عزيزي القارئ، إذا كنت تعمل طبيبا أو مهندسا ولديك عيادة أو مكتب خاص... هل يجوز، مثلا، أن تتصل تلفونيا آخر العام بمصلحة الضرائب وتخبرها بأنك خسرت في عملك هذا العام، وبالتالي لن تدفع الضرائب أم إن القانون يلزمك بأن تقدم دفاتر مصروفاتك وإيراداتك لتراجعها مصلحة الضرائب وتثبت أرباحك وتقدر الضرائب المستحقة عليك؟ هل يجوز أن تعتبر تقديم حساباتك للضرائب انتهاكا لأسرارك؟ هل يمكن أن ترفض حق مصلحة الضرائب في أن تعرف كم كسبت من عملك؟! هذه الأسئلة إجابتها بديهية: من حق الدولة أن تعرف أرباح المواطنين في أعمالهم حتى تقدر الضرائب المستحقة عليهم وتحصلها منهم.. إذا كان هذا حق الدولة على المهنيين الذين يكسبون لينفقوا على أولادهم، فما بالكم بالسياسيين الذين يعملون بالعمل العام ويترشحون للمجالس النيابية، والذين يتم اختيارهم لمناصب الدولة العليا؟ أليس من حق الدولة ومن واجبها أن تراقب تمويل هؤلاء السياسيين وأحزابهم وجمعياتهم؟ أليس من حق المواطن أن يعرف مصدر تمويل من سيكون نائبا عنه في البرلمان أو رئيسا للوزراء أو رئيسا للجمهورية؟ إن كشف مصادر تمويل الأحزاب والسياسيين حق أصيل للدولة ومواطنيها. في مصر، ظهرت عندنا حالة غريبة بعد الثورة. الأحزاب المصرية كلها تخضع لإشراف الدولة وتعلن عن مصادر تمويلها وتنشر ميزانياتها في الصحف إلا جماعات الإسلام السياسي، فالمسؤولون عنها يرفضون بشدة أن يعلنوا عن مصادر تمويلهم، بينما هم ينفقون ملايين الجنيهات أمام أعيننا كل يوم. الإخوان والسلفيون يشترون مئات المقار في محافظات مصر بأموال مجهولة المصدر. يكفي أن نعرف أن الإخوان المسلمين لديهم 1375 مقرا في أنحاء مصر، بل إن مقر الإخوان الرئيسي في المقطم وحده تم بناؤه بتكلفة 30 مليون جنيه. أثناء الانتخابات، نرى الإخوان والسلفيين وهم يوزعون آلاف الأطنان من المواد الغذائية مجانا على الفقراء من أجل شراء أصواتهم، بل إنهم أحيانا يدعمون سعر أنابيب البوتاغاز بطريقة تعجز الدولة عنها. ثمة أدلة قاطعة نراها كل يوم تؤكد أن ميزانية الإخوان والسلفيين تقدر بمئات الملايين من الجنيهات، لكنهم لا يقولون أبدا من أين يحصلون على هذه الأموال الطائلة. لقد طالبنا قيادات الإخوان والسلفيين مرارا بالكشف عن مصادر تمويلهم، وفي كل مرة ينتابهم الغضب ويردون علينا بسيل من الشتائم والاتهامات. إذا طالبت بحقك كمواطن في معرفة مصدر تمويل الإخوان والسلفيين، فستتحول فورا في رأيهم إلى علماني فاسق معاد للإسلام ورافض لشرع الله وعميل للغرب والصهيونية العالمية.. إنهم يتحدون الدولة ويضربون بقوانينها عرض الحائط عندما يرفضون الكشف عن تمويلهم.. قال أحد قيادات الإخوان مرة: «نعم، عندنا مليارات الجنيهات ولن نقول من أين حصلنا عليها. لا دخل لأحد بأموالنا. موتوا بغيظكم!». هذا المنطق شاذ ومرفوض لأننا لا نتحدث عن مخالفة بسيطة، بل جريمة سياسية وجنائية. السؤال هنا: هل الدولة مهملة وغافلة عن تمويل الإخوان والسلفيين أم إنها متغافلة ومتواطئة معهم؟ ثمة مؤشرات على تواطؤ واضح من الدولة.. قبل الثورة، كانت الجمعيات السلفية تستأذن وزارة التضامن الاجتماعي من أجل الحصول على تمويل من شخصيات وجمعيات خليجية، وكانت وزارة التضامن كثيرا ما ترفض السماح للجمعيات بقبول التمويل لأسباب أمنية، بمعنى أن جهات الأمن كانت تكتشف أن هذا التمويل سيستعمل لأغراض سياسية فتوصي وزارة التضامن برفضه.. بعد تنحي مبارك تحالف الإخوان والسلفيون مع المجلس العسكري لتبادل المنافع. العسكر كانوا يحتاجون إلى فصيل منظم يدعمهم ويضمن لهم استمرار امتيازاتهم، والإخوان والسلفيون كانوا يريدون الانتخابات أولا حتى يحصلوا على الأغلبية في البرلمان ليكتبوا دستور مصر على هواهم بعيدا عن بقية القوى الوطنية.. نتيجة لهذا التحالف، تجاهل المجلس العسكري تماما مراقبة مصادر تمويل الإخوان والسلفيين. في يوم 21 فبراير 2011، وافقت وزارة التضامن الاجتماعي على تمويل ورد من الخليج إلى جمعية سلفية بمبلغ 296 مليون جنيه، وهو مبلغ هائل لا يتفق إطلاقا مع أهداف الجمعية الخيرية، وقد فشل المسؤولون عن الجمعية في تفسير أوجه إنفاق هذا المبلغ، فقالوا إنهم أنفقوا 30 مليون جنيه في أغراض كفالة اليتيم ورعاية الفقراء، أما بقية المبلغ فقال المسؤولون عن الجمعية إنهم أنفقوه في «أغراض تنموية مختلفة»، وهو -كما نرى- مصطلح مبهم ومطاط ولا يحتاج المرء إلى ذكاء كبير ليدرك أن هذه الأغراض التنموية المختلفة ليست بعيدة عن دعم الأحزاب السلفية أثناء الانتخابات.. نذكر هنا أن هذا المبلغ الهائل 296 مليون جنيه ورد من شخصيات خليجية معروفة، وأنه دفعة واحدة من التمويل المستمر لجمعية سلفية واحدة فقط. ولنا هنا أن نقدر حجم المليارات التي تنهمر على الإخوان والسلفيين، بينما ظلت الدولة المصرية طوال الفترة الانتقالية تغمض عينيها حتى لا يحرج المجلس العسكري حلفاءه من الإخوان والسلفيين. مرة واحدة حاولت الدولة المصرية أن تراقب تمويل الإخوان والسلفيين عندما شكل وزير العدل الأسبق المستشار محمد الجندي لجنة قضائية للتحقيق في التمويل الخارجي؛ لكن المدهش أن هذه اللجنة، بعد أن كشفت عن مبلغ ال296 مليون جنيه الذي حصلت عليه الجمعية السلفية المذكورة، قررت (اللجنة) فجأة إغلاق ملف تمويل جماعات الإسلام السياسي إلى الأبد، وحصرت جهودها في مراقبة تمويل منظمات المجتمع المدني، وأحالت المسؤولين عنها على المحاكمة الشهيرة التي تم تهريب المتهمين الأمريكيين فيها بإيعاز من المستشار عبد المعز (الذي قام مرسي بتكريمه بعد ذلك). الباب مفتوح، إذن، على مصراعيه لأموال ضخمة تنهمر على الإخوان والسلفيين من مصادر لا يريدون الكشف عنها أبدا. وهم يستعملون هذا المال -كما شاهدنا جميعا- من أجل شراء أصوات الفقراء والمحتاجين. وقد حدث هذا التمويل الضخم برضى المجلس العسكري، ثم وصل الإخوان إلى السلطة فصار الوضع أكثر تعقيدا لأنه لا يمكن أن نتصور أن مرسي سيأمر بمراقبة تمويل الجماعة التي ينتمي إليها والتي دفعت به إلى السلطة. نحن لا نتهم أحدا بالخيانة ولا نشكك في وطنية أحد، لكن القضية خطيرة فعلا ولا يمكن السكوت عليها، وذلك للأسباب التالية: أولا: في الدول الديمقراطية جميعا يتم تجريم أي تمويل خارجي لأغراض سياسية. هذا التجريم قاطع دون أي استثناء؛ وإذا ثبت أن أحد السياسيين تلقى أموالا من الخارج ليستعملها في حملته الانتخابية، فإن مصيره المحتوم سيكون العزل من منصبه والسجن. المجال يضيق عن ذكر القضايا التي تم فيها التحقيق مع مسؤولين في دول ديمقراطية لاتهامهم بتلقي أموال من الخارج لأغراض سياسية.. نحن، إذن، بصدد جريمة سياسية وجنائية انتبهت إلى خطورتها الدول الديمقراطية جميعا، ولا يمكن أن نقبل ارتكابها في مصر إذا كنا نريد أن نبنى ديمقراطية سليمة؛ ثانيا: تدفق أموال مجهولة المصدر على الإخوان والسلفيين ينسف مبدأ مهما في الديمقراطية: تكافؤ الفرص. الانتخابات النزيهة لا تتحقق فقط بانعدام التزوير، وإنما تتحقق عندما يمنح المرشحون كلهم فرصة عادلة متساوية لكي يعرضوا برامجهم وأفكارهم، وتتحقق عندما يختار الناخب مرشحه بحرية بعيدا عن الرشاوى الانتخابية، وتتحقق عندما يعرف الناخب مصدر أموال كل مرشح وكيف حصل عليها. لا يمكن قبول نتائج أي انتخابات إذا استمر الإخوان والسلفيون في إنفاق ملايين لا نعرف مصدرها من أجل استغلال فقراء مصر وشراء أصواتهم الانتخابية. في ظل هذه الظروف، حتى لو لم يحدث تزوير في صناديق الانتخاب فلن تكون الانتخابات ديمقراطية أبدا، لأنها لن تعبر عن إرادة الشعب الحقيقية وإنما ستعبر عن استغلال الإخوان والسلفيين لحاجة الناس من أجل الوصول إلى السلطة بأي طريقة وأي ثمن؛ ثالثا: إن استعمال أحزاب الإسلام السياسي أموالا مجهولة المصدر يقضي على سيادة الدولة وكرامتها ويعرضها للخطر لأنه يسمح لأطراف خارجية بالتحكم في مجريات الأمور في مصر... نتمنى هنا أن نعي درس لبنان ونتذكر ما حدث لهذا البلد العظيم منذ السبعينيات عندما تدفقت الأموال من أطراف خارجية لتعيد تشكيل لبنان كما تحب الأطراف الممولة حتى انتهى لبنان إلى الحرب الأهلية. نحن لا نتهم الإخوان والسلفيين بالعمالة، معاذ الله، لكننا مع احترامنا لهم نتساءل: إذا كانت لدى الإخوان والسلفيين مصادر مشروعة للتمويل، فلماذا لا يعلنون عنها ولماذا يرفضون الكشف عن ميزانيتهم للرأي العام وإخضاعها لرقابة الدولة؟ وإذا افترضنا أن تمويل الإخوان والسلفيين يتدفق عليهم من هيئات أو حكومات في الخليج، فهل نحن من السذاجة بحيث نعتبر هذه الهيئات الممولة جمعيات خيرية؟ هناك مثل أمريكي يقول: «I PAY I SAY» أنا أدفع أنا آمر... من المنطقي أن تكون للهيئات الممولة للإخوان والسلفيين أهداف سياسية تحرص على تحقيقها في مصر؟! إذا افترضنا أن هذه الأموال تتدفق على جماعات الإسلام السياسي من دول خليجية، فلا بد أن ندرك أن بعض العائلات الحاكمة في الخليج تتخذ موقفا عدائيا من الثورة المصرية منذ بدايتها حتى اليوم.. هذه الأنظمة الخليجية ترى في الثورة المصرية خطرا داهما على استقرارها في الحكم. وهم يعلمون بأن الثورة لو نجحت في مصر وأقامت دولة ديمقراطية سليمة، فإن النموذج الذي ستقدمه مصر سيؤدي، في النهاية، إلى سقوط أنظمة خليجية عديدة.. هل نتصور، مثلا، أن هذه الأنظمة الخليجية تمول جماعات الإسلام السياسي من أجل إنجاح الثورة أم إنها تدفع هذه الملايين من أجل إحكام قبضة الإسلاميين على السلطة مما يبعد عنها خطر الثورة؟! إن الكشف عن مصادر تمويل الإخوان والسلفيين واجب وحق أصيل للدولة وللمواطن في مصر.. إذا كانت الثورة تنضج وتتعلم من أخطائها، فلا يمكن دخول انتخابات البرلمان القادمة ونحن لا نعرف من ينفق على من، وإلا فإن ما حدث في الانتخابات من قبل سيحدث من جديد وسوف نرى أصوات الفقراء يشتريها الإخوان والسلفيون عيانا جهارا بأموال لا نعرف مصدرها. قبل أن يغضب الإخوان والسلفيون منا، عليهم أن يضربوا نموذجا في النزاهة والاستقامة ويكشفوا للرأي العام عن مصادر تمويلهم.. قبل أن تشترك القوى الوطنية في أي انتخابات قادمة، يجب عليها أن تجد إجابة لهذا السؤال: ما هي مصادر تمويل الإسلام السياسي في مصر..؟! أيها الإخوان والسلفيون، من أين تنفقون؟ الديمقراطية هي الحل. علاء الأسواني