من مميزات إصلاحاتنا التعليمية، منذ الاستقلال إلى اليوم، أننا «نسطو» في كل مرة على نماذج تربوية فرنسية، نحاول تطبيقها حتى وإنْ اختلفت المسالك التعليمية، فنصاب بالخيبة حينما ندرك أن مدرستنا ابتعدت كثيرا عن واقع نشأتنا.. ولا أعتقد أن السيد محمد الوفا سيستمر هو الآخر، ضمن إصلاحاته التعليمية، في التقليد والنسخ المُرتجَلين للبرامج التربوية الفرنسية، بعد أن نطق مجلس الحسابات الفرنسي، أول أمس، بحصيلة كارثية للمنظومة التربوية، التي أصابتها اختلالات بنيوية على مختلف المستويات، وأهمّها التحصيل الإعداديّ والثانوي، الذي أسهم بشكل غير مسبوق في توسيع الهوة المعرفية بين أبناء الأغنياء والفقراء. فالتعليم الفرنسي، حسب تقرير مجلس الحسابات، يحتلّ المراتب الأولى دوليا في ما يخصّ تكريس الهوة بين النجباء والضعاف من التلاميذ، حيث الصنف الأول -وينتمي إلى الفئات الميسورة- متفوق بشكل كبير تحصيلا ومعرفة على الصنف الثاني من أبناء الضواحي والأحياء الفقيرة، ذات الكثافة المغربية والعربية.. وقد اتسعت الهوة بين الصنفين في العقد الأخير لتصل نسبة النجاح في الباكالوريا سنة 2011 إلى %79 من أبناء الفئات الميسورة، مقابل %13 من أبناء الضواحي والأحياء المهمشة، ولذلك فإن المقولة المأثورة «لولا أبناء الفقراء لضاع العلم» أصبحت معكوسة فعلا وواقعا في فرنسا، بحكم المناهج الدراسية الجديدة، القائمة على مقررات طويلة تجبر، من جهة، المُدرّسين على اختصار حصص الشرح والتلقين وتفرض على التلاميذ، من جهة أخرى، اللجوء إلى دروس الدعم لاستكمال التحصيل والفهم بمعدل 30 أورو (350 درهما) للساعة بالنسبة إلى المواد العلمية و20 أورو للمواد الأدبية. ولا يقف مجلس الحسابات الفرنسي عند انتقاد التوجه النخبوي في بعض مناهج التعليم الفرنسي فقط، بل يذهب إلى حد التّشديد، بناء على دراسة لخبراء وبيداغوجيين استغرقت ثلاث سنوات، على أن نسبة التلاميذ الذين يشكون من نقص كبير في التحصيل بعد نهاية التمدرس الإجباريّ بلغت سنة 2010 حوالي %21 ممن لم يحصلوا على القدْر الكافي من التكوين الكفيل بتأهيلهم للاندماج بسهولة في الحياة العملية. كما أن النظام المدرسيّ الفرنسي لم يتمكن من تجاوز عتبة الخمسين في المئة من الوالجين للتعليم الجامعي، حيث يشكل الطلبة الجامعيون اليوم 41%، من بينهم 27% في مستوى الإجازة، مقابل 51% في كندا و50% في الولاياتالمتحدة. ويدعو المجلس في توصية حثيثة إلى إصلاح عاجل لنظام المناهج التربوية بشكل تعطى فيه الأولوية للمؤسسات التعليمية ذات الأوضاع الاجتماعية الصعبة ولتلك الواقعة في الأحياء الفقيرة المهمشة، من أجل التغلب على الاختلالات الاجتماعية التي ازدادت استفحالا في العقد الأخير، والوصول إلى تعليم متكافئ ومتضامن يلغي التهميش والتمييز بين المؤسسات، بمختلف أنواعها وأماكن تواجدها. ورغم الاعتمادات المرصودة لقطاع التربية الوطنية، الذي يبلع لوحده حوالي 4% من الناتج الداخلي الخام، أي 61 مليار أورو (حوالي 600 مليار درهم) لم يرْقَ التعليم الفرنسيّ إلى مستوى المعايير التعليمية الرفيعة السائدة في بعض بلدان أوربا وأمريكا الشمالية. ففي سن ال16 -وهو آخر سن بالنسبة للتمدرس الإجباري- هناك تلميذ فقط من بين خمسة يُجيدون القراءة والفهم في المؤسسات الواقعة في الضواحي والأحياء الفقيرة، بينما يحصل أربعة تلاميذ على خمسة من الأوساط الميسورة على رصيد تعليميّ جيد في مثل هذه الفترة من العمر. ويلحّ المجلس، في سياق التنبيهات الموجهة لوزارة التربية الوطنية، على تفادي النفقات المكلفة قدْر الإمكان، وفي مقدمتها مسألة الرسوب السائدة بقوة في الأوساط المدرسية، والتي تكلف الدولة أزيد من ملياري أورو سنويا، وعلى تبني مناهج مرنة تقود التلامذة إلى النجاح التلقائيّ، كما هو الحال في كنداوالولاياتالمتحدة وحتى في بعض الدول الأوربية، وفي مقدمتها البلدان الإسكندنافية. ويعيب المجلس على المشرفين على النظام التعليمي الفرنسي بقوة إصرارَهم على تعيين المتخرجين من الشباب محدودي التجربة والكفاءة في المؤسسات الواقعة في الضواحي والأحياء الفقيرة، تكريسا منهم لواقع الحيف الذي يطال أبناء الفقراء ولغياب عنصر العدالة الاجتماعية في تدبير الشأن التربويّ بشكل عامّ. ويُشكّل الرسوب المدرسي أثقل عبء اجتماعيّ على فرنسا. ففي كل سنة تلفظ المؤسسات التعليمية الفرنسية 120 ألفا من التلامذة الراسبين أو المنقطعين عن الدراسة المتراوحة أعمارهم ما بين 15 و18 سنة. وفي كل سنة يلتحق هؤلاء بقافلة البطالة، التي تضاعَف رقمها بفعل الأزمة المالية، فيتزايد في أوساطهم القلق والاكتئاب وعدم الاستقرار، ويمتد التوتر النفسيّ ليشمل العلاقة مع الأسرة ومع الآخرين، قبل أن يتحول إلى حالة انفعال دائمة تؤدي، في معظم الأحيان، إلى الانحراف والتسكع والجريمة.. وكان الرئيس السابق نيكولا ساركوزي أول من دق ناقوس الخطر عندما خاطب، في 22 يناير من السنة الماضية، البرلمان بغرفتيه (مجلس النواب ومجلس الشيوخ) بقوله: «حينما لا نجد شيئا نقترحه على الشباب البالغين من العمر ما بين 16 و18 سنة، والمنفصلين عن الدراسة من دون دبلوم أو تكوين أو أفق.. وحينما يقصى هؤلاء من النظام المدرسيّ قبل استكمال تعليمهم الإجباريّ، بعد أن عجزنا عن توفير البنيات الملائمة لاستيعابهم، فإننا لا نكون قد قمنا بعملية ادّخار مربحة، بل ساهمنا بشكل كبير في الزيادة من حجم النفقات المستقبلية.. وها نحن اليوم، وكما ترون، بصدد أداء ثمن باهظ بسبب تخاصم هؤلاء مع المدرسة. فالبطالة ليست -كما يعتقد البعض- مشكلة اقتصادية صرفة، فهي مشكلة نفسية، اجتماعية، أمنية وسياسية في آن واحد».