشاكلهم وتبحث عن حلول لها؛ كما يفهم «منشط» آخر أن «إعلام القرب» ليس شيئا آخر سوى زيارة الأسواق وسؤال الباعة عن أسعار البطاطس والجزر والطماطم وما إليها؛ وفي الأسبوع الماضي سأل أحد هؤلاء المنشطين ذات صباح امرأة اتصلت به على الهاتف وحيّته في بداية حديثها قائلة: «صباح الفل»، سألها: «هل يمكنك أن تشرحي لنا السر في كون المصريين يصبّحون على بعضهم بجملة من نوع «صباح الفول»؟، فوضحت له الأمر قائلة إن التعبير هو «صباح الفل» وليس «صباح الفول»، فأجابها «المنشّط» الذي اشتهر بترديده لكلمة «هاكّاك»، بمناسبة وبدونها، دون أن يختلج له جفن: «آه، مثل الدمية فلّة» (وهي، للعلم، دمية اخترعها بعض الإخوان في سياق النضال ضد الدمية «باربي»، الأمبريالية)، كاشفا بذلك عن «عمق» ثقافته (الدميوية) ومؤسسا لمرحلة جديدة في تاريخ الإرسال الإذاعي تتميز بأن المستمعين هم من يصحح أخطاء «المنشطين» و«المنشطات» (اللائي لا ينبغي الخلط بينهن وبين «المنشطات» الرياضيات، طبعا) ويثقفونهم وليس العكس. والواقع أن المسؤولية لا يتحملها «منشطو» الإذاعات الخاصة وحدهم، بل يتحملها معهم أيضا مشغلوهم، الذين يحددون «الخط التحريري» لمحطاتهم (إن وجد أصلا) ويفرضون عليهم العمل في إطاره. هؤلاء المشغلون الذين لا يجد بعضهم أدنى حرج في «تأجير» الذبذبات المخصصة له ل«فرانس أنتير» الناطقة بالفرنسية، كما لا يحس بعضهم الآخر بأي خجل وهم «يؤجرون» ذبذباتهم لإذاعة «البي بي سي» الناطقة بالعربية، دون أن يوضحوا لنا، أخلاقيا على الأقل، العلاقة التي تربط هذا السلوك بما يطلقون عليه «إعلام القرب»، ولا بالحاجيات الفعلية للمستمع المغربي الذي كانت انتظاراته كبيرة تجاه تحرير الفضاء السمعي – البصري بالمغرب، فإذا به يكتشف أن الإعلام العمومي (في مجال البث الإذاعي بالخصوص) رغم نواقصه وسلبياته صار أرحم بكثير من إعلام الخواص المتوحش الذي لا يبدو متوفرا على الحد الأدنى من المسؤولية والمهنية والنضج السياسي اللازمة لجعل الإعلام المسموع أداة من أدوات النمو الاقتصادي والتنمية البشرية. والحقيقة أن المرء يحتار فيمن يتحمل مسؤولية كل ذلك في نهاية المطاف: أهي «الهيئة العليا للاتصال السمعي البصري» التي توقع مع المحطات الإذاعية «دفاتر تحملات» تفرض عليها الالتزام ببث 20 في المائة من «البرامج الوطنية» ولا تهتم بلغة البث أصلا ولا بوضع ضوابط مهنية محددة؟ أم هي الحكومة التي يبدو أن بناء الثقافة والهوية الوطنيتين هو آخر ما يشغل بال أعضائها الموقرين؟ أم هو البرلمان الذي طوّر أعضاؤه المحترمون غيابهم عن قبته ليصبح غيابا عن قضايا المجتمع ككل؟ لكن الشيء المؤكد هو أن التخريب الذي تمارسه بعض الإذاعات الخاصة للهوية لا يمكنه إلا أن يعمل على تخريب المجتمع المغربي وتعميق الهوة (أو المهاوي) التي تفصل بين مكوناته وتهدد بتفتيته في ما سيأتي من أيام إلى طوائف لا تبقي ولا تذر.