من مميزات إصلاحاتنا التعليمية، منذ الاستقلال إلى اليوم، أننا نسطو في كل مرة على نماذج تربوية فرنسية، نحاول تطبيقها حتى وإن اختلفت المسالك التعليمية، فنصاب بالخيبة حينما ندرك أن مدرستنا ابتعدت كثيرا عن واقع نشأتنا.. ولا أعتقد أن السيد أحمد اخشيشن سيستمر هذه المرة، ضمن إصلاحاته التعليمية، في التقليد والنسخ المرتجلين للبرامج التربوية الفرنسية، بعد أن نطق مجلس الحسابات الفرنسي قبل حوالي أسبوعين بحصيلة كارثية للمنظومة التربوية التي أصابتها اختلالات بنيوية على مختلف المستويات، وأهمها التحصيل الإعدادي والثانوي الذي أسهم بشكل غير مسبوق في توسيع الهوة المعرفية بين أبناء الأغنياء والفقراء. فالتعليم الفرنسي، حسب تقرير مجلس الحسابات، يحتل المراتب الأولى دوليا فيما يخص تكريس الهوة بين النجباء والضعاف من التلاميذ، حيث الصنف الأول، الذي ينتمي إلى الفئات الميسورة، متفوق بشكل كبير تحصيلا ومعرفة على الصنف الثاني من أبناء الضواحي والأحياء الفقيرة. وقد اتسعت الهوة بين الصنفين في العقد الأخير لتصل نسبة النجاح في الباكلوريا سنة 2009 إلى 79% من أبناء الفئات الميسورة مقابل 18% من أبناء الضواحي والأحياء المهمشة. لذلك، فإن المقولة المأثورة "لولا أبناء الفقراء لضاع العلم" أصبحت معكوسة فعلا وواقعا بفرنسا، بحكم المناهج الدراسية الجديدة القائمة على مقررات طويلة تجبر من جهة المدرسين على اختصار حصص الشرح والتلقين، وتفرض على التلاميذ من جهة أخرى اللجوء إلى دروس الدعم لاستكمال التحصيل والفهم بمعدل 30 أورو للساعة (350 درهما) بالنسبة إلى المواد العلمية كالرياضيات والفيزياء.. و20 أورو للمواد الأدبية. وهكذا لا يجد الميسورون في فرنسا حرجا في أن يتفاخروا بالقول "لولا أبناء الأغنياء لضاع العلم". ومجلس الحسابات الفرنسي لا يقف فقط عند انتقاد التوجه النخبوي في بعض مناهج التعليم الفرنسي، بل يذهب إلى حد التأكيد، بناء على دراسة لخبراء وبيداغوجيين استغرقت ثلاث سنوات، على أن نسبة التلاميذ الذين يشكون من نقص كبير في التحصيل بعد نهاية التمدرس الإجباري بلغت سنة 2000 حوالي 21% ممن لم يحصلوا على القدر الكافي من التكوين الكفيل بتأهيلهم للاندماج بسهولة في الحياة العملية. كما أن النظام المدرسي الفرنسي لم يتمكن من تجاوز عتبة الخمسين في المائة من الوالجين إلى التعليم الجامعي، حيث الطلبة الجامعيون يشكلون اليوم 41% من بينهم 27% في مستوى الإجازة، مقابل 48% بكندا و40% بالولايات المتحدة. ويدعو المجلس في توصية حثيثة إلى إصلاح عاجل لنظام المناهج التربوية بشكل تعطى فيه الأولوية للمؤسسات التعليمية ذات الأوضاع الاجتماعية الصعبة، ولتلك الواقعة في الأحياء الفقيرة المهمشة، وذلك من أجل التغلب على الاختلالات الاجتماعية التي ازدادت استفحالا في العقد الأخير، والوصول إلى تعليم متكافئ ومتضامن يلغي التهميش والتمييز بين المؤسسات بمختلف أنواعها وأماكن تواجدها. وبالرغم من الاعتمادات المرصودة لقطاع التربية الوطنية الذي يبلع لوحده حوالي 4 % من الناتج الداخلي الخام، أي 61 مليار أورو (حوالي 600 مليار درهم)، لم يرق التعليم الفرنسي إلى مستوى المعايير التعليمية الرفيعة السائدة في بعض بلدان أوربا وأمريكا الشمالية. ففي ال16، وهو آخر سن بالنسبة إلى التمدرس الإجباري، هناك تلميذ فقط من بين خمسة يجيدون القراءة في المؤسسات الواقعة بالضواحي والأحياء الفقيرة، فيما أربعة تلاميذ على خمسة من الأوساط الميسورة يحصلون على رصيد تعليمي جيد في مثل هذه الفترة من العمر. ويلح المجلس، في سياق التنبيهات الموجهة إلى وزارة التربية الوطنية، على تفادي قدر الإمكان النفقات المكلفة، وفي مقدمتها مسألة الرسوب السائدة بقوة في الأوساط المدرسية والتي تكلف الدولة أزيد من ملياري أورو سنويا، وعلى تبني مناهج مرنة تقود التلاميذ إلى النجاح التلقائي كما هو الحال في كندا والولايات المتحدة وحتى في بعض الدول الأوربية وفي مقدمتها البلدان الاسكندنافية. ويعيب المجلس بقوة على المشرفين على النظام التعليمي الفرنسي إصرارهم على تعيين المتخرجين من الشباب، محدودي التجربة والكفاءة، في المؤسسات الواقعة بالضواحي والأحياء الفقيرة، تكريسا منهم لواقع الحيف الذي يطال أبناء الفقراء ولغياب عنصر العدالة الاجتماعية في تدبير الشأن التربوي بشكل عام.