رغم أن فرنسا في حاجة ماسة للأموال القطرية، لا تكف مختلف منابرها الإعلامية عن التطرق للحضور القطري داخل قطاعات هامة بالأراضي الفرنسية، ولا تكف عن إبداء مخاوفها بشأن الغاية التي تدفع قطر إلى الاستثمار بكثافة داخل قطاعات يصفها بعض الفرنسيين بالحساسة. هذا الأمر أضحى يقلق بال البعض، خصوصا أولئك الذين يربطون النفوذ المالي بالهوية الدينية، وعدم تردد قطر في توفير الدعم المالي للمجموعات الدينية في مختلف البلدان العربية. داخل حجرة الاستقبال، طال انتظارنا الممل للسيد النائب العام. أمامنا مجموعة من الملتحين يضعون «الدشداشة»، ويناقشون بعض الأمور بينهم بصوت خافت. لا يجول أي واحد بنظره حول المكان، لا في اتجاه العامل الهندي الذي يسهر على جلب ما يروون به عطشهم، ولا ناحية السيدة التي لا تضع حجابا فوق رأسها، والتي حلت لإجراء حوار مع رئيسهم، الدكتور علي بن الفطيس المري، النائب العام لدولة قطر، ورابع شخصية أكثر نفوذا في الإمارة. بعدما دلفنا المكتب، جلس هذا الأخير تحت صورة الأمير، وطلب شايا بالزعتر. بعدما شرعنا في تبادل الحديث، حرص هذا الأخير أن يأخذ وقته الكامل لأجل التحدث عن فرنسا. وكان يعرف حق المعرفة شوارع فرنسية كبيرة مثل كليرمونت فيراند، ووبيسانسون، وسان مالو، وأفينيون، ومدينة باريس التي درس بها لمدة 12 عاما، حتى حصوله على شهادة الدكتوراه في القانون. النائب العام يحب كل شيء مرتبط بفرنسا سواء، «نابوليون، أو دوغول، أو متحف لولوفر، أو الأجبان...» كما جلب معه العديد من التحف القديمة من فرنسا، التي وضعها داخل مكتبته بجانب بندقية كلاشنيكوف مصنوعة من الذهب منحها إياه الراحل صدام حسين. المدة التي قضاها بفرنسا مكنته كذلك من ربط صداقة بالكثير من الأشخاص، سواء المغمورين، أو المشاهير مثل آلان جيبي، ودومينيك دوفيلبان، وساركوزي، الذي منحه سنة 2008 وساما شرفيا من درجة فارس. ويعلم فخامته بكل شيء حول فرنسا؛ بدءا بالطريقة التي تصور من خلالها قناة «كنال بلوس» بلاده من خلال أحد برامجه الهزلية الشهيرة، ووصولا إلى اتهامه الخاطئ من قبل الصحافة الفرنسية بكونه أب الطفلة زهرة، ابنة رشيدة داتي... لم يبد الدكتور المري أدنى تردد بشأن الرد على كل الأسئلة، لكنه طلب إن كان بإمكانه طرح سؤال واحد: «لم كل هذه الشكوك التي تساور الفرنسيين؟ ولم الخوف من أشخاص يرغبون في الاستثمار داخل الأراضي الفرنسية؟» يدرك أصحاب القرار داخل إمارة قطر جيدا حجم الشكوك التي يثيرها تواجدهم بفرنسا؛ فالمال والهوية الدينية لقطر وكل ما يرتبط بذلك من إيحاءات ورموز يثير القلق لدى الفرنسيين. وداخل الأوساط الفكرية، والاقتصادية، والدبلوماسية... يطرح التساؤل مرارا وتكرارا حول النوايا الحقيقية لهذه الإمارة، التي لا تفوق مساحتها مساحة جزيرة كورسيكا، والتي أضحت تمتلك علامات كبيرة، مثل فريق باريس سان جرمان، وعددا من الشركات الفرنسية القوية، مجموعة لاغاردير (12 في المائة)، و شركة الفضاء والدفاع الجوي الأوروبية (6 في المائة)، وطوطال (4 في المائة)، وفينسي (5 في المائة)... هذا دون الحديث عن مشاريعها المستقبلية بدولة فرنسا، وانضمامها للمنظمة الدولية للفرانكفونية. أمام كل هذا الحضور القطري لم يكن أمام الصحافة سوى إبداء قلقها إزاء النفوذ القطري، وهو القلق نفسه الذي دفع أحد أعضاء البرلمان لطرح فكرة إنشاء لجنة تقصي برلمانية حول قطر. كل شيء ممكن هذا «الضجيج السياسي والإعلامي» لا يحجب الابتسامة الجميلة عن محيا سفير قطر لدى فرنسا. «الأمر مرده للاستثناء الثقافي الفرنسي»، يتحسر محمد الكواري، في إشارة إلى أن بريطانيا لا تقوم بذلك رغم تفويتها لجزء كبير من اقتصادها لصالح القطريين. وهو الأمر الذي يسري كذلك على ألمانيا، حيث تمتلك قطر حصصا مهمة في شركات مثل فولسفاغن، وبورش، وهوشتيف، عملاق أشغال البناء، فيما يقوم الفرنسيون بالتباكي، بينما تنفق قطر الكثير لأجلهم، وينسون ما فعلته قطر لتحرير الممرضات البلغاريات من ليبيا، واقتنائها لفريق باريس سان جرمان في وقت لم يكن يرغب أي طرف في القيام بذلك. هذا التخوف الفرنسي يأتي في وقت يتسابق فيه العالم بأسره على العاصمة القطرية الدوحة لأجل الظفر بصفقة إنجاز أحد المشاريع الضخمة التي أطلقتها عائلة آل ثاني للإعداد لكأس العالم لكرة القدم لسنة 2022، أو لمناقشة ما ستؤول إليه الأوضاع في فلسطين أو سوريا، أو لحضور المؤتمرات الدولية حول التعليم، والبيئة، والفساد، والديمقراطية... داخل دولة قطر كل شيء ممكن، فمن غير المستبعد مصادفة بان كي مون، أو موسى كوسا، وزير الخارجية السابق في فترة حكم العقيد معمر القذافي، أو طارق رمضان، الذي يدرس داخل مؤسسة قطر... وقبل بداية هذه السنة، كان نيكولا ساركوزي هو من يجول داخل العاصمة القطرية، على هامش منتدى أهداف الدوحة. وفي هذه السنة الجديدة، سيكون الدور على فرنسوا هولوند، الذي سيقوم قريبا بزيارة دول الخليج، لكي يحل بالديوان، قصر الأمير. وعلى ما يبدو فهذه محاولة من هذا الأخير لأجل وضع حد للتواجد القطري في كل مكان، وذلك عبر إحياء الروابط القوية التي تجمع فرنسا بالإخوة الأعداء بالمملكة العربية السعودية. وبالدوحة، يجري التحضير لكل شيء لأجل إغراء الرئيس الفرنسي، فمن سيستطيع مقاومة إغراءات وأموال قبيلة آل ثاني؟ منذ ال 6 ماي 2012، وحتى قبل الإعلان عن فوز هولوند، كشفت قطر عن اهتمامها الكبير بالرئيس الفرنسي الجديد. «كان المقربون منه يتلقون المكالمة الهاتفية تلو الأخرى، يتذكر أحد الدبلوماسيين. «كان القطريون يرغبون في استمرار العلاقات على حالها.» شهرا بعد ذلك، استقبل الرئيس هولوند بقصر الإليزيه في 7 يونيو، الوزير الأول القطري، حمد بن جاسم آل ثاني. لكن ذلك اللقاء ليس الأول الذي يجمع بينهما، حيث التقيا بشكل سري في عز الحملة الانتخابية، بفضل جهود السفير محمد الكواري، الذي سعى بشكل حثيث إلى ترتيب مرور الانتقال بشكل سلس... «فرنسا بالنسبة لنا هي الحب والاستثمارات»، يتفاخر السيد السفير. سر الحب القطري لفرنسا ليس وليد اللحظة بل يعود لأربعين سنة مضت، حينما حصلت الإمارة على استقلالها سنة 1971 من الاستعمار البريطاني، ووجدت نفسها محاصرة بين إيران والمملكة العربية السعودية. لم تجد قطر حينها بدا من التوجه بأنظارها نحو باريس. كما أثبت حمد بن خليفة آل ثاني أنه فرنسي الهوى حتى قبل توليه مقاليد الحكم في الإمارة. «لقد سقط في حب اللغة الفرنسية، هذه اللغة التي تغنى»، يتذكر الأستاذ بيير لاريو. كان الأمير معجبا بالثقافة الفرنسية، وجاء الانقلاب الذي قاده ضد والده سنة 1995 لإعطاء دفعة أكبر لهذا الإعجاب. جاك شيراك لم يتردد في الاعتراف بالأمير، فيما حلت شركة «طوطال» الفرنسية لأجل مساعدته على النجاح في تحديه الكبير باستخراج الغاز الطبيعي من باطن البحر. وبفضل ذلك وجدت عائلة آل ثاني، القبيلة المنبوذة داخل الخليج العربي، طريقها نحو الرقي والرفاه، ولم يعد في مقدور أي كان طرح السؤال على الأمير حمد عما إن كانت قطر توجد فعلا على الخريطة الأرضية. «لقد تحدث معي الأمير مؤخرا، ومن جديد، بخصوص الدور الذي لعبناه في جلب الازدهار لبلده»، يقر ستيفان ميشيل، المدير العام لشركة «طوطال» داخل قطر. «إن القطريين من أشد الناس حرصا على الوفاء، شريطة عدم تعرضهم للخذلان.» الإعجاب والتوجس «إن فرنسا تنال حقا الكثير من الإعجاب القطري. لا يوجد مثيل لذلك الإعجاب في أي من بلدان الخليج العربي»، توضح فتيحة دازي هيني، أستاذة العلوم السياسية المختصة في منطقة شبه الجزيرة العربية. «إنهم يسعون لكي يكونوا مثلنا، ويحاولون صنع تاريخ وثقافة وماض لهم بالمال.» كما «يتصرف القطريون وكأنهم ملوك العالم»، يلاحظ أحد الدبلوماسيين الفرنسيين. وإذا كان في استطاعتهم ذلك سوف يقتنون متحف اللوفر، وبرج ايفيل والمكتبة الوطنية الفرنسية...» فهل أصبحت قطر «قوة استعمارية» في العالم؟ كان ذلك هو السؤال الذي تطرقت له مجموعة تفكير فرنسية تضم عددا من الدبلوماسيين والباحثين، وموظفين سامين داخل وزارة الداخلية الفرنسية مستهل شهر دجنبر الماضي. وبدون أدنى تحفظ تم على هامش ذلك الملتقى اتهام الإمارة بالرغبة في «أسلمة» العالم، وذلك من خلال تقديم الدعم المالي للإخوان المسلمين بمصر، وتونس... وكذلك بسبب طبيعة العلاقات التي تجمع الإمارة بعدد من الجهاديين... أحد ممثلي دولة قطر كان حاضرا أثناء اللقاء، وقال خلاله: «لم أتخيل أبدا أن تصل الأوهام إلى هذا الحد.» وسواء كان ذلك الأمر وهما أم حقيقة، لا أحد سيجادل في كون الاستثمارات الخارجية ليس لها أي نفوذ يذكر سواء في فرنسا أو في قطر أو في أي مكان آخر.