هل كانت معاناة معتقلي سجن تازمامارت، الأكثر فظاعة في تاريخ المغرب الحديث، أقسى وأبشع من معاناة أبنائهم وزوجاتهم الذين عاشوا الجوع والتشرد و الخوف؟ من خلال «كرسي الاعتراف» مع خديجة الشاوي، زوجة محمد الرايس، أحد أشهر معتقلي سجن تازمامارت، يختل الجواب بنعم. في «كرسي الاعتراف»، تحكي خديجة الشاوي كيف تزوجت «لاسبيران» (المرشح لرتبة ضابط) محمد الرايس، وعمرها 12 سنة، وكيف تركها عرضة للتشرد رفقة ستة أطفال، هم إرثها منه عندما اعتقل على ذمة محاولة الانقلاب على الحسن الثاني سنة 1971. وكيف طرقت باب للا عبلة، والدة الحسن الثاني، وما عانته لمقابلة الأمير مولاي عبد الله، وصولا إلى لقائها بالحسن الثاني الذي استجاب لطلبها، ليس بالإفراج عن زوجها، وإنما بتخفيف الحكم الصادر في حقه من الإعدام إلى السجن المؤبد، قبل أن تفاجأ ذات صباح باختفاء زوجها من سجن القنيطرة إلى مصير مجهول، ثم كيف جن جنونها وهي تقرأ رسالة خرجت من جحيم تازمامارت، يقول فيها الرايس: «أنا في سجن هو أقرب إلى القبر»، لتبدأ معركة التعريف بقضية معتقلي تازمامارت والنضال من أجل الإفراج عنهم، إلى أن أخلي سبيل زوجها محمد الرايس الذي اقتيد من تازمامارت إلى سجن القنيطرة حيث قضى سنة إضافية، قبل أن يتدخل السوسيولوجي الفرنسي الشهير، جاك بيرك، لدى الحسن الثاني للإفراج عنه، لتجد الشاوي أمامها شخصا بملامح وطباع غريبة مقارنة بذلك الزوج الذي فارقها لمدة عشرين سنة. - إلى جانب ما كنت تقومين به أنت من نشاط حقوقي وإعلامي، بدورها كانت عايدة -زوجة صلاح حشاد، الطيار المعتقل على ذمة محاولة إسقاط طائرة الحسن الثاني في 1972- من أكثر أقارب معتقلي تازمامارت تحركا للكشف عن مصيرهم، ولاحقا للمطالبة بإطلاق سراحهم؟ في البداية، كنت أنا من بادر إلى طرق أبواب المنظمات الحقوقية، كما أطلقت ابنتي إلهام حملة إعلامية من إنجلترا ثم من فرنسا، قبل أن يتشجع أفراد من عائلات بعض المعتقلين، وفي مقدمتهم عايدة حشاد، لوضع أيديهم في يدي. لقد كانت عايدة متخوفة من أن يتم التضييق عليها في مصدر عيشها، أي الصيدلية التي كانت تديرها في مدينة القنيطرة، لذلك كانت تكتفي بمساعدتي، خفية، في إجراء الاتصالات بعدد من العائلات، وتسليمهم الرسائل القادمة من تازمامارت. وفي هذه الفترة، وضعت أنا تحت مراقبة لصيقة ومتنوعة الأشكال من طرف مختلف الأجهزة الأمنية، بعدما كثفت ابنتي إلهام اتصالاتها في لندن وباريس بالمنظمات الدولية، ووضعت يدها في يد المناضلة الحقوقية كريستين دور، زوجة أبراهام السرفاتي، وتحدثت في الإذاعات والصحف العالمية عن معتقل رهيب اسمه تازمامارت، يقاد إليه المعتقلون بدون محاكمة، ويقبع داخله من انتهت مدة محكوميتهم إلى أن يموتوا بردا وجوعا وكمدا. أما عايدة حشاد فستكشف عن وجهها تماما مع حلول سنوات الثمانينيات، حيث صارت ترافقني إلى الجمعيات والمنظمات الحقوقية. وما زلت أذكر أول مرة نظمتُ فيها زيارة جماعية للجمعية المغربية لحقوق الإنسان، حيث اتصلت بعايدة حشاد وبزوجة حميد بندورو (الذي كان آخر من توفي في تازمامارت يوم 5 مارس 1991) وزوجة الجيلالي الديك (الذي توفي في 15 شتنبر 1980 بعد إصابته بشلل كامل وهزال شديد)، كما اتصلت بشقيقة ادريس شبرق، لكن زوجها حذرها من الاتصال بي أو بعايدة، وهددها بأن يطلقها «الطلاق الثلاث» في حال ما إذا عادت مجددا إلى إثارة موضوع شقيقها، لذلك كانت المسكينة تبعث إلينا خفية عن زوجها رسائل ومبالغ مالية لنبعث بها إلى أخيها، عن طريق ابنتها التي كانت تشتغل معلمة في ما أذكر. أما زوجة الوافي فكانت قد حسمت الموضوع سلفا حين نهتنا عن العودة إلى الاتصال بها مجددا. اتفقنا نحن الأربع (عايدة حشاد، زوجة بندورو، زوجة الديك، وأنا) أن نلتقي أمام المقر السابق لشركة النقل CTM غير بعيد عن باب الأحد في الرباط. بمجرد ما صعدت الحافلة، لاحظت وجود شخصين يتعقباني خطوة خطوة. وما إن التقيت عايدة حتى أخبرتها بأن البوليس يراقبني، لأفاجأ بها قد فزعت وأخذت تطلب مني أن أعود أدراجي، ثم تفرقت النسوة الأربع، كل واحدة أخذت اتجاها، فبدأت أصيح: «عايدة.. عايدة ممّ الخوف، هل سيفعلون بنا أكثر مما فعلوه»، ثم رحت أركض وراءهن وأجمعهن الواحدة تلو الأخرى. أمسكنا بأيدي بعضنا وركبنا سيارة عايدة باتجاه الجمعية المغربية لحقوق الإنسان. وعندما انطلقت السيارة، قلت للنساء، حتى أخفف من هول المشهد عليهن: «على الأقل إيلا اعتقلونا يديونا عند رجالتنا نطيبو ليهم الحريرة» (تضحك). وقد لحق بنا رجلا الأمن، بلباس مدني، اللذين ظلا يتعقباني منذ ركبت الحافلة. وما إن ركنت عايدة سيارتها بالقرب من مقر الجمعية المغربية لحقوق الإنسان، حتى فوجئنا بهما على مرمى حجر منا. أخرجا جريدة في وسطها ثقب كبير حشرا فيه عدسة آلة التصوير وشرعا يلتقطان صورا لنا ونحن نهمّ بدخول مقر الجمعية. اقترحت على مرافقاتي أن نصطف أمام هؤلاء البوليس لكي يستطيعوا التقاط صورة أكثر وضوحا، ثم توجهت إلى الشرطيين وأنا أقول: أزيحا الجريدة والتقطا ما يحلو لكما من صور. فوجئ الشرطيان بجسارتي وتسمرا صامتين فاغرين فميهما.. تركناهما مشدوهين ودخلنا إلى مقر الجمعية. - من الذي استقبلكن يومها في الجمعية؟ لا أتذكر جيدا، فقد كانت لي علاقة متينة بالأستاذ عبد الرحمان بنعمرو والسيد محمد الحيحي. لكني، في تلك الفترة، ربما كنت ألتقي في الجمعية بكل من إلياس العماري وعمر الزايدي وآخرين. وبعد خروج عبد الإله بنعبد السلام من السجن، أصبح يساعدني على عدة مستويات، ومنها مراسلة المنظمات الدولية. - ما الذي دار بينكن وبين مسؤولي الجمعية المغربية لحقوق الإنسان في ذلك اللقاء؟ في ذلك اللقاء وما تلاه من لقاءات انتقلنا من المطالبة بالكشف عن مصير أزواجنا إلى المطالبة بإطلاق سراحهم، بعدما حددنا مكان وجودهم.. سجن آكل للبشر اسمه تازمامارت. وأخذت أطلع مناضلي الجمعية على محتوى الرسائل التي كنت أتوصل بها من زوجي؛ ففي بداية الثمانينيات تلقيت رسالة من الرايس، كانت هي الرابعة من نوعها، وقد خط عليها الرايس لائحة بأسماء من قضوا نحبهم في تازمامارت، بالتواريخ المضبوطة وتفاصيل أسباب الوفاة. هذه الرسالة كانت هي الثانية من نوعها التي أتوصل بها يدا بيد من أحد حراس تازمامارت، وقد علمت من الرايس لاحقا، بعد الإفراج عنه، أنه احتج بشدة على استثنائي من زيارة الحراس المبعوثين من تازمامارت، وأصر على أن يسلمني الحارس الرسالة يدا بيد، لأن الرايس كان يريد أن يطمئن على أحوالي وأحوال أبنائنا. وقد حكى لي الرايس أن الغضب اشتد به إلى أن هدد بكشف أمر اتصال الحراس بعائلات المعتقلين إن لم ينفذوا رغبته، لذلك أذعنوا لطلبه خوفا من عقاب جماعي كان سيكون شديدا.