قرر سمير ديلو التخلي عن مهمة الناطق باسم الحكومة التونسية والاحتفاظ بحقيبة وزارة حقوق الإنسان والعدالة الانتقالية. وأوضح ديلو، في تصريح لصحيفة «الشرق الأوسط»، أن طريقة التعاطي مع الكثير من الملفات لا ترضيه، وأن البلاد تمر بحالة هرج ومرج غير مسبوق، جعلته لا يعبر عن قناعاته السياسية بالطريقة التي يحبذها. وأضاف الوزير التونسي أن بلاده افتقرت خلال الفترة الماضية إلى التواصل الحقيقي وإلى الحوار الفعلي الذي تتطلبه المرحلة الانتقالية، وأن شرعية الفوز في الانتخابات والالتجاء إلى صناديق الاقتراع لضمان الشرعية الانتخابية، لا يمكنهما لوحدهما أن يخرجا البلاد من التوتر السياسي، وأن الحلول التوافقية هي الطريق الأفضل لمرحلة ما بعد الثورة. هذا هو بيت القصيد الذي تم تجاهله باستمرار ومربط الفرس الذي لم يجد من قبل أي من قيادات حركة «النهضة» الجرأة أو التواضع لإعلانه على رؤوس الأشهاد، فالشرعية الانتخابية التي حازتها الحركة بعد انتخابات أكتوبر 2011، مع شريكيها في الحكم «المؤتمر» و»التكتل»، أمر لا مجال لإنكاره أو الاستهانة به، لكنه في كل الأحوال لا يمكن أن يمثل ترخيصا مفتوحا لتبرير الفشل أو التخبط العشوائي. لقد نجحت المعارضة التونسية الحالية، رغم هزال نتائجها في تلك الانتخابات والمكانة غير المؤثرة التي حازتها في المجلس التأسيسي الذي انبثقت عنه، في «التنكيد» الدائم على الحكومة، وتصيّد عثراتها الصغيرة قبل الكبيرة... ولكن أليس هذا هو بداهة دور المعارضة، الذي لو كان آل لحركة «النهضة» بعد تلك الانتخابات لحوّلت حياة أي حكومة تقصيها إلى جحيم حقيقي، خاصة إذا تحالفت معها كل القوى الإسلامية الأخرى في البلاد. الإعلام بدوره كان من أشرس المتربصين بالحكومة، فلم يترك شاردة وواردة إلا تناولها وناقشها وشهّر بالكثير منها، عن جدارة أو بدونها، ولكن أليس هذا هو دور الإعلام الذي حرم منه لعقود ونراه يستمتع به الآن، رغم ما به من اختلاط الحابل بالنابل، ولاسيما من قبل القطاع الخاص الذي قال عنه مؤخرا الأستاذ الكبير محمد حسنين هيكل، متحدثا عن مصر، إنه وهو يفتح الملفات ويبحث عن الحقائق لا يمكن أن يكون إلا ذا تأثير مقلق ومزعج للسلطة، ولكنه في النهاية، كما قال، لا يُحاسب ولا يُراقب، وإن الإعلام إذا كان حرا حماه الجمهور وأخلاق المجتمع. تونس تعيش منذ أشهر توترا سياسيا جليا بين الحكومة ومعارضيها هو بالأساس استقطاب حاد بين الإسلاميين، ومن اختار التحالف معهم علنا أو ضمنا، وبين القوى الليبرالية والقومية واليسارية والنقابية وكل منظمات المجتمع المدني تقريبا. وقد زادت من حدة هذه المواجهة المتجلية في كل شيء، تصريحاتٌ غير موفقة بالمرة من هذا الطرف أو ذاك، ولكن وزرها أشد عندما تأتي من الحكومة وحزبها الأكبر. آخر هذه التصريحات، مثلا، ما جاء على لسان الشيخ راشد الغنوشي، زعيم حركة النهضة، عندما تحدث، في معرض دفاعه عن صهره وزير الخارجية، عن عقاب الثمانين جلدة للمشهّرين بأعراض الناس... في بلد يطمح إلى دولة مدنية يعلو فيها القانون واحترام كرامة المواطن، أو ما كان صرح به رئيس الحكومة حمادي الجبالي خلال أحداث محافظة سليانة قبل شهرين، عندما ربط بقاءه في منصبه ببقاء محافظ المدينة قبل أن يبلع تهديده لاحقا، وصولا إلى كل الوزراء والمستشارين الذين يعاني الكثير منهم من إسهال في التصريحات، دونما تقدير لقيمة الكلمة عندما تخرج من فم أي مسؤول في جو لا ينقصه التوتر. لا بديل اليوم في تونس عن شرعية التوافق الوطني الواسع الذي لا يقصي أحدا مهما كانت الحساسيات. من غير الطبيعي أن الفرقاء الأساسيين في البلد لم يجتمعوا، ولو لمرة واحدة، حول نفس الطاولة منذ انتهاء حكم بن علي: الحكومة ظلت منتشية بشرعية انتخابية قررت تمديدها بمفردها، والمعارضة استمرأت، على ما يبدو، لعب دور منغّص اللذات. لا مفر من الاتفاق على خارطة طريق واضحة يتفق فيها الجميع على دستور طال انتظاره وقوانين أساسية تمهد لانتخابات مجمع على تاريخها من الآن. من يفزْ بهذه الانتخابات نباركْ له من الآن وليتصرف بتفويض مدته خمس سنوات يحاسب على إثرها بناء على إنجازاته أو إخفاقاته؛ فهل هذا بكثير؟ محمد كريشان