في هذا الحوار، يقدم مولاي الحسن العلوي، المستشار الأول لرئيس الهيئة المركزية لمحاربة الرشوة، تقييمهم لخمس سنوات من عمل الهيئة، والعراقيل التي واجهت قيامهم بالمهام التي أنيطت بهم منذ تأسيسها سنة 2007، وأهم الضمانات التي قدمت إليهم مع الصيغة الجديدة للهيئة في دستور 2011، وموقع الجهاز القضائي من القضايا التي ستطرح مستقبلا عليها، خاصة في ظل الاتهامات الموجهة إلى الجسم القضائي، في أفق تحسين مرتبة المغرب على صعيد المؤشرات الدولية في محاربة الفساد. - ما هو تقييمك لعمل الهيئة المركزية لمحاربة الرشوة، في أفق تحولكم إلى مؤسسة دستورية بصلاحيات أوسع؟ مرسوم 13 مارس 2007، الذي أسس للهيئة المركزية للوقاية من الرشوة، جعلها كإطار تابع للوزير الأول، تهدف إلى الوقاية من الرشوة، وهو المرسوم الذي كان يوفر هيكلة خاصة منفتحة على المجتمع، ويوفر لها مهاما متنوعة، تشمل التنسيق والإشراف والاستشارة والاقتراح والتقييم وتجميع المعطيات والتبليغ عن الرشوة... إلا أن هذا المرسوم جاء قاصرا لعدة اعتبارات، أولها أن التوصيف القانوني للهيئة بقي غامضا، وضعف الاستقلاليتها على المستوى الإداري والمالي، إضافة إلى محدودية مجال تدخلها الذي كان ينحصر في الأفعال التي يجرمها القانون الجنائي، مثل الرشوة والاختلاس... كما تجلى هذا الضعف كذلك في عدم توضيح هذه المهام بالضبط، ليبقى الكثير منها فضفاضا، قبل أن نصطدم خلال الممارسة الفعلية على مدى خمس سنوات بعدة عراقيل، منها على الخصوص صعوبة الحصول على المعلومات، محدودية انخراط الإدارات العمومية، هشاشة موقع الهيئة في مسار تنفيذ المقترحات، بحيث لا يكون بإمكانها إلزام مختلف الهيئات بمقترحاتها، فضلا عن الكثير من الصعوبات المادية التي كانت تحول دون أن نوظف الكفاءات البشرية اللازمة من أجل إنجاز المهام التي أنيطت بالهيئة. ينضاف إلى كل النقط السلبية السابقة، النقص الواضح في غياب بعد المكافحة، وهو ما يرجع بالأساس إلى عدم تمتع الهيئة بالصلاحيات اللازمة للقيام بتحقيقات أو تحريات مباشرة حول المعلومات التي تصل إلى علمها، لكنها تكتفي بمعالجة الشكايات التي تصلها لتحولها بعد ذلك إلى السلطات المختصة ويقف الأمر عند ذلك، لكن يجب علينا مستقبلا أن نصحح هذا الوضع، لأنه إذا أحلنا ذلك على الاتفاقية الأممية لمكافحة الفساد، والتي تعتبر مرجعية في هذا المجال، فإننا نجدها تنص على الاستقلالية وتؤكد على البعد الوقائي وبعد المكافحة، وهو ما يعني وجود عدة فوارق بين القانون المنظم للهيئة، وما تنص عليه الاتفاقية الأممية في مجال مكافحة الفساد. ونحن نعلم أن الحراك المجتمعي الذي شهده المغرب، جاء للمطالبة بالتصدي لسياسة الإفلات من العقاب وإسقاط الفساد، مع ضرورة استعادة الأموال المنهوبة والقطع مع مظاهر الاحتكار واقتصاد الريع، من أجل زعزعة الركائز التي تقوم عليها منظومة الفساد. وتفاعلا منا مع هذه الشعارات، طالبنا بدورنا بإعادة النظر في الإطار القانوني للهيئة، من أجل منحها صلاحيات أكبر وفعالية أكثر، مع مراعاة الاختصاصات الممنوحة للمؤسسات الأخرى العاملة في المجال، لتأتي الاستجابة الملكية سريعة لهذه المطالب باستقبال جلالة الملك لرئيس الهيئة. ويؤكد بيان الديوان الملكي، بعد ذلك، يوم فاتح فبراير، على إصدار تشريع جديد يمنح للهيئة الاستقلالية المطلوبة، وتوسيع صلاحياتها لتشمل المكافحة والوقاية، وتخويلها سلطة التصدي للفساد بجميع أشكاله، وهو ما ترجم في دستور 2011 الذي ثبت استقلالية الهيئة، وغير اسمها إلى الهيئة الوطنية للنزاهة ومكافحة الرشوة والوقاية منها، إضافة إلى مبدإ الاستقلالية وفق ما ينص عليه الفصل 159، وحدد حصريا مقتضيات تأليفها وصلاحياتها وتنظيمها وسير عملها لتكون بمقتضى قانون، وذلك ضمانا لاستقلاليتها التامة، إضافة إلى تنصيص الدستور على توسيع مجال تدخل الهيئة ليشمل جميع أفعال الفساد، وليس الاقتصار على الرشوة فقط. - ما هي الضمانات التي قدمت لكم، أو التي تطالبون بها أنتم في الهيئة، حتى لا يتكرر نفس سيناريو النسخة الأولى؟ ضمانتنا الآن هي وضوح المرجعيات، سواء الدستور المغربي أو الاتفاقية الأممية لمحاربة الفساد، ونحن بادرنا إلى إعداد مشروع وتقديمه للحكومة، وقمنا بمشاورات واسعة مع جمعيات المجتمع المدني العاملة في المجال، من أجل تحقيق الإجماع حول المشروع الذي يسمح بتنزيل مبادئ الدستور الخاصة بالهيئة، حتى نكون في مستوى التطلعات المعقودة علينا مستقبلا. - ما هو موقع الجهاز القضائي من القضايا التي ينتظر أن تعرض على الهيئة في صيغتها الجديدة، خاصة أن اتهامات الرشوة والفساد لا زالت تحوم بقوة حول هذا الجهاز في حد ذاته؟ أتفق معك حول كون قطاع العدل عموما، بما فيه القضاء والمهن القضائية، هو موضوع إصلاح شامل في الوقت الراهن، والهيئة تساهم بفعالية في مسلسل الإصلاح المتمثل في الحوار الوطني حول إصلاح منظومة العدالة، من خلال ترؤسها للجنة «تخليق العدالة والمهن القضائية»، وللأمانة التاريخية، فإن الهيئة خلال تقريريها الأول والثاني قامت بإنجاز تشخيص مفصل لأعطاب الجهاز القضائي، مساهمة منها في مسلسل الإصلاح. وبما أن الجهاز القضائي يمكن أن يكون طرفا في الفساد وطرفا في محاربته أيضا، فيتوجب علينا العمل على واجهتين، الأولى شفافية ونزاهة العمل القضائي، إضافة إلى استقلالية هذا الجهاز، وكل محور من هذه المحاور موجود في التقارير التي أنجزناها سابقا، وأرسلناه إلى الجهات المعنية، مع ضرورة العمل على تطوير تكوين القضاة، وإنشاء محاكم خاصة بجرائم الفساد، من أجل استكمال منظومة الفساد إلى جانب باقي المؤسسات العاملة في الميدان، منها المجلس الأعلى للحسابات والتفتيشيات التابعة للوزارات، وهي كلها أدوات للمراقبة تنضاف إليها الهيئة والجهاز القضائي. - بماذا تفسر غياب القضاة عن عضوية الهيئة، على غرار المجلس الأعلى للحسابات؟ التفسير الوحيد لهذا الغياب هو استقلالية الهيئة عن باقي السلط الأخرى، لأن الفصل 159 جاء واضحا بالنسبة لهيئات الحكامة عموما، والتي منحها مسافة واستقلالية على مجموعة من المستويات، بداية بمسألة التعيين الذي حصره المجلس الدستوري بيد جلالة الملك، من أجل ضمان استقلالية هذه الهيئات (ومنها هيئتنا) عن السلطة التنفيذية أو التشريعية. الاستقلالية تترجم أيضا في التكوين الداخلي للهيئة، والذي يعتمد على الانفتاح على فعاليات المجتمع المدني، بحيث ينص مرسوم 2007 على أن الجمع العام للهيئة يتكون من مجموع الجمعيات العاملة في المجتمع المدني وعدد من الجمعيات المهنية للمحامين، وهي كلها هيئات مستقلة وممثلة لشرائح واسعة من المجتمع، وغيابها كان سيمثل خللا بالنسبة للاتفاقية الأممية لمحاربة الفساد. أما بالنسبة للحكومة وباقي الأجهزة الأخرى، فيجب أن تبقى رمزية، لأنها تمثيلية مهمة، شرط أن تبقى رمزية حتى لا تؤثر على استقلالية الهيئة، وتحافظ على توازن القوى الممثلة فيها، فلا يمكن أن تكون تمثيلية الحكومة كبيرة جدا، ونفس الشيء بالنسبة إلى القضاء الذي قد يكون طرفا في قضايا فساد، وبالتالي وجب ترك مسافة معقولة بين الهيئة وباقي السلطات الدستورية، بما فيها السلطة القضائية. واستقلالية الهيئة لا تعني إقصاء الكفاءات من العضوية، إذ يمكن أن نجد أشخاصا ذوي تكوين قضائي أعضاء في جمعيات ممثلة في الأجهزة التقريرية للهيئة، وهذا أمر مطلوب، لأن غايتنا هي جلب الكفاءات إلى الهيئة، كما أن الاستقلالية لا تعني إقصاء السلطات العمومية والقضاء من مجال الشراكة معنا، لأن مفهوم الشراكة جاء مفصلا في مشروع الهيئة المقبلة، على عكس مرسوم سنة 2007، لأنه حدد بدقة المجالات التي يمكن عقد شراكات بخصوصها. - لماذا هذا الإصرار من طرف التقارير الدولية على أن المغرب لا زال يراوح مكانه في مجال محاربة الرشوة، رغم كل الجهود التي ذكرتها سابقا؟ هذه مؤشرات لإدراك مدى تفشي الرشوة، وأنا لا أطعن فيها على الإطلاق، ولكنها تبقى مؤشرات لكي نستأنس بها وتساعدنا على تطوير عملنا وتحسين مرتبتنا نسبيا، لأن هذه المؤشرات تبنى على استطلاعات خاصة بعينات معينة، وهي العينات التي تتأثر بالظرفية السياسية والمناخ العام، لتبقى مؤشرات تقريبية، أما الآن، فيجب علينا تعميق المعرفة الموضوعية بظاهرة الفساد، ومعرفة أسبابه وتجلياته، وإعداد خرائط لمخاطر الفساد قطاعيا. وهو ما تلزمه أدوات مختلفة عن المؤشرات التقريبية، وعلى رأسها مؤشر الإدراك والبارومتر العالمي ومؤشر التنمية البشرية، والتي تتقاطع كلها لتظهر بأن ظاهرة الفساد لا زالت متفشية في المغرب. ثم إن تنزيل مقتضيات الدستور لن يظهر في الوقت الحالي، ولكن عندما ستكتمل منظومة محاربة الفساد بالكامل، وهو ما يحتاج إلى وقت أكثر ومجهودات جبارة من الجميع.