شهدت قاعة محمد حجي، التابعة لجامعة محمد الخامس أكدال بالرباط، مناقشة رسالة دكتوراة تحت عنوان "خطاب الرحلة المغربي الأندلسي- مقاربة سردية أنثروبولوجية"، أعدها الطالب الباحث إبراهيم الحجري. وتكونت اللجنة العلمية التي ناقشت الأطروحة من الأساتذة: الدكتور محمد الظريف رئيسا، الدكتور سعيد يقطين مشرفا ومقررا، الدكتورة فاطمة طحطح عضوا، الدكتورة فاتحة الطايب عضوا، الدكتور شعيب حليفي عضوا. وقد استحق الطالب نيل شهادة الدكتوراة بميزة مشرف جدا مع توصية بالطبع. وهذا بعض من التقرير الذي تقدم به الطالب الباحث: لقد راهنت، لأجل بلوغ المرمى المنشود؛ على مقاربة منهجية تنطلق من السرديات أساسا، لتعرج على مجال الأنثروبولوجيا، استلهاما لأدواتها ومفاهيمها الإجرائيتين، فقسَّمت البحث إلى بابين: الأول خصصته لتحليل البنى السردية في الرحلات، مراعيا خصوصية المتن المدروس؛ وميزات نوع الرحلة الذي حقق، على مستوى التدوين، تراكما مهما في العصور الوسطى خاصة، فتناولت عناصر السرد داخل هذه النصوص كلا على حدة: الشخصية، صيغ الحكي، التبئير، والفضاء، مبينا ما يميز كل عنصر عن نظيره في النصوص المتنوعة، ومركزا على هيمنة الخبر على السرد، ومبرزا تأثير ذلك على العالم السردي ككل. وخصصت الباب الثاني لمقاربة المادة السردية التي أفضى إليها الخطاب الرحلي مقاربة تستند إلى المنظور الأنثروبولوجي من خلال توظيف بعض المفاهيم الإناسية في تحليل العالم الذي تقدمه لنا المتون الرحلية وفق الرؤية التي تحكم صاحب الرحلة؛ ومعرفة كيفية اشتغال نسق التفكير والقيم لديه. وقد استفتحت هذا الباب بعتبة فسرت فيها كيفية الانتقال من السردي إلى الأنثروبولوجي بشكل يجعلهما يخدمان بعضهما، حيث إن «باب الخبر» سمح لنا باقتحام عالم الأسماء والأزياء والصحة والمرض والزواج والطعام وغيرها من الظواهر التي تميز الإنسان عن غيره من الكائنات. كما قادنا الفضاء السردي إلى تعرف عالم العمران بتجلياته المختلفة في عالم القرون الوسطى، وما يحيل عليه كل نموذج عمراني وفق ما يوحي به من رموز وجماليات وأشكال لها صلة وثيقة بالمتخيل الذهني البشري في كل مجتمع على حدة. في حين أن عنصر «التبئير» أحالنا على محاورة المتخيل الرمزي للمقدس والفلكلور والغناء والرقص والموت والسحر والألعاب وغيرها من البنيات الذهنية، وتعرف ردود الأفعال الواعية واللاواعية ضدا على عوامل الطبيعة، وكذا تجاه الظواهر القاهرة للإنسان، مما يدل على أن كل هذه التمظهرات ما هي سوى انعكاس وامتداد لثقافة المجتمع ورؤاه وتمثلاته للكون والطبيعة والحياة. وقد توصلت في نهاية الأطروحة إلى مجموعة من النتائج أذكر منها ما يلي: 1- النصوص السردية الرحلية، بقدر ما تتوفر على وثائق تاريخية واجتماعية وعلمية وجغرافية واقتصادية متنوعة ومتداخلة، فهي أيضا تزخر بمادة إثنوغرافية غنية تفيد في معرفة الإنسان في تلك المرحلة من كل الجوانب والتجليات، بحكم أن المعطيات التي تقدمها حول شتى الظواهر الإنسانية في مرجعيات متعددة في مراحل زمنية متقاربة، تدخل كلها، في نطاق العصور الوسطى. 2- تندرج النصوص الرحلية بوصفها خطابا متخللا من قبل أنواع أدبية متعددة، ونوعا أدبيا ضمن جنس السرد، بالرغم من اعتماده على المشاهدات والمدونات السّفرية والسير الذاتية والغيرية، في إطار النصوص الأدبية. فهي لا تعدم وجود انفلاتات الخيال، كما أن المادة التي تقترحها تدخل، بالأساس، ضمن إطار المتخيل. وهذا يجعلها، تتميز، عن باقي النصوص السردية ذات البعد الخيالي المحض، بكونها مزدوجة القيمة، فهي، من جهة، تعرض حقائق ومشاهدات من صميم التجربة الإنسانية. ومن جهة أخرى، تفرد جانبا مهما من متونها للأساطير والقصص العجيبة والأفكار المتخيلة ورؤى المقدَّس وغير ذلك، وهي، بجمْعها بين المكونين، تكون قد رصدت تجليات التجربة الإنسانية في جل أبعادها، دون أن تستثني جانبا من جوانبها، وبذلك يجد فيها الباحث صورة شاملة عن إنسان المرحلة. 3- إذا كانت السرديات قد تناولت الجوانب الخطابية والجوانب الحكائية زمنا طويلا، وحققت نجاحا ملفتا في تحديد البنى العميقة للصوغ الأدبي لجنس السّرد، بما في ذلك الجوانب المشتركة، وكذا المميزة والفارقة، فإن الانفتاح، بالخصوص، على ما حققته الأنثروبولوجيا بتوجهاتها المختلفة؛ قادرة على منح السرديات آفاقا أخرى تعمق امتدادها خارج النص بوساطة المكونات السردية نفسها. إن المكونات السردية التي استفاض السرديون في تحليلها لا تحدد فحسب طبيعة المحكي وأساليب صوغه، بل، من منظور أنثروبولوجي، قادرة على أن تكون قنوات تنتقل، عبرها الرؤى المتخيلة، ويتحول، معها التحليل السردي، بناء على ذلك، إلى مقاربة تحليلية من منظور السرديات الأنثروبولوجية التأويلية. 4- تفيد المقاربة الأنثروبولوجية للنصوص الرحلية في الخلوص إلى أن الإنسان، في شتى تمظهراته وتجلياته يصدر عن عنصرين أساسيين، هما عبارة عن حاجتين أساسيتين في حياة الإنسان: الحاجات البيولوجية المتعددة التي تؤمّن له الاستمرار كاللباس والطعام والشراب والسكن والانتظام والزواج والتوالد والتطبيب وغيرها، ثم الحاجة إلى الحماية عبر اللجوء إلى عبادة إله يقيه هولَ ظواهر وقوى قاهرة يظل عاجزا إزاءها عن التصرف. ومن ثمة كان الملاذ هو المقدس، وسواء كان المعبود موحدا أوحد، كما تنص على ذلك الكتب السماوية، أو متعددا، مثلما تدين المجموعات الوضعية الوثنية، فإن الوازع البشري بات واحدا هو الاحتماء والشعور بالأمن والأمان، والاستناد إلى قوة غيبية هائلة قادرة على حفظ الإنسان؛ وصد القوى الطبيعية وظواهر الشر عنه، وهي حاجة عامة لدى كافة البشر. 5- تشكل النصوص السردية، فضلا عن مكوناتها التخييلية، بيانات حول السياق السوسيوثقافي الذي تنبثق عنه، إذ لا يمكن للكاتب، وهو يحكي مروياته، إلا أن ينهل مواده من الواقع الذي ينتمي إليه، سواء من حيث اللغة، بكافة مستوياتها، أو من حيث الشخوص وهيئاتها ورؤاها ولباسها وملامحها وحواراتها، أو من حيث الهموم والموضوعات والأسئلة والمطامح التي تشغل بالها، أو من حيث التاريخ والجغرافيا المحددان للزمان والمكان السرديين. إن الكاتب، بهكذا معنى، لا يمكنه إلا أن يعبر عن عصره حتى لو شاء الهروب منه، لأنه لا يمكن إلا أن يشتغل من خلال ذاكرته. 6- تعرف المكونات السردية من فضاء وشخصيات وتبئير وزمن وأحداث بكونها محطات قدمت من خلالها السرديات خدمات كبرى للنص السردي، وحققت عبرها نجاحات هائلة. وبحكم ما تحقق من تراكم بحثي حول هذه المقومات التي تميز جنس السرد بكافة أنواعه وتجلياته، من طرف نقاد السرديات وباحثيها، فيمكن اتخاذها منافذ للعبور من المحكي السردي بوصفه بنية مغلقة تشتغل وفق ديناميتها الخاصة، إلى العالم الإنساني بكافة مظاهره الواقعية والمتخيلة، فمن الفضاء السردي نعبُر إلى الفضاء الإنساني (المعمار) ومن الزمن السردي إلى الزمن التاريخي، والزمن النفسي، والزمن القدسي. ومن الشخصية الورقية إلى الشخصية الإنسانية في حلها وترحالها، في حزنها وفرحها، في قلقها الأنطولوجي، في مظاهرها المتحولة تبعا للسياق الثقافي والحضاري المحكوم بطبيعة البيئة الجغرافية والإنسانية، ومن الحدث السردي التخييلي إلى الحدث اليومي والأسطوري، ومن التبئير السردي المرتكز على علاقة الباث بالمتلقي وعالم المحكي إلى المنظور الفكري الإنساني الذي يصل الإنسان بالطبيعة والمجتمع والله والكون والآخر. 7- قادتني هذه المقاربة البحثية إلى الخلوص إلى نتيجة مؤداها أن الحدود بين العلوم الإنسانية ومجالاتها، أصبحت لاغية، لا بحكم تمحورها حول موضوع واحد هو الإنسان، ولا بحكم نظرة القصور إلى المنهج التخصصي الخالص فحسب، بل لكون المقاربة كلما كانت تشتغل داخل وعي نسقي بالتحام كل العلوم وتضامنها وتحالفها؛ كانت النتائج التي تتوصل إليها أفضل على المستوى الإجرائي، وكلما نظر الباحث إلى منهجه وموضوع بحثه في استحضار واع لتموقع تخصصه داخل بنية الكل الحاضنة للتقاطعات والتداخلات بين علوم الإنسان؛ كان مسار تحليله للظواهر، وانتقائه لبيانات موضوعه، وخلاصات نتائجه أكثر شمولية وانسجاما ودقة. إبراهيم الحجري