يتيح الزمن التكنولوجي اليوم الإفلات من سلطة الرقباء، ومن سلط الناشرين والحدود والجمارك، ومن إكراهات الشحن والتوزيع. فالكتب الإلكترونية هي الآن بمثابة ساعي البريد تصلك إلى بيتك الرقمي، بالفيزا كارت أو بالماستر كارت، سواء. لا خوف على الكتب من البلبل، ولا تحتاج إلى ركن في البيوت الضيقة. والكتب اليوم لم تعد تسافر على ظهور الجمال والبغال ولا في ناقلات شركات التوزيع، بل هي أيونات ضوئية تفتح بنقرة واحدة. لسنا ببعيدين نحن العرب عن هذا الزمن، رغم التأخر الفادح، ولكن الوقت لم يعد يسمح بالمزيد، هناك عولمة جارية للشكل والمحتوى، لا يستطيع مثقف العصر الجديد الإفلات منها. وعوض أن نسأل السؤال التقليدي: كم عدد النسخ من كتبك تباع في السوق؟ سيصبح السؤال معكوسا وسحريا في الآن نفسه: كم عدد النقرات التي طالت موقعك أو عدد التحميلات التي جرت من كتبك المجانية أو المؤدى عنها؟ المتأمل للمشهد الثقافي الافتراضي على شبكة الإنترنيت يسجل التحولات الفارقة في مصير الكتابة العربية، وهي تحولات لا تمس جوهر المكتوب، ولكن تمس جسده وسيرورته، من خلال الانتقالات التي حدثت على مستوى زمكانية الكتابة، وأيضا في المعنى الجديد الذي أصبح يرتبط بمفهوم الكاتب المعاصر، وهو على الأرجح معنى لم يتشكل نهائيا، ولكنه قيد التشكل. بداية يمكن تسجيل التحولات التي أصابت مصير الكتابة، فخلال عشرية واحدة فقط تحولت خرائط الإبداع العربي، وخرج الكثير من الكتاب من مسكنهم القديم في البيت الورقي إلى محيطات أوسع، وكان الأقرب إلى المتناول هو البيت العنكبوتي الذي توفره الشبكة لمن يشاء. ففي هذه الفترة الوجيزة حدث خروج عن النص الورقي المسكون بسلط متعددة، منها على وجه التحديد سلطة الناشر والرقيب والمؤسسة الثقافية، وسلط أخرى ذات امتدادات قانونية وسيادية، ذلك أن الدول العربية أكثر تشددا فيما يتعلق بحركة الكتاب العربي وأكثر حساسية وقلقا. هناك فوبيا وخوف من إطلاق العنان للكتب لكي تجول العالم العربي، ومرد ذلك توجسات سابقة هي من صميم التجربة التاريخية التي عرفت انقسام العالم إلى معسكرين: رأسمالي واشتراكي. لكن هذا الانقسام الإيديولوجي الحاد لم يعد اليوم ذا أثر في المشهد السياسي أو الاجتماعي أو الثقافي، فقد استطاع النموذج الأمريكي القائم على الدفع قُدماً بالمبادرة الفردية إلى مداها “البشع”، السيطرة على العالم وإعادة تكييف الجماعات البشرية والأفراد، بما فيها البلاد التي كانت اشتراكية فيما مضى. وبالتالي فإن التخوفات التي كانت تبديها الكثير من البلاد العربية من تصدير الأفكار “الهدامة” لم تعد قائمة، التهمها النمط الاستهلاكي وأنهاها. لكن الذي سيجعل الآلة الرقابية العتيقة تتحجّم وتتراجع إلى الوراء كان هو الرادع التكنولوجي، المتمثل في عالم الشبكة العنكبوتية، التي على افتراض أنها مراقبة وتحت السيطرة إلا أنها سمحت مع ذلك ببروز هامش ثقافي مقاوم للثقافة السائدة ومغاير لها على مستوى الطروحات، وأيضا على مستوى الامتداد الجغرافي والثقافي. نهاية المنع في هذا الإطار سوف تجد الثقافة التقليدية القائمة على المنع والحجب وسد الأبواب نفسها في الهامش، أو في موقع المتفرج، فاليوم لم يعد بإمكان هيئة ثقافية رسمية أو مدنية سد الباب في وجه الأجيال الجديدة من الكتاب والمبدعين ومن الفنانين. لقد سمحت الإنترنيت ببناء جماعات أدبية وتجمعات للكتاب وبرلمانات واتحادات عالمية وعربية أدبية تنشط بطريقتها، وهي طريقة مبتكرة وناجعة من حيث القوة التداولية للأفكار والمشاريع، وسرعة تبادل المعلومات والتنسيق على أكبر مستوى، والتواصل اليومي عبر الوسائل الإلكترونية، ومنها المجلات والمواقع والمدونات ومواقع الدردشة وبنوك المعلومات. وكلها وسائل حديثة تتيح للجميع الانخراط في صلب المشهد الثقافي من دون رقابة ومن دون الحاجة إلى “صكوك غفران” من هيئة أو من اتحاد. قاد المدونون العرب حملة كبيرة من مختلف أنحاء العالم العربي، وهم إن كانوا يحتاجون إلى التنظيم والمعرفة التقنية، فإنهم مع ذلك أسهموا في تأسيس البدايات التواصلية الأولى. لقد كسروا “الرهبة التكنولوجية” وأذابوا الفارق بينهم وبين التجارب الأخرى في البلاد الأوروبية. ذلك أن من حسنات الزمن التكنولوجي أنه زمن “غير سلفي” أو نكوصي، أي لا يدعوك إلى العودة إلى البدايات، ثم التدرج في المعرفة، بل يقلص الزمن ويدعوك إلى الانخراط فيه من النقطة التي يوجد فيها. إنه بعبارة أخرى مثل النهر الذي يجري إلى الأمام، حاصدا تراكماته ودافعا بالجميع إلى المستقبل. وبذلك يفلح الزمن التكنولوجي في أن يكون زمنا عولميا ومعولما في الآن نفسه.لقد انتقل الكاتب العربي من الورق والحبر دون أن يقف طويلا كي يتساءل عن “الأضرار” الجانبية التي يمكن أن تلحقه جراء هذا الانخراط الكلي والمفاجئ. لقد كانت القيمة المضافة بينة وناجزة في شكل المكتسبات اليومية التي حققها هذا الكاتب في الجوانب التواصلية، ومن حيث الانتشار والتعرف إلى التجارب القريبة في الوطن الواحد أو تلك الموجودة في الخرائط العربية الأخرى. ومن المؤكد تماما أن الكاتب الإلكتروني،إذا جاز التعبير، لم يضع في تراتبية معاركه مناصبة العداء للكاتب الورقي أو للكتاب الورقي، ببساطة لأنه هو نفسه لم ينفصل عن الحلم في أن يكون ضمن دائرة الكتاب الورقيين، ليس كمطلب آني ولكن كتحقق في المستقبل قد لا يحالفه النجاح كما حال الكثير من الكتاب ومن المبدعين الذين مروا دون أن يتركوا أثرا ورقيا باستثناء المواقع الافتراضية التي كانوا مشاركين فيها أو قائمين عليها. هل هي حسرة على الكتاب الورقي؟ هل تخطينا زمن المطبعة؟ الكثير من الذين يجنحون إلى «افتراض» خصومات ومعارك بين الورقيين والإلكترونيين هم في الواقع ينطلقون من إشكالية غير قائمة على الإطلاق، لأن الممارسة اليومية لفعل النشر الإلكتروني جاءت كمعالجة للمأزق الذي يعاني منه النشر على المستوى الورقي، سواء من خلال ارتفاع تكاليف الطباعة أو بسبب عدم انتظام بنية النشر العربي من حيث وجود مؤسسات عربية قادرة على إيصال الكتاب إلى الحواضر وإلى الأرياف، مستفيدة من تسهيلات قانونية وتيسير جمركي ورقابة أخف. من حق الناشر الورقي أن يبدي تخوفه من بوار رأسماله التجاري، وله أن يقلق من التدني الذي تعرفه مطبوعاته في السوق، لكن الأمر لا يتعلق هنا بالسلعة، لأن منطق السوق نفسه، القائم على الاحتكار والمنافسة، يبيح التنافسية، الشريفة منها أو الشرسة، ويخضع الجميع لمنطق الربح. إن تداول السلعة الإلكترونية لا يزال تداولا رمزيا، فهو أقل تكلفة من الكتاب الورقي وأيسر في التحميل وأكثر نجاعة في التوظيف البحثي والعلمي، وهذا راجع إلى كون البيئة التكنولوجية هيأت لنفسها مناخا سريعاً ملائماً وبنية تحتية هي من صميم بنية المدينة الحديثة، كما لو كان الأمر يتعلق بالتغطية الرئيسية لشبكة الماء والكهرباء والطرق وسائر المستلزمات الضرورية للحياة المعاصرة. غرفة الدردشة من غرفة الدردشة أو من البيت يمكن أن تقود اليوم حوارا عميقا مع أطراف العالم في قاراته الخمس، ويمكن أن تشارك في ندوة مفتوحة أو في استبيان آراء أو حوار أو في مساجلة دون أن يحجر على رأيك. قد تكون الرقابة في هذا الباب أخف أو لنقل إنها رقابة “إجرائية” تتصل بتنظيم الحوار وتأطيره وتكييف ذلك مع المحيط الثقافي والاجتماعي السائد، هذا فيما يتعلق بالمواقع المفتوحة للعموم والتي لا تتطلب انخراطا مسبقا. بينما تعمد الكثير من المواقع الفئوية أو الموجهة أو تلك التي لها طابع خاص إلى طلب الحد الأدنى من المعلومات من المنخرطين، مهما كانت درجة صحة هذه المعلومات، وهي بذلك تمارس حقها في جعل المنخرط أو العضو يمتثل إلى شروطها المسبقة. إن الحال يشبه إلى حد بعيد ما هو معمول به في الأدبيات الحزبية والجمعوية وفي التنظيمات الأدبية، من حيث الامتثال للشروط الواجب توفرها في المنتسب. لكن رغم ذلك تبقى مساحة الحرية مكفولة، إذ بمجرد ملء البيانات يتم الإدراج تلقائيا في دائرة المنخرطين، الأمر الذي يؤكد على «شفافية» العلاقات الثقافية القائمة ما بين المنخرطين والمشرفين على المواقع الأدبية. تجارب عربية في هذا الإطار يمكن التوقف عند التجربة الرائدة لموقع “جهة الشعر”، الذي انطلق بمبادرة من مؤسسه الشاعر البحريني قاسم حداد، حيث أصبح هذا الموقع الرائد اليوم مكنزا كبيرا للنصوص والتجارب العربية في الشعر والنقد، وبوابة لا يمكن تجاوزها بسهولة بسبب قدرة قاسم وعلائقيته الممتدة في شرايين الحياة الثقافية العربية الحقيقية. وقد أشار قاسم حداد في البيان التأسيسي ل“جهة الشعر” إلى أن “الجهة “ تأتي في سياق ثقافي عربي كي تجيب على الأسئلة الجديدة التي تطرحها الكتابة وأيضا إلى الانفتاح على هذا العالم السيبرنطيقي المجهول من طرف الكاتب العربي”. بعد هذه التجربة الرائدة سوف تظهر إلى الوجود الكثير من التجارب العربية، فهناك موقع “كيكا” الذي يشرف عليه الشاعر والروائي العراقي المقيم في لندن صمويل شمعون، وهو موقع رصين ومتنوع، وهناك موقع “دروب” الذي يحرر صفحته الأدبية الكاتب التونسي كمال العيادي، بالإضافة إلى العديد من المواقع المتخصصة والشخصية من مثل موقع القصة العربية ومواقع ومجلات أدبية إلكترونية شاملة، يضيق المقام بتعدادها. لقد تحولت شبكة الإنترنيت إلى مسكن الكتاب الجدد، وإلى ملتقى للثقافات وللمعرفة وللصداقات الكونية المتحللة من ضغوط وإكراهات الجغرافيا، وهي بتحولها إلى صيغة للتواصل تبني علاقات وقيما ثقافية خارج الأسانيد القديمة، وكأن الكاتب الجديد يدعونا إلى النظر إلى العالم على شاشة الكريستال، بجرأة المقتحم لا الخائف المتردد.