تعقبنا خيوط التحقيق الذي تقدّمه «المساء» لقرائها بداية من ولاية أمن أنفا، التي ما زالت عناصر الفرقة الولائية للشرطة القضائية فيها تنتظر انتدابا من شركة اتصالات للتصنت على مكالمة مبحوث عنها تزود مشتبَهاً فيهم بأدوية مهرّبة ينقلونها، بدورهم، إلى أسواق معروفة في الدارالبيضاء. وقال ضابط الأمن، الذي قاد عملية التتبع لفك خيوط الشبكة، ل«المساء» إن عيّنات من الأدوية والمواد المحجوزة جرى إرسالها إلى المختبر العلمي للشرطة للتعرف على مكوناتها وآثارها على الصحة، في انتظار تقرير مفصل عن كل دواء ومكوناته، إضافة إلى مشروبات تروج إشهاراتِها كثيرُ من الفضائيات على أساس أنها تزيد من جرعات «الفحولة».. ويوجد ضمن الأدوية المحجوزة دواء عبارة عن شراب مستخلص من الأعشاب كتب عليه أنه «أنتج في برشيد»، دون تحديد عنوان المختبر أو تحديد مكان صناعته، الأمر الذي أثار فضولنا وجعلنا نعرّج نحو عاصمة «ولادْ حْريز»، حيث قادنا صديق إلى أكثر من 10 محلات زارتها «المساء»، وقد حوّلها أصحابها إلى «صيدليات» قائمة بذاتها.. ففي محل تجاري واحد في حي السلام، تباع «ساشية» دواء رينوميسين للمصابين بالزكام ب3 دراهم، إضافة إلى الأسبيرين، الباراسيتامول، كلارادول، سيكرام، أموكسلين، أوراسلين، دوليبران، أسبيجيك، أنالفا، والحقن والمراهم الخاصة بالعيون وأدوية أخرى ومستلزمات طبية كثيرة.. بعيدا عن المحلات التجارية، التي اعتاد سكان برشيد شراء الأدوية منها، نظرا إلى ارتفاع أثمنة الأدوية في الصيدليات، كانت الوجهة إلى أطراف مدينة برشيد، وحي كربلاء الجديد، تفيد المعلومات التي حصلت عليها «المساء» أن مختبرات سرية لصناعة الأدوية في برشيد يقف وراءها مسؤول سبق طرده من مختبر أدوية معروف في الدارالبيضاء، كان إلى وقت قصير مسؤولا عن توزيع الأدوية على المصحات الخاصة والصيادلة في مدن مختلفة في المملكة، وبعد طرده اقتنى شقتين ضمن مشروع سكنيّ جديد ليحوّل أحدَهما إلى مخزن للأدوية المُهرَّبة أو الصالحة التي يحصل عليها «بطريقته الخاصة» من مختبرات ربط مع مسؤوليها علاقات كبيرة، إضافة إلى شقة أخرى أصبح يصنع فيها «سيرُو» معروف بفتحه للشهية ويلقى إقبالا غير مسبوق في كل من الدارالبيضاءوبرشيد. وحتى تكتمل تفاصيل الصورة وكشف النقاب عن المد الذي يقوده مجهولون لإغراق أماكن معينة بأدوية مُهرَّبة، غيّرْنا الوجهة نحو سوق «الجميعة» في الدارالبيضاء، الذي أصبح قبلة لزبناء من نوع خاص لا يطلبون «قاعْقلّة وبْسيبيسة».. بل أصبحوا مُدمني وصفات خاصة، منها دواء «ماكسمان»، المهرَّب من إسبانيا، والذي يُستعمَل كمحلول ينضاف إلى «البابونج» بعد غليه في الماء، لتنضاف إليه «حبة العزيز» ليعطيّ وصفة خاصة بالرجال «الأشدّاء».. يلهث بعض «العشابة» وراء مهرّبي أدوية مبتدئين، ما أتاح لصحافيّ «لمساء» فرصة انتحال صفة مهرّب مختص في العقاقير الجنسية.. وبعد حوار «مشوّق»، اطمئنّ أحد «العشابة» الذي استقر طلبه على دواء «ماكسمان» بسعر 40 درهما عن كل علبة مهرّبة، إضافة إلى دواء «fortecortin»، الذي تبقى أهم آثاره الجانبية الزيادة في الوزن، والذي يُخلَط، بدوره، مع عدة أعشاب ب«الجميعة»، أهمها «الكثيرة». وبعيدا عن «العشابة» ودكاكين برشيد، التي تحولت إلى «صيدليات» تبيّنَ أن كل الخيوط التي تتبعتها «المساء» تشير إلى أن ترويج الأدوية والمعدّات الطبية المغشوشة والمزيفة مصدره المنطقة الشمالية عبر سبتة ومليلية المحتلتين، إضافة إلى منطقة الزويرات في موريتانيا. وحسب مسؤول سابق في أحد مختبرات صناعة الأدوية، فحتى مادة الأوكسجين، التي تستعمل لأغراض طبية في وحدات الإنعاش والعناية الفائقة وأثناء العمليات الجراحية وأمراض الجهاز التنفسي، على وجه الخصوص، أصبحت بعض المصحات الخاصة تُقبل عليها، دون اكتراث للمعايير والمواصفات الطبية والعلمية والجودة المطلوبة لضمان أمن وصحة المرضى. وقال رئيس الشبكة المغربية للدفاع عن الحق في الصحة ل«المساء» إن ظاهرة المُعدّات الطبية المزيفة والمغشوشة هي من الأشياء المسكوت عنها، والتي تعرف رواجا واسعا على المستوى الوطني، إما عبر صناعة محلية مزيفة أو عبر استيرادها من الخارج، ويتم استعمالها داخل المستشفيات والمراكز الصحية والمصحات الخاصة لكونها تظل بعيدة عن المراقبة والترصد. كما أن الأغلبية الساحقة من المهنيين لا يعيرون أي اهتمام لجودة وسلامة هذه المعدات واللوازم الطبية، رغم أنها شكلت، في أكثر من حالة، سببا رئيسيا في ارتكاب أخطاء مهنية أثناء العمليات الجراحية أو انتقال العدوى والتعفنات داخل المستشفيات والمصحات الخاصة. مختبرات سرية لإنتاج أدوية وتزوير أخرى، ومخازن لأدوية منتهية الصلاحية، وشبكات دولية لإغراق المغرب بأدوية مهرّبة، ومبحوث عنهم حُررت في حقهم مذكرات وطنية ودولية، ورجال أمن ما زالوا ينتظرون انتدابا من شركة اتصالات، وتقرير من مختبر الشرطة العلمية لفك خيوط لغز اعتقال ملتحٍ وامرأة حُجزت لديهما أدوية صنعت في برشيد، و«عشابة» توصلوا إلى آخر وصفات «التساخينة» بإضافة دواء «ماكسمان» المهرّب من إسبانيا إلى أعشاب غريبة، ودكاين تحوّلت إلى صيدليات تبيع عشرات الأدوية بوصفات كتبت باللغة الصينية أو الإسبانية دون مراقبة.. كيف أصبحت لوبيات التهريب تتفنن في بيع أدوية ومستحضرات تجميل فاسدة قادمة من خارج الوطن؟ وكيف تحولت شقق في برشيد إلى مختبرات سرية؟ وكيف تخلى «عشابة» سوق «الجميعة» في الدارالبيضاء عن «بسيبيسة و«قاعقلة» لتحل محلها وصفات بأدوية صيدلية مخلوطة بالأعشاب لعلاج العجز الجنسيّ وأمراض أخرى؟
«المساء» تتعقب خيوط تهريب الأدوية وتستمع إلى رواية الأمن
ظهرت خيوط الكشف عن شبكة وطنية لتهريب الأدوية والعقاقير الجنسية في إطار عملية التتبع والمراقبة التي باشرتها عناصر الفرقة المتنقلة للأبحاث والتدخلات، التابعة للمصلحة الولائية للشرطة القضائية، حين قادتهم التحقيقات إلى سوق «كراج علال»، الشهير في الدارالبيضاء، حيث ضبطت امرأة لم تتجاوز عقدها الرابع وفي حوزتها أدوية مختلفة تحمل جلها كتابات باللغة الصينية٬ كما كتبت البيانات الداخلية لبعضها باللغة الإسبانية. حُجزت لدى المرأة -التي صرحت أمام عناصر الأمن بأنها لا تعرف القراءة أو الكتابة، واكتفت بالبصم على محضرها القانونيّ- 50 علبة تضمّ أدوية عبارة عن أقراص ومواد أخرى تقدّم على أنها من الطب التقليدي أو لمعالجة أمراض الكليّ وتعرَض في عدد من أسواق الدارالبيضاء. حسب ما عاينت «المساء» حين لقائها ضابط الأمن الذي قاد عملية التتبع لفكّ خيوط الشبكة، يوجد ضمن الأدوية المحجوزة دواء عبارة عن شراب مُستخلَص من الأعشاب كتب عليه أنه أنتج في برشيد، دون تحديد عنوان المختبر أو تحديد مكان صناعته. وقال ضابط أمن ل»المساء» إن عيّنات من الأدوية والمواد المحجوزة جرى إرسالها إلى المختبر العلمي للشرطة للتعرف على مكوناتها وآثارها على الصحة، في انتظار تقرير مفصل عن كل دواء ومكوناته، إضافة إلى مشروبات تروّج إشهاراتِها الكثيرُ من الفضائيات، على أساس أنها تزيد من جرعات «الفحولة».. الأدوية التي تنتظر دورها في مختبر الشرطة التقنية والعلمية معروفة في سوق التهريب، كما عاينت ذلك «المساء»، ومنها «fortecortin»، الذي تبقى أهم آثاره الجانبية الزيادة في الوزن، ما يجعل عددا من «العشابة» يخلطونه مع عشبة معروفة باسم «الكثيرة»، وتقبل عليه فتيات مهووسات بالجسد المكتنز وأشياء أخرى.. وحسب تقرير سابق للشرطة العلمية التي تسلمت المحجوز، فإن «فورتاكورتين» هو دواء للحقن، وهو مستحضر كورتيكوستيرويدي، «فعال وقويّ التأثير ومفعوله متعدد الجوانب، وجرعته المناسبة يجب أن تحدد بواسطة الطبيب المعالج»، كما أشار التقرير إلى أن الدواء الذي يروج بثمن بخس في الأسواق ليس نفسه الموجود في الصيدليات، بل إنه مُهرَّب من إسبانيا عبر مليلية المحتلة، وخلص التقرير إلى أن الدواء المحجوز قد انتهت صلاحيته منذ سنة!.. وكشف التقرير نفسه أن الدواء يشكل خطرا كبيرا أثناء الحمل أو بالنسبة إلى السيدات المحتمل تعرّضهن للحمل، إذ يحتاج إلى موازنة بين المنافع المتوقعة للدواء مقابل أي أضرار قد تحدث للأم أو الجنين في المرحلة المبكرة أو للجنين في المرحلة المتأخرة. كما سيتعرّض مواليد الأمهات اللاتي تلقين جرعات كبيرة من «الكورتيكوستيرويدات» أثناء الحمل لنقص نشاط بعض الغدد. وقال ضابط أمن في الشرطة الولائية لأمن أنفا الدارالبيضاء ل«المساء» إن ضحايا الأدوية المهربة لا يمكنهم التبليغ عن إصابتهم بأضرار جانبية أو تعرّضهم لتسممات جراء اقتناء أعشاب مخلوطة بأدوية مهرّبة، أو تعاطي أدوية مزورة، مشيرا إلى أن المتهمة «ف. و»، والتي كانت تعيش من تهريب المواد الغذائية الاسبانية، التقت امرأة أخرى في تطوان كانت تسلمها أكياسا صرحت بأنها لم تعرف ما في داخلها، وكانت بدورها تسلمها إلى مجموعة من «العشابة» في سوق «الجميعة» في الدارالبيضاء. ومن بين الأدوية المحجوزة، التي أصبحت تُتداوَل أيضا بشكل ملفت للنظر دواء «max man»، الذي كُتب على وصفته باللغة الإسبانية، إنه مجموعة من الأعشاب التي اختيرت بعناية بعد سنوات من البحث والدراسة «لتقوية وتعزيز القدرة والرغبة الجنسية وتأخير القذف»، إضافة إلى أنه «يساعد على زيادة ضخّ الدم في أنسجة العضو الذكريّ، مما يؤدي إلى أقوى درجات الانتصاب، حيث إن هناك نسبة 20 إلى 30 % من الرجال لا يحصلون على الانتصاب الكامل الطبيعي فيفقدون جزءا من هذا الحجم أثناء العملية الجنسية. وجدت «المساء» أن دواء «ماكسمان» يخلط ببعض الأعشاب، حسب تقرير أمنيّ سابق، ليباع بأزيدَ من 600 درهم للكيس الواحد. وحسب «عشاب» معروف في سوق «الجميعة» فإن الدواء يشترى من المزودين ب150 درهما للعلبة الواحدة، ويمكن أن يخلط مع أعشاب ليعطيّ 20 كيسا يدّعي أصحابها أنها عشبة هندية تمنح القدرة على الانتصاب في أي وقت يشاء متناولها خلال ال168 ساعة، كما تعطي الشعور بالقوة والثقة في النفس، وتطول فترة الجماع دون الحاجة إلى استخدام أي شيء، ما جعل اللاهثين وراء هذه العشبة، التي أطلق عليها «العشابة» اسم «القاصْحة»، بالمئات رغم ندرتها في السوق أو بيعها سرا للزبناء «المخلصين» فقط. وتبقى الحلقة المفقودة لدى رجال الأمن الذين التقتهم «المساء» لكشف لغز المزود الرئيسي لعدد من المدن بالأدوية والعقاقير الجنسية، امرأة لم يَجر كشف هويتها، رغم توفر أمن الدارالبيضاء على رقم هاتفها المحمول، حيث ينتظر الكل انتدابا من شركة اتصالات هاتفية، قصد التصنت على هاتفها ورصد مكانها وعلاقاتها ومصدر الأدوية التي «أغرقت» بها أسواق شعبية في الدارالبيضاء ومدن أخرى. لم يستطع رجال الأمن انتزاع أقوال يمكن أن تكشف الوجه الآخر للمتاجرين في الأدوية المهرّبة من شمال المملكة وشرقها إلى الدارالبيضاء، فحتى الاستماع إلى «ع. ن.»، الملتحي الذي لم تتجاوز دراسته الشهادة الابتدائية، والذي ضبطت في حوزته عقاقير مهيّجة أهمها دواء يسمى «ملك النمور»، وهو مهيّج تروّج له أكثر من فضائية، إذ يتجاوز ثمنه 500 درهم، غير أن الملتحيَّ استطاع أن يحصل على نسخ مقلدة له يبيعها بأقلّ من 50 درهما ل«عشابة» يضيفون «لمستهم» الخاصة على الدواء بعد خلطه بأعشاب خاصة. أطباء سوق «الجْميعة» في سوق «الجْميعة»، المتاخم لشارع محمد السادس، الذي يشقّ قلب العاصمة الاقتصادية، يوجد بائعو منتجات طبية مصنعة من الجلود وأسنان الحيوانات وقشور الفواكه والنباتات المجففة والأعشاب اليابسة وأشياء أخرى غريبة لا يمكن التنبؤ بدواعي عرضها.. أزيد من 50 كشكا صغيرا علقت أمام أبوابها يافطات تحمل أسماء من قبيل «الشريف الإدريسي» و«أولاد الهادي بنعيسى» و«بنت لالة عيشة».. إحالة على أضرحة وأولياء وبعض رموز الشعودة وإشارة إلى أصحابها، الذين سُجِّلت بأسمائهم رخص المحلات التي تبيع منتجات تصلح لكل الأمراض، بما فيها المستعصية التي عجزت أدق تخصصات الطب الحديث عن تشخيصها. بعيدا عن الأعشاب الموجودة بكثرة في كل المحلات الضيقة، ك«البوة، الفوة، الخياطة، بسيبيسة وقاعقلة، والكثيرة»، أوهمْنا صاحب محل تجاري -لم يتجاوز عقده الثالث- بأننا نتاجر في أدوية مُهرَّبة من موريتانيا، يمكن الاعتماد عليها لتحضير وصفاته أو خلطها بأعشاب لتكون فاعليتها أكبر، بعد إقناعه بقرابتنا من «الشريف»، الذي اعتقلته عناصر الأمن في الدارالبيضاء مؤخرا، بعد ضبطه متلبسا بحيازة كميات كبيرة من المُهيّجات الجنسية التي كان يزود بها بعض العشابة، الذين يوجد أحدهم الآن في حالة فرار، بعد أن أوصد باب محله الصغير في سوق «الجميعة».. أبدى الشاب الثلاثينيّ رغبة في الحديث مع صحافي «المساء» المنتحل صفة «عشاب». قال العشاب الصغير، الذي تدلت فوق رأسه نسور، بمناقرها المعقوفة وجلود ذئاب وثعالب وقرون غزلان وسحالي محنطة.. إن أهم زبنائه هم من طالبي «التساخينْ»، مشيرا إلى كيس يقوّي القدرة الجنسية ويجعل عمر الجماع طويلا.. وقال إن أغلب أصحاب المحلات الصغيرة يعتمدون على الأعشاب فقط في تجارتهم، غير أن ثلاثة محلات كسبت في وقت قصير عددا كبيرا من الزبائن، إذ كان أصحاب هذه المحلات يتوفرون على وصفات خاصة مخلوطة بأدوية للمصابين بأمراض المعدة أو فقر الدم وحتى ارتفاع الضغط الدمويّ، مشيرا إلى تعاملهم مع شخص يدعى «مبارك»، معروف بتزويده لعدد كبير من المحلات التجارية في الدارالبيضاء، بأدوية من قبيل (أسبرو، ودوليبران، وكلانماضول).. سبق أن اعتقلته عناصر أمن المفوضية الجهوية للشرطة في سيدي بنور بعد ضبطه متلبسا ببيع كمية كبيرة من الأدوية الطبية، عبارة عن أقراص، داخل فضاء السوق القرويّ الأسبوعي، المعروف ب«ثلاثاء سيدي بنور»، غير أنه بعد إخلاء سبيله عاد إلى مزاولة نشاطه المتمثل في تهريب الأدوية المزورة من موريتانيا ومن شرق المملكة قصد توزيعها بطريقته الخاصة في أحياء ودروب الدارالبيضاء. بدا الشاب، الذي كان يرتدي وزرة بيضاء محاطا بأزيد من 200 قنينة زجاجية لأعشاب صالحة لكل الأمراض، مثل «طبيب» مبتدئ يدافع عن نباتاته الكثيرة، التي قال إنها تتميز بأنها تمتلك قوة علاجية بناء على خبرات سابقة أو نصائح الأصدقاء، مشيرا بيده إلى نباتات طبية تستخرَج منها أدوية معروفة علميا ومدروسة من حيث التأثير والمضاعفات والتداخلات الدوائية، ليعلل قراره في الأخير بعدم حاجته إلى شراء أدوية مُهرَّبة، معضدا كلامه بقوله إن «البيضاويين أصبحوا يثقون في «العشابة» أكثر من الصيدليات». جعلنا إصرارنا على معرفة تقنيات «العشابة» لتحضير الوصفات الأكثر طلبا ندلي له بمحتوى تقرير سابق للشرطة العلمية في الدارالبيضاء، كشف أن دواء «ماكسمان»، المهرَّب من إسبانيا، يُستعمَل كمحلول ينضاف إلى «البابونج» بعد غليه في الماء لتنضاف إليه «حبة العزيز»، ليعطيّ الخليط وصفة خاصة بالرجال الأشدّاء.. بدا الاستغراب واضحا على محيا العشاب، الذي صرح سابقا أن أصحاب محلات كثيرة صاروا يلجؤون إلى الأدوية لخلطها مع الأعشاب، فكان أول سؤاله لنا «شْحال تقد تجيب ليا من قرعة ديال ماكسمان وبشحال؟»، قبل أن يوضح لنا أن معلوماتنا خاطئة وأن دواء «ماكسمان»، الذي أصبح مطلوبا في سوق «الجميعة»، يستعمل منه قرص واحد أو جرعة لتنضاف إلى الحلبة الخضراء والشمار والبابونج لتعطيّ الوصفة السحرية «التساخينة»، التي تعتبر آخر صيحات العشابة في سوق «الجميعة» في العاصمة الاقتصادية. اطمئن إلينا «العشاب» الصغير بعد أزيد من ساعة من الحوار، الممزوج بالحيطة والحذر، واستقر السعر على 40 درهما لكل علبة مهرّبة من دواء «ماكسمان»، الذي نال ثقة «عشابة» سوق «الجميعة» قبل الزبناء، مشيرا إلى أنه سيحتاج، في ما بعد، دواء «fortecortin»، الخاص بمرضى ضيق التنفس، والذي تبقى أهم آثاره الجانبية الزيادة في الوزن، والذي يُخلط، بدوره، مع عدة أعشاب في سوق «الجميعة» أهمها «الكْثيرة».. تسلمنا رقم الهاتف المحمول ل«العشاب» وحدّدنا موعدا بعد أسبوع بأحد أزقة درب السلطان، على أساس تسليمه البضاعة في شقته وتسلم المقابل، وودعنا السوق، مارّين بمئات الأعشاب التي غطيت لحمايتها من رذاذ مطر خفيف.. في الطريق اعترض سبيلَنا عشاب آخر بلغ من الكبر عتيّا، ليعرض علينا حبة «زلوم» (لكسب ثقة الناس) ب200 درهم، وحبّة «العشق» (لجعل شخص يقع في حبنا بجنون) وهي تكلف حوالي 300 درهم.. قابلناه بابتسامة خفيفة دون أن نعرض عليه «صفقتنا» الصحافية الخاصة لشراء دواء «ماكسمان» وكشف لغز «عشابة» يستبيحون أدوية مغشوشة لخلطها بأعشاب يدّعون أنها تعالج كل الأمراض العصية. مختبرات سرية في برشيد، عاصمة «أولاد حْريز»، تعقبنا الخيط الذي كانت بدايته بيد عناصر الفرقة الولائية الجنائية في الدارالبيضاء، حين حجزت أزيد من 50 علبة دواء، من بينها عقاقير كتب عليها «صنع في برشيد»، دون تحديد الشركة المصنعة أو المختبر. وفي أحياء جديدة، متلاصقة في برشيد، تحمل أسماء شيعية جديدة، لسبب غامض، من قبيل كربلاء، والبصرة، والعزيزية.. دلنا صديق يعمل في محل تجاري قريب من ثانوية «أولاد حْريز» المعروفة، على «مختبر» سري لمعالجة الأدوية التي تقترب مدة صلاحيتها من الانتهاء، اتخذ صاحبه من شقتين في عمارتين حديثتي البناء مخزنا للأدوية القادمة من الجهة الشرقية أو من مختبرات معروفة، إضافة إلى شرائه أدوية مهرّبة يجري تغيير وصفتها الداخلية، التي تكون عادة مكتوبة بالاسبانية أو الصينية، كما يجري تزوير تاريخ انتهاء صلاحيتها في كثير من الأحوال.. استطاع صاحب المختبرين السريين، المعروف بلقب «الكْروسيست»، أن يحوّل أكثر من 10 محلات زارتها «المساء» إلى صيدليات قائمة بذاتها، ففي محل تجاري واحد في حي السلام، يبيع كيس «ساشية» دواء رينوميسين للمصابين بالزكام ب3 دراهم، إضافة إلى الأسبيرين، الباراسيتامول، كلارادول، سيكرام، أموكسلين، أوراسلين، دوليبران، أسبيجيك، أنالفا، والحقن والمراهم الخاصة بالعيون وأدوية ومستلزمات طبية أخرى غادرتْ مخزنَ الأدوية السري في حي «كربلاء» الجديد في برشيد لتستقرّ في رفوف داخلية لدكاكين معروفة في عاصمة «أولادْ حْريز». تفيد المعلومات التي حصلت عليها «المساء» بخصوص «مختبرات» سرية لصناعة الأدوية في برشيد أن وراءها مسؤولا سبق طرده من مختبر أدوية معروف في الدارالبيضاء، كان إلى وقت قريب مسؤولا عن توزيع الأدوية على كل من المصحات الخاصة والصيادلة في مدن مختلفة، وبعد طرده اقتنى شقتين ضمن مشروع سكنيّ جديد ليحول إحداهما إلى مخزن للأدوية المهرّبة أو الصالحة التي يحصل عليها «بطريقته الخاصة» من مختبرات ربط مع مسؤوليها علاقات وطيدة، إضافة إلى شقة أخرى أصبح يصنع فيها «سيرو» معروف بفتحه للشهية ويلقى إقبالا غير مسبوق في كل من الدارالبيضاءوبرشيد. سكان حي كربلاء لا يعرفون شيئا عن المختبر السري لصناعة الأدوية أو المخزن، الذي تحوّل إلى صيدلية مركزية، كل ما يعلمونه عن الطابق الثالث هو شقة «الطبيب» الذي يأتي إليها أحيانا حاملا علبا كارتونية تحمل اسم مختبر أدوية معروف في الدارالبيضاء، ليحول شقته إلى مخزن «ينافس» وحدة صناعة الأدوية في برشيد، التي أنشئت سنة 1995 قصد صناعة أدوية بتكلفة فاقت أكثر من 11 مليار درهم، حسب الشبكة المغربية للدفاع عن الصحة. أوقف «الطبيب» الغامض، الذي تحُوم حوله شكوك السكان، نشاطه مباشرة بعد اعتقال امرأة وشخص ملتحٍ في الدارالبيضاء ضبطت في حوزتهما أدوية وعقاقير لتقوية القدرة الجنسية.. غير أن أصحاب المحلات التجارية ينتظرون قدومه كل ثلاثة أشهر لتزويدهم بكميات كبيرة من أدوية مختلفة تدرّ على أصحابها أرباحا كبيرة، إضافة إلى امرأة كانت تدّعي أنها تقطن في حي المويلحة في مدينة الجديدة، كانت تزوّد عشرات المحلات في برشيد بكميات مختلفة من الأقراص الطبية المهرّبة، المعروفة باسم «درْدكْ»، والتي كانت تجلبها من موريتانيا، لتبيع العلبة الواحدة ب 40 درهما، ليعاد بيعها ب60 درهما من طرف أصحاب المحلات التجارية.. سوق الأدوية قال مسؤول في أحد المختبرات المعروفة السابقة ل«المساء» إن ثمن الأدوية المغربية التي تشترى في إطار الصفقات العمومية مرتفع مقارنة بأثمنة الصفقات العمومية لبلدان أخرى، لتبقى السياسة الدوائية في المغرب غيرَ واضحة المعالم ويظلَّ المواطن رهينَ لوبيات لا يهمّها سوى الربح. يتوفر «سوق الأدوية على أكثر من 5 آلاف نوع، حيث نجد، على سبيل المثال، أن الأدوية ذات التركيبة الكيميائية من مادة «أموكسلين» (Amoxicilline) توزع في السوق بأكثر من 20 اسما تجاريا (20 شركة) فهذا الخلل في الكم والكيف أدى إلى أسعار متباينة في أثمنة الأدوية المتوفرة على التركيبة الكيميائية نفسها داخل صنف الأدوية «الجنيسة» في ما بينها و«الأصلية» معا. ورغم القرار المتعلق بالمعادلة الحيوية للأدوية الجنيسة، الصادر في الجريدة الرسمية بتاريخ 12-06-2012، الذي يشجع الولوج إلى الأدوية الجنيسة، فان نسبة الأدوية الجنيسة لا تتعدى 30 في المائة»، يقول المسؤول نفسه. ويشير تقرير مكتب الدراسات الأمريكي «بوسطن للاستشارة» (BCG) وهو ثاني أكبر مكتب دراسات في العالم، إلى أن أسعار الأدوية المُتداوَلة في الأسواق الوطنية تختلف حسب العلامات التجارية، إذ يصل الفرق في بعض الأحيان إلى 600 درهم، وقد يصل إلى 300 % للدواء الواحد، حسب طرق توزيعه وأماكن بيعه، وهو الأمر الذي فطن إليه أصحاب محلات تجارية أصبحوا يبيعون الدواء بالتقسيط، مراعاة للقدرة الشرائية للمواطنين.. وقال مصدر «المساء» إن وزارة الصحة نهجت سياسة تصنيع الأدوية الأساسية لتزويد المستشفيات العمومية في إطار الصيدلية المركزية في الدارالبيضاء مند عدة سنوات. وبعد الاستفادة من قرض من البنك الدولي قامت وزارة الصحة بتشييد وحدة صناعة الأدوية في برشيد، قصد صناعة أدوية، وتم تجهيز هذا المشروع، الممتد على مساحة تقدر بحوالي 788.10م²، وبتكلفة فاقت أكثر من 11 مليار درهم، والمتوفر على أحدث الآلات العلمية لصناعة الأدوية، لكنه لم ير النور لأن من يقول صنع أدوية بأقل تكلفة يدرك أن هامش الربح أقل بالنسبة إلى مختبرات الأدوية، مضيفا أن هذا المشروع الضخم، الذي كان يستهدف الطبقات الفقيرة والمتوسطة من خلال هذا الاستثمار، لقيّ بعد إنجازه معارضة قوية من لوبي صناعة الأدوية في المغرب، لكونه سيمسّ في العمق مصالحهم ويهدد أرباحهم الضخمة في هذا المجال.. فعجزت الحكومة عن تفعيل أهداف المشروع ولجأت إلى تغيير الإطار القانونيّ للصيدلية المركزية في وزارة الصحة إلى قسم التموين، وأصبحت وزارة الصحة تلعب دور الوسيط بين مختبرات صناعة الأدوية والمستشفيات والمندوبيات والمديريات الجهوية التابعة لها، وضاعت استثمارات ضخمة في مشروع كلف خزينة الدولة ملايير الدراهم دون أن يرى النور وأجهزته تتلاشى اليوم أمام أعين الأطر الصحية العاملة في الصيدلية المركزية.. فضائح واتهامات بالجملة تنتهي كل الخيوط التي تتبعتها «المساء» إلى توجيه الاتهام لبعض مختبرات صناعة الأدوية، خاصة بعد أن وقف مجلس المنافسة على العديد من الممارسات المناهضة للمنافسة في مجال صناعة وتسويق الأدوية في تقريره الأخير حول الموضوع. ومن بين أخطر الانتهاكات في حق المرضى، التي وقف عليها المجلس، تواطؤ بعض الأطباء مع مختبرات لصناعة الأدوية من أجل توجيه مرضاهم من خلال وصف أدوية بعينها. والأخطر من هذا أنه بعد فحص هؤلاء الأطباء لمرضاهم، يملؤون استمارات تتضمن عددا من المعلومات عنهم وعن أمراضهم، مثل الجنس والسن، إضافة إلى معلومات تمكّن من التعرف على المريض والاتصال به، من قبيل اسمه الشخصي والعائلي ورقم هاتفه وعنوانه.. ويوجهون هذه المعلومات إلى مختبر صناعة الأدوية، مقابل «هدايا»، عينية أو مالية، تتراوح ما بين 200 و300 درهم عن كل استمارة.. وبعد ذلك، يتكفل المختبر بإتمام العملية من خلال الاتصال بالمريض على هاتفه الشخصي للتأكد من شراء واستعمال دوائه، واستبعاد أي إمكانية للجوء إلى الدواء المنافس، وهو الأمر نفسه الذي أكده مسؤول سابق في أحد المختبرات المعروفة في الدارالبيضاء، مشيرا إلى أن ظاهرة تهريب الأدوية ما زالت مستمرة بشكل ملفت للنظر، وإلى أن مخزنا سريا للأدوية في برشيد أو محلات بيع الأدوية ما هما إلا نقطة في واد».. واعتبر تقرير مجلس المنافسة، الذي توصلت «المساء» بنسخة منه، أن هذه الممارسات تعتبر انتهاكا واضحا للسر الطبي ولحقوق المريض، إذ يفرض القانون على كل مراقب أو متتبع للحالة الصحية لشخص مريض التزام السرية، التي تشمل كافة المعلومات حول المريض. وأشار التقرير إلى أنه، في حالة مرض التهاب الكبد الفيروسيّ، فإن مهني الصحة، الذي يكشف معلومات حول المرضى بهذا الداء لمختبر صناعة الأدوية، يتلقى «إتاوة» تعادل 1500 درهم.. وتضمّن التقرير أمثلة على ذلك، إذ أشار إلى أن مختبرا معروفا يقدّم، مجانا، لبعض مختبرات التحليلات البيولوجية التي تربطها معه اتفاقيات مجموعات تحليلات للكشف عن التهاب الكبد الوبائيّ، ومقابل ذلك يتعين على مختبرات التحليل البيولوجيّ تقديم قوائم المرضى المصابين بالالتهاب الكبدي، مع المعلومات التي تمكن المختبر المذكور من التعرف عليهم بوضوح، إذ يتم الاتصال على الفور بهؤلاء من طرف ممثلين تجاريين تابعين للمختبر لحثهم على الاستعمال «الحصريّ» للأدوية المصنعة من طرف هذا المختبر، وبالتالي استبعاد الأدوية المنافسة، علما أن الأدوية المُستعمَلة لعلاج هذا الداء تعتبر الأغلى، إذ يمكن أن يكلف العلاج ما يناهز 150 ألف درهم سنويا.. في السياق ذاته، أشار التقرير نفسه، في ما يتعلق بالمصابين بالسرطان، إلى أنه غالبا ما يتم تحديد المريض، ثم تعقبه من طرف بعض المختبرات، بمجرد تحديد المرض، وتستعين في ذلك بالعاملين في المجال الطبي أو شبه الطبي. وبعد ذلك يتصل الممثلون التجاريون لهذه المختبرات، الذين قال عنهم التقرير إنهم «يقيمون» في أجنحة الأنكولوجيا، بالمرضى الذين يكونون تحت الصدمة لمعرفة إصابتهم بالمرض، لتوجيههم إلى استعمال أدوية بعينها، بل يُوجّهونهم إلى «اختصاصي مرض السرطان الجيد»، الذي تربطه، بطبيعة الحال، علاقة بالمختبر المصنّع للدواء. وحسب التقرير نفسه فإن معظم الأدوية باهظة الثمن تسوَّق مباشرة من طرف المكتب التجاري للمختبرات. وبعد احتجاجات الصيادلة والتزامهم بتقليص هامش ربحهم إلى حدود 5 % بدل 30 %، في ما يتعلق بالأدوية باهظة الثمن، اضطرت المختبرات إلى التنازل، ووعدت بالتوقف عن بيع الأدوية المضادة للسرطان مباشرة إلى المرضى، لكنها ظلت «تنصح» هؤلاء بالحصول على أدويتهم من صيدليات معينة، بذريعة أنها الوحيدة التي تسوّق هذه الأدوية، ما اعتبره المجلس منافيا للمنافسة بين الصيدليات، ما دامت هذه المختبرات تقصي صيدليات أخرى من بيع هذه الأدوية. وتضمّنَ التقرير مجموعة من الممارسات المنافية للمنافسة، من قبيل احتكار مختبرات معينة لسوق بعض الأدوية، وتهريب بعضها للأرباح لفائدة الشركات الأم، واستعانة بعض المختبرات بدبلوماسية البلد الذي تنتمي إليه الشركة الأم من أجل الضغط على وزارة الصحة للقبول برفع أسعار بعض الأدوية التي تنتجها هذه المختبرات، وكلها أمور أنجبت ظاهرة التهريب وتهافُت كثير من المواطنين على أدوية تُعرَض في الأسواق بأثمنة أقلُّ بكثير من أدوية الصيدليات. «الغلاء سبب البلاء».. حسب تقرير للمنظمة العالمية للصحة حول السياسة الدوائية بالمغرب، فإن أسعار الأدوية مرتفعة بشكل غير مقبول، وأرباح الشركات تثير الاستغراب وتسيل اللعاب، حيث تحصل على أرباح مضاعَفة عن تلك التي تحصل عليها الشركة نفسها في دول المصدر، كما أنّ الثمن العموميّ للدواء المعمول به في المغرب غير عادل وغير شفاف، بحكم أن المواطن المغربي يؤدي ليس فقط هامش الربح، المحدد في 30 في المائة للصيدلي، بل يؤدي أيضا 10 في المائة للموزع و7 في المائة كضريبة على القيمة المضافة، أي أن المواطن يؤدي حوالي ضعف ثمن الدواء 47 % إلى الصيدليات والمُوزّعين ووزارة المالية.. وعن هذا الموضوع يعلق علي لطفي، رئيس الشبكة المغربية للدفاع عن الحق في الصحة، قائلا إن غلاء الأدوية في الصيدليات هو الذي يدفع المواطن إلى البحث عن أدوية بأثمان أقلّ، دون أن يعبأ إلى خطورتها، معلقا علي ذلك بقوله: «الغلاء هو سبب البلاء».. وتعتبر الشبكة المغربية للدفاع عن الحق في الصحة أن المواطن المغربي ينفق من جيبه، في المعدل العام لنفقات العلاج، ما يفوق 57 %، وقد تصل إلى 100 % أحيانا لدى الأسر التي لا تتوفر على أي تغطية صحية، ما دفع عددا من المصابين بأمراض مزمنة إلى الاستدانة المفرطة أو إلى بيع ممتلكاتهم من أجل البقاء على قيد الحياة.. ومن بين أهمّ الأدوية المهربة التي أصبحت لوبيات التهريب تتاجر فيها في الدارالبيضاء وفي مدن أخرى أدوية للمصابين بأمراض مزمنة، كالسكري وضغط الدم والسرطان وأمراض الكلي وارتفاع «الكوليسترول» في الدم والاكتئاب والاضطرابات النفسية. وتقارن الشبكة المغربية للدفاع عن الحق في الصحة، في تقرير لها، بين أسعار الأدوية في المغرب مع دول أخرى، كتونس ومصر والأردن وفرنسا، مشيرة إلى أن سعر الأدوية في فرنسا، مثلا، هو أقل من سعرها في المغرب بنسبة تتراوح بين 20 إلى 70 %.. ويبقى إقبال المواطنين على الأدوية المهرّبة، التي أصبحت تباع سرا وعلنا، في تزايد غير مسبوق أمام غياب نظام حقيقيّ شفاف لتحديد أسعار الدواء في المغرب، سواء كانت أدوية أصيلة أو أدوية مثيلة أو جنيسة، يضمن حصول المريض على دواء بسعر في متناوَله بالنظر إلى وضعه الاجتماعي. وكشفت الشبكة أن لائحة 320 دواء، الذي تم الإعلان عن تخفيض ثمنها، قد تم حصرها -حسب ما تتوفر عليه الشبكة من معطيات دقيقة- في الأدوية التي تدخل ضمن مشتريات وزارة الصحة مباشرة من الشركات عبر صفقات عمومية وبأسعار تفضيلية تقل عن تلك التي تحددها الدولة في الصيدليات من خلال «الثمن العمومي للدواء»، علما أن وزارة الصحة لا تقتني إلا الأدوية الجنيسة، وبالتالي فلا وجود لهذه الأدوية في الصيدليات ولا حتى ضمن مشتريات المستشفيات اليوم بنسبة تقارب 30 %، إضافة إلى أن المراكز الاستشفائية الجامعية الكبرى الأربعة التي تخصص أزيد من 40 % من نفقات التسيير لشراء الأدوية لا تستعمل هذه الأصناف من الأدوية، التي أشار إليها التقرير، وبالتالي فإن هذا الإجراء الجديد لن يستفيد منه المواطنون ولا صناديق التأمين الاجباري عن المرض ولا شركات التأمين الصحي، المُهدَّدة على المدى المتوسط، بالعجز والإفلاس إذا لم تتم المراجعة الحقيقية الجذرية والشاملة لأسعار الأدوية في المغرب، وفق تقرير الشبكة المغربية للدفاع عن الحق في الصحة. ويضيف التقرير نفسه أن عدد الأدوية التي مسّها التخفيض، والمحددة في 320 دواء، لا تمثل حتى 10 % من حجم السوق الوطنية، التي تروج ما يفوق 5000 دواء، إضافة إلى أن نسبة تخفيض أسعار الأدوية «وفق الثمن العمومي للدواء» تظل ضعيفة مقارنة حتى مع السعر المرجعي الحقيقيّ لما يسمى «أسعار المستشفيات»، بفارق كبير جدا يتجاوز 50 في المائة. ومن بين أهمّ ما أشار إليه التقرير التسترُ على فضيحة كبرى تتمثل في بيع الدواء نفسِه وبعلامات تجارية مختلفة بنسب متفاوتة، تصل أحيانا إلى 600 %، حسب التقارير المختلفة عن الموضوع، بعيدا عن أنظار مجلس المنافسة والوكالة الوطنية للتأمين الصحي، وهذه الأخيرة أصبحت، حسب التقرير، لا تلعب الدور المنوط بها في الحفاظ على التوازنات لضمان ديمومة نظام التأمين الإجباريّ عن المرض، بل انخرطت في مسلسل الرضوخ للوبيات القطاع الطبي والدوائيّ. ويعتبر التقرير، الذي يتهم شركات صناعة الأدوية في المغرب بمراكمة أرباح باهظة وخيالية على حساب جيوب المواطنين وصحة وحياة المرضى، وزارة الصحة بأنها ظلت على مدى عقد من الزمن تماطل في دفع أسعار الأدوية إلى الانخفاض، نظرا إلى تطبيقها لنصوص تنظيمية مُتجاوَزة تعود إلى سنة 1969 وما تتضمنه من ثغرات تستغلها شركات الأدوية للحصول على أثمنه مرتفعة، وخاصة تكلفة الإنتاج وأسعار المواد الأولية، إذ في كل مناسبة يتدخل اللوبي الدوائي بإمكانيته المالية الضخمة لتوقيف أي محاولة لمراجعة وإصلاح الاختلالات الكبرى التي يعرفها قطاع الأدوية في المغرب. صيادلة يرفعون شعار «الربح أولا» بعيدا عن وجدة وسوقها المعروف باسم «سوق الفلاح»، الذي تحوّل إلى صيدلية كبيرة «تفترش الأرض الخلاء».. صار أمراً «عاديا» ترويج الأدوية والمُعدّات الطبية المغشوشة والمزيفة، مصدرها منطقة الزويرات في موريتانيا، حسب مسؤول سابق في أحد مختبرات صناعة الأدوية، والذي أشار إلى ظاهرة تهريب مادة «الأوكسجين»، التي تستعمَل لأغراض طبية في وحدات الإنعاش والعناية الفائقة وأثناء العمليات الجراحية وأمراض الجهاز التنفسي على وجه الخصوص، والتي أصبحت بعض المصحّات الخاصة تُقبل عليها دون اكتراث للمعايير والمواصفات الطبية والعلمية والجودة المطلوبة لضمان أمن وصحة المرضى. وقال علي لطفي، رئيس الشبكة المغربية للدفاع عن الحق في الصحة، ل«المساء» إن ظاهرة المُعدّات الطبية المُزيَّفة والمغشوشة تعدّ من الممارسات المسكوت عنها، وتعرف رواجا واسعا على المستوى الوطني، إما عبر صناعة محلية مزيفة أو عبر استيرادها من الخارج، ويتم استعمالها داخل المستشفيات والمراكز الصحية والمصحات الخاصة، لأنها تظل بعيدة عن المراقبة والترصد. كما أن الأغلبية الساحقة من المهنيين لا يعيرون أي اهتمام لجودة وسلامة هذه المعدّات واللوازم الطبية، رغم أنها شكلت، في أكثرَ من حالة، سببا رئيسيا في ارتكاب أخطاء مهنية أثناء العمليات الجراحية أو في انتقال العدوى والتعفنات داخل المستشفيات والمصحات الخاصة.. وحسب تقرير للشبكة، فإن الدول الآسيوية مسؤولة عن أزيد من 35 % من الأدوية المغشوشة التي يتم ترويجها في السوق الدولية، كما أن 50 % من الأدوية التي يتم بيعها وترويجها عبر الأنترنيت هي أدوية مزوَّرة ومزيَّفة وخطيرة جدا على صحة الإنسان. وأشار التقرير إلى أن المغرب يتوفر على ما يناهز 10000 صيدلية، وبالمقارنة مع عدد السكان، فإن هذا الرقم هو ضِعف نظيره التونسي. وتحقق الصيدليات رقم معاملات يفوق 11 مليار درهم سنويا (دون احتساب المنتجات الموازية) وهو ما يعادل 1.1 مليون درهم للصيدلية الواحدة في السنة. وقد ركزت هيئة فدرالية للصيادلة على الوضعية المالية الصعبة، والحرجة أحيانا، لعدد كبير من الصيدليات، والتي لا تمكنها من الانخراط في سياسة الأدوية الجنيسة الأقلّ ثمنا من أدوية العلامات التجارية. ويحدد هامش ربح الصيدلي كنسبة مئوية من ثمن البيع للعموم (30 %). وكمثال للتوضيح وانطلاقا من ثمن دواء أوميبرازول، 310 دراهم، يحصل الصيدلي على 90.30 درهما، بما فيه الضريبة على القيمة المضافة. ومن ثمن الدواء نفسه تحت علامة مختلفة بثمن 42 درهما، يحصل الصيدلي على 12.60 درهما. وليس من الصعب إذن، خاصة بالنظر إلى وضعية عدد كبير من الصيادلة، حسب التقرير نفسه، ألا يوصوا بأقلّ العلامات ثمنا، ويقومون بذلك، أحيانا، عندما يلاحظون أن حالة المريض الاقتصادية لا تسمح له بشراء أدوية غالية.. من وجهة نظر قانونية، لا يملك الصيادلة حق استبدال الدواء. ليس للصيدليّ الحق في استبدال دواء ذي علامة غالية وصفه الطبيب بدواء أرخص، وعندما يكون المريض مستفيدا من تغطية صحية لا يُسمح بالتبديل ولو كان ذلك سيكلف المؤمّن تكلفة أكبر. وعندما لا يستفيد المريض من تغطية صحية، يلجأ الصيادلة إلى تبديل الدواء، رغم ذلك، إذا كانت وضعية المريض المادية لا تسمح له باقتناء الدواء. إن تعدد العلامات التجارية يجعل تدبير مخزون الصيدليّ من الصعوبة بمكان. فليس من السهل على الصيدلي أن يحفظ ضمن مخزونه 137 شكلا وعلامة مختلفة من الأموكسيلين و62 من الأموكسيلين كلافولانيك و60 من البراستامول و53 من ديكلوفيناك و34 من لأوميبرازول.. وعادة ما يضطر الصيادلة إلى الاحتفاظ بأشهَر العلامات التجارية (التي غالبا ما تكون أغلاها) وبعلامتين أو ثلاثة مختلفة، ليست الأرخص دائما.
أدوية تسيل لعاب «المافيا» دواء «Docétaxel» دوسيتاكسول دواء يوصف لعلاج سرطان الثدي، وتفوق تكلفة العلاج السنوية 50 ألف درهم. يباع هذا الدواء تحت 4 علامات، ويتراوح ثمن القنينة من فئة 80 ملغ بين 11244 درهما و 3825 درهما، حسب العلامة التجارية ومصدر الشراء.. ومن المهم هنا أن نشير إلى أن ثمن هذا الدواء نفسه في تايلاند انخفض من 5950 درهما إلى 950 درهما. وفضلا على ذلك، وبالرجوع إلى إحصائيات الصندوق الوطني لمنظمات الاحتياط الاجتماعي، يظهر أن أغلى هذه العلامات التجارية «تاكسوتير» هو أكثر دواء يصفه الأطباء، رغم أنه أغلى من مماثليه بنسبة 50 إلى 65 %. دواء «oxaliplatine» دواء يوصف في علاج سرطان القولون، وهناك علامتان تجاريتان، يتراوح ثمن قنينة 100 ملغ بين 7047 درهما و4900 درهم، حسب العلامة. وبالرجوع إلى إحصائيات صندوق منظمات الاحتياط الاجتماعي نلاحظ، مرة أخرى، أن علامة الوكساليبلاتين هي التي يصفها الأطباء أكثر رغم أنها أغلى من مثيلاتها بنسبة 43 %. دواء «intertéron alpha» يستعمل لعلاج التهاب الكبد «س»، يباع تحت علامة واحدة فقط «pégasys»، التي تنتجها مختبرات «روش».. يكلف علاج التهاب الكبد «س» سنويا حوالي 145000 درهم، وهو يتصدر قائمة الأدوية المكلفة في صيدلية الصندوق الوطني لمنظمات الاحتياط الوطني بارتفاع سنوي يتجاوز 40 %. ويبلغ ثمن هذا الدواء في مصر 550 درهما، مقارنة مع الثمن المغربي، الذي يتراوح بين 2400 درهم و3100 درهم، أي أنه أرخص خمس مرات في مصر.. وهو ما يكلف الصندوق الوطني لمنظمات الاحتياط الاجتماعي في سنة واحدة حوالي 52 مليون درهم، زائدة على الثمن بمصر. دواء «Amoxicilline» أكثر أنواع الأموكسيلين مبيعا هو النوع الذي يوجد على شكل «برشامة» من وزن 1 غرام، وتوجد في السوق المغربية 10 علامات تجارية مختلفة لهذا النوع، أما بالنسبة إلى أثمنة علبة تحتوي على 12 برشامة، فإنها تتراوح بين 53.55 درهما و93.85 درهما، أي بفرق يناهز 175 %، مع دول أخرى.. واستطاع الدواء أن «يثير» اهتمام مافيات التهريب، التي أصبحت تروّجه في الأسواق المغربية. دواء «paclitaxel» دواء يوصف لعلاج بعض أنواع سرطان الثدي والمبيض وبعض أنواع سرطان الرئتين، وهناك 6 علامات لهذا الدواء، يتراوح ثمن القنينة من فئة 30 ملغ. بين 1180 درهما وأزيد من 9 آلاف درهما. وبالرجوع إلى إحصائيات صندوق منظمات الاحتياط الاجتماعي، نلاحظ أن علامة «تاكسول» هي التي يصفها الأطباء أكثر رغم أنها أغلى من مثيلاتها بنسبة 90 %. دواء «Paracétamol» أكثر أنواع الباراسيتامول مبيعا هو النوع الذي يوجد على شكل «برشامة» من وزن 500 ملغ، وتوجد أكثر من 11 علامة تجارية مختلفة لهذا النوع، أما بخصوص أثمنة علبة تحتوي على 20 برشامة فإنها تتراوح بين 7 دراهم و18.70 درهما. دواء «Oméprazole» أكثر أنواع أميبرازول مبيعا هو النوع الذي يوجد على شكل برشامة من وزن 20 ملغ، وتوجد 12 علامة تجارية مختلفة لهذا النوع، أما بالنسبة إلى أثمنة علبة تحتوي على 14 برشامة فتتراوح بين 42 درهما و310 دراهم. دواء «Ciprofiaxine» أكثر أشكال سيروفلاكسين مبيعا هو برشامة 500 ملغ، وهناك 12 علامة مختلفة لهذا النوع، وتتراوح أثمنة العلبة الواحدة من 10 علامات بين 80 درهم و366 درهم، أي بنسبة فرق 458 % عن ثمن بيع الدواء خارج أرض الوطن. دواء «Amplodipine» أحد أكثر أشكال أميلودبين مبيعا هو برشامة 5 ملغ، وهناك 8 علامات مختلفة لهذا النوع، وتتراوح أثمنة العلبة الواحدة من 28 برشامة بين 50 درهما و366 درهما، أي بفارق 390 % ثمن بيع الدواء خارج أرض الوطن.. دواء «Amoxicilline clavulanique» أكثر أنواع أموكسيلين كلافولانيك هو النوع الذي يوجد على شكل كيس من وزن 1 غ /125 ملغ، وهناك أربع علامات تجارية مختلفة لهذا النوع، أما بالنسبة إلى أثمنة علبة تحتوي على 12 كيسا فتتراوح بين 99 درهما و310 دراهم.
8 مطالب للمهنيين لحماية المغاربة من خطر الأدوية المهربة
1 خلق مؤسسة وطنية مستقلة لمراقبة سلامة المواد الغذائية والأدوية والدم ومشتقاته؛ 2 خلق مؤسسة مستقلة للاختبار الفني للمُعدّات والأجهزة الطبية المستوردة أو التي تتم صناعتها محليا وإنشاء مراكز لنظام الرقابة الفنية على المعدات والأجهزة الطبية وجودتها على المستوى الجهوي والمحلي؛ 3 ضرورة القيام بإصلاحات جوهرية تشريعية وتكنولوجية ومراجعة ثمن الدواء ليكون في متناول شرائح واسعة من المواطنين، وضمان توفره وجودته وتشديد الرقابة على الأدوية وطرق صناعتها واستيرادها وترويجها في السوق الوطنية والرقابة على التأثيرات السلبية الناتجة عنها لضمان جودة العلاجات والأمن الصحي للمواطنين؛. 4 تقوية العلاقة التعاونية والتنسيقية بين الهيئات الحكومية والفرقاء في القطاع الخاص المعنيين بالموضوع والمتخصصين في هذا المجال من أجل الحفاظ على مصداقية النظام الصحي؛ 5 تحسيس المواطنين بأهمية الأدوية الحقيقية الأصلية والجنيسة والأدوية المغشوشة والمزيفة، وتحفيز مهنيي الصحة، من أطباء وممرضين وقابلات وصيادلة وأطباء أسنان، على أداء أدوارهم الطلائعية في توعية وتثقيف المواطنين وتحسيسهم بالتفاعلات الدوائية الضارّة ومخاطر المواد المغشوشة والمزيفة، وكذلك أن تخصّص شركات الأدوية في المغرب نسبة من الأرباح لتمويل حاجيات بعض الفئات المهمشة والفقراء وذوي الاحتياجات الخاصة ودور الأيتام والسجون.. 6 إعداد كتيب أبيض لأنظمة إدارة المعدّات الطبية والتقنية والجراحية ووضع قواعد محددة لتصنيف ورقابة المعدات والأجهزة الطبية؛ 7 تعبئة وتنسيق الجهود بين كل الجهات والهيئات المعنية، من شركات الأدوية والمُعدّات الطبية والصيادلة ومهنيي الصحة، وبتعاون مع الجهات الحكومية المعنية، وخاصة وزارة الصحة والجماعات المحلية ووزارة التجارة والصناعة ووزارة الداخلية ومصالح زجر الغش وجمعيات المرضى للتصدي لمشكلة الأدوية المزيفة والمغشوشة، وسن قوانين رادعة للمُخالفين وفرض عقوبات عليهم وتأسيس آليات حقيقية للرقابة الدوائية ولرقابة استعمال المعدات الطبية وجودتها؛ 8 تعزيز مبادرات المجتمع المدنيّ على المستوى المحلي والوطني للحد من التهريب والغش والتزوير ودعم الشبكة المغربية للدفاع عن الحق في الصحة من أجل حماية المواطنين والمجتمع من الآثار الضارة والانعكاسات السلبية لهذه الظاهرة ولنشر الوعي بين أفراد المجتمع حول الظاهرة وتكريس ثقافة الحق في الصحة وضمان الأمن الصحي لكافة المواطنين.