قال المخرج المغربي محمد إسماعيل إن فيلم «وداعا أمهات» لم يتلق أي دعم من إسرائيل عكس الإشاعات الرائجة، مشيرا إلى أن الفيلم مازالت عليه ديون، وأنه أنجزه لحكي قصة هجرة اليهود المغاربة إلى الدولة العبرية في عام 1960. وأضاف محمد إسماعيل، خلال حوار أجري معه على هامش مشاركته في مهرجان سينمائي بمدريد، أنه تناول في الفيلم حدث غرق الباخرة «إيكوز» التي كانت تحمل اليهود المغاربة، وهي الحادثة التي جعلت الملك الحسن الثاني يكسر مقتضيات مؤتمر الدرالبيضاء ويمنح اليهود المغاربة جوازات سفر لتسهيل هجرة من شاء منهم. - تناولت في فيلمك الأخير «وداعا أمهات» موضوع هجرة اليهود المغاربة إلى إسرائيل، وهو من المواضيع الحساسة، لماذ هذا الاختيار؟ < أظن أن هناك ثلاثة أسباب جعلتني أتناول هذا الموضوع، أولها أنني أشتغل دائما حول تيمات الهجرة، وأكبر هجرة عرفها المغرب كانت في صفوف اليهود المغاربة بحكم أن عشرة في المائة من سكان البلاد هاجروا ولم نعرف لماذا قاموا بذلك. وخلال بحثي في مواضيع الهجرة وجدت أن هجرة اليهود موضوع شائك ولم نتطرق إليه بما يكفي، وليست هناك اية مصادر مهمة حوله، وعدت بمخيلتي إلى الطفولة حين كنا نعيش بالقرب من الملاح ولم يكن هناك فرق بيننا وبينهم، كان أبناء جيراننا اليهود يلعبون معنا في الشارع، كما أنه كان هناك تجار يهود في الحي يمارسون مختلف الحرف، بمعنى أن اليهود كانوا يشكلون جزءا من حياتنا اليومية. وأثناء تصوير فيلم «وبعد»، كان معي صديق طفولة، وحاولنا معا تذكر جميع الذين رحلوا من اليهود، فوجدنا أنه من بين 15 ألف يهودي في تطوان لم يبق اليوم أكثر من سبعة. وفي تلك اللحظة راودتني فكرة الاشتغال حول هذا الموضوع، وكتبنا السيناريو الأول في عام 2000، وأعدنا كتابته عدة مرات. - خلال فيلم «وداعا أمهات» قدمت رؤية معينة عن هجرة اليهود إلى إسرائيل، هل كان ذلك تجميعا لعدة روايات شفاهية أم اعتمادا على مصدر واحد أو مصدرين؟ < اشتغلنا على مادة وعلى فترة تاريخية معينة هي بالضبط عام 1960. ولكي نفهم لماذا كان هذا الاختيار، يجب أن أوضح أن فرنسا أحست بالذنب إزاء ما جرى لليهود خلال الحرب العالمية الثانية، فبدأت تشتغل مع الصهاينة من أجل تهجير اليهود وفتحت لهم كل المجالات، بما فيها منظمات التهجير التي كانت تتضمن الاستخبارات. وكان اليهود يهاجرون بدون جوازات سفر، وكان يتم تجميعهم في مخيمات للتجميع بطريق الجديدة، حيث كان اليهود يأتون محملين بأمتعتهم، وكان الفقراء منهم يرحلون عن طريق البحر فيما يتم تهجير الأغنياء منهم عن طريق الجو. و بعد استقلال المغرب، بقيت الأمور على ما هي عليه. لكن تهجير اليهود توقف بعد مؤتمر الدار البيضاء الذي صادق على أحد البنود القائلة بضرورة منع جميع يهود العالم من الهجرة إلى اسرائيل، وهو ما صادقت عليه الدول العربية برمتها، فأنا أشتغل على موضوع الهجرة السرية في عام 1960، أي فيها 380 ألف يهودي الذين بقوا في المغرب وكانوا يريدون الخروج إلى إسرائيل؛ وهي الفترة التي عرفت نشاطا مكثفا بحكم أن منظمات التهجير كانت تعاني من وجود رفض كبير من طرف اليهود الذين لم يكونوا يرغبون في الهجرة. وهذا الفيلم يتم في فترة كان الاقتصاد المغربي يعرف اختلالا بعد مغادرة الفرنسيين، وكانت هناك مشاكل يومية لدى المغاربة. والفيلم حاول أن يسرد هذه الظروف. طبعا ما يقدمه «وداعا أمهات» هو رواية تحاول تلخيص مجموعة من الروايات رغم أنه كانت هناك صعوبة في نقل كل شيء عن المجتمع المغربي في تلك الفترة. وبالنسبة إلى المصادر، واجهتنا بعض المشاكل بحكم أن المصادر المتوفرة كانت عامة، لذلك لجأنا إلى المصادر الشفوية عبر شهادات. - من هم هؤلاء الأشخاص الذين منحوكم شهادات عن تلك الفترة؟ < هم أناس عاشوا في تلك الفترة، بمن فيهم أولئك الذين هاجروا إلى اسرائيل، وأشخاص اشتغلوا ضمن الاستخبارات الإسرائيلية، وهم أشخاص مازالوا يعيشون في المغرب إلى حد الساعة، وحاولنا إجراء عملية تركيب، وهي العملية التي أعطت الشخصيات التي تناولها الفيلم. - لكن ما يلاحظ في الفيلم هو غياب تام للسلطة المغربية، خصوصا ان هناك روايات تشير إلى تورط مسؤولين في الدولة آنذاك، مثل الجنرال محمد أوفقير، في تهجير اليهود إلى إسرائيل؟ < لم أرد أن ادخل في هذا النقاش، وأردت أن أقوم بمعاينة لمجتمع يعيش في تلك الفترة. أما ما هو سياسي فلم أرد تناوله، ويمكن أن يتم تناوله في أفلام أخرى والحقيقة التي يمكن أن نقف عندها أنه بعد غرق الباخرة التي كانت تحمل اليهود والمسماة «إيكوز»، وهي واقعة حقيقية كما أن أسماء الناس المتوفين خلالها أيضا حقيقية، حيث توفي 43 شخصا بمن فيهم الفتاة التي كانت حاملا من شاب مسلم وتم تزويجها من يهودي حتى لا تصل إلى إسرائيل وهي غير متزوجة، وبعد حادثة الغرق سمح الحسن الثاني لليهود المغاربة بالخروج كاسرا بذلك مقتضيات مؤتمر الدارالبيضاء. ومن خلال الوقائع التي استجمعتها، أردت أن أطرح فقط السؤال التالي: لماذا رحل اليهود المغاربة؟ هل كنا مضطرين إلى ذلك؟ هل كانت هناك مشاكل في ممارسة الديانة أو مشاكل واجهوها في علاقتهم بالطرف الآخر أو مشاكل اجتماعية جعلتهم يرحلون بالتحديد في فترة الستينيات. وبصراحة، من الناحية الدينية، وجدت أنه كان هناك تسامح، حيث إنه إلى حدود الساعة مازال هناك حي فيردان بمدينة الدارالبيضاء يتضمن تسع كنائس يهودية في رقعة جغرافية لا تتجاوز ثلاثمائة متر مربع. - بالنسبة إلى الممثلين، هناك استعادة للكنة اليهود المغاربة، ألم تكن هناك صعوبات في تجسيد الشخصيات اليهودية، خصوصا النسوية بحكم أن المجتمع اليهودي كان مغلقا؟ < الصراحة أن الممثلين بذلوا مجهودات كبيرة. وفي الفيلم هناك عينات من اليهوديات، هناك اليهودية المغربية التي كانت تعيش منطوية على نفسها، ولا تتكلم الفرنسية مثل «شوشنة»، في الوقت الذي كانت فيه ابنتها تتكلم باللغة الفرنسية طيلة الوقت بحكم أن الحديث بالفرنسية كان موضة في تلك الفترة، وهو جيل كان يرفض حتى الحديث بالدارجة المغربية، وانغلاق المجتمع اليهودي هو ما جعل التركيز يكون على المجتمع اليهودي أكثر منه على المجتمع المسلم، بحكم أننا نعرف هذا الأخير في حين نجهل فيه كل شيء عن المجتمع اليهودي الذي لا نعرف طقوسه أو عاداته، ولا نعرف شيئا عن حياته الداخلية، وحاولنا الوقوف على مجموعة من الطقوس. - كانت هناك بعض المقاطع الموسيقية والأغاني بالعبرية وبعض الطقوس الدينية التي وظفت هذه اللغة، كيف اشتغلت على ذلك؟ < في هذا الجانب، استعنت بمختصين، بينهم الموسيقي ليفي، و بمؤرخين قدموا إلي يد العون. وكان العمل شاقا، لأن العودة إلى فترة الستينيات كانت صعبة جدا، و قد كان علينا بذل مجهود كبير حتى نجعل الشخصيات تتحرك في فضاء عام1960. - لاحظت خلال الفيلم أنه كان هناك اشتغال على قصص موازية، لماذ بقيت وفيا لهذا النمط الذي رافق أفلامك السابقة؟ < هذه هي طبيعة عملي بحكم أنني دائما أنهج هذا الأسلوب الذي نجده في جميع أفلامي: في فيلم «وبعد» و«هنا ولهيه» و«أمواج البر»...إلخ، فهناك دائما مجموعة من القصص المتفرعة التي تصب كلها في قالب واحد و تتجمع في نهاية الفيلم وتنفجر. وأظن شخصيا أن الاشتغال على فرد واحد أو عينة واحدة يجعل المشاهد يشعر بالملل، خصوصا أننا بصدد الحديث عن سينما واقعية، إذ سيكون ثمة نوع من التجني على الموضوع في حالة الاقتصار على فرد واحد فقط داخل الفيلم. - نلاحظ أنك اخترت نهاية معينة تتمثل في تربية العائلة المسلمة لابني العائلة اليهودية بعد وفاة والديهما. وفي اللقطة الأخيرة، تقوم الزوجة المسلمة بمنح قلادة النجمة السداسية للطفلين اللذين صارا راشدين، لماذا اخترت هذه النهاية؟ < أكثر ما يمكننا أن نعبر به عن وفاء العائلة المسلمة هو أن تقوم برعاية أبناء العائلة اليهودية، خصوصا وأن الزوجة المغربية المسلمة كانت عاقرا، كما أن العائلتين كانت تجمعهما علاقة وطيدة، وبعد ذلك تقوم الزوجة المسلمة بتنفيذ وصية صديقتها اليهودية أمام قبرها في وسط نسمع فيه موسيقى إن شاء الله والأذان وأصوات الكنائس، والنهاية مناجاة الله وإقرار له بالوحدانية، وهذه النهاية التي اخترتها هي في حد ذاتها حوار للديانات والثقافات و تعبير عن الوفاء والتعايش. - هل هذه الرسالة جاءت في سياق صراع الديانات الذي يقال إننا نعيشه اليوم؟ < نعم الرسالة تندرج في هذا السياق، لأن السينما، بالنسبة إلينا كعرب ومغاربة، يجب أن تكون حاملة لرسالة وليس سينما تجارية.. يجب أن تحمل نوعا من الخطاب. - هل من متمنياتك أن يعرض فيلم «وداعا أمهات» في تل أبيب أو، على الأقل، أن يشاهده اليهود المغاربة؟ < ما قلته ليس فقط من متمنياتي، ففي الوقت الذي نجري فيه هذا الحوار بمدريد، فإن فيلم «وداعا أمهات» يعرض في القدس في مهرجان حوار الديانات، وهو مهرجان تابع لمهرجان «الديانات الآن» الذي نظمته الفاتيكان. مع الأسف، لم أستطع الحضور بحكم أن الظروف المادية للمهرجان لا تسمح لهم باستدعائي، كما أن الشيك المفتوح الذي منحتني إياه إسرائيل انتهى (يضحك ساخرا). وفعلا، الفيلم عرض مرتين في إسرائيل، وأنا سعيد بذلك لأنه يخاطب اليهود المغاربة الذين غادروا ويحاول سرد ظروف رحيلهم، والآن في ظل ما وقع، لا بد من العودة إلى التاريخ. - ألم تتلق انتقادات حول هذا الاختيار، خصوصا إصرارك على عرض الفيلم في إسرئيل؟ < هناك انتقادات الآن، يقولون، مثلا، إن الفيلم يدخل في إطار سياسة التطبيع وإنه أنتج بأموال إسرائيلية، يعني مجرد خرافات، لكن من أراد الاطلاع على العقود المبرمة مع المعابد التي تم فيها التصوير وميزانية الفيلم والديون التي مازالت بذمتي، فأنا مستعد لذلك.. الفيلم أنجزته تعزيزا للحوار بين الديانات، وأظن أنه بدأ يعطي نتائجه، إنه فيلم استطاع الدخول إلى مجالس الشيوخ بدول أوربية، كفرنسا وبلجيكا، وأظن أنه مستقبلا سيعرض في الولاياتالمتحدة إضافة إلى حضوره في جائزة الأوسكار، لأنه لأول مرة يمكن للمغرب أن تكون له حظوظ في الوصول إلى نهائيات الأوسكار، ويمكن أن يكون هذا الفيلم سببا في ذلك، ومجموعة من المنتقدين يقولون إن الفيلم يتلقى دعما من طرف اللوبيات اليهودية. - لا علاقة للوبيات اليهودية بفيلمك؟ < لا علاقة لها بفيلمي، ياليت ذلك كان ممكنا، لأنني كنت أتمنى أن تتبني جهة ما فيلمي، لأنه يعاني من التهميش في المغرب، وأجد نفسي أدافع عن راية وطني لوحدي في الوقت الذي يخصص فيه الإسبان إعلانا مهما للفيلم الإسباني المرشح لجائزة الأوسكار. على أية حال، فالقافلة دائما تسير والكلاب تنبح.