هدّد الرئيس محمود عباس بحلّ السلطة ودعوة «صديقه» بنيامين نتنياهو إلى المقاطعة (مقر السلطة في رام الله) للجلوس على كرسيه فيها، وتسلم المفاتيح بالكامل، إذا لم يتم استئناف المفاوضات بعد انتهاء الانتخابات البرلمانية الإسرائيلية في الثلث الأخير من الشهر المقبل. هذه هي المرة العاشرة التي يهدد فيها الرئيس عباس بحلّ السلطة، دون أن ينفذ هذه التهديدات، أو حتى جزء منها، ولهذا لن يعيرها نتنياهو أو أي طفل فلسطيني أي اهتمام. المؤلم أن هذه التهديدات بحل السلطة وتسليم مفاتيحها إلى نتنياهو، الذي من المؤكد أنه يملك نسخا عنها، تأتي للضغط عليه لاستئناف المفاوضات، وليس بسبب عدوانه على قطاع غزة أو إقامة آلاف الوحدات السكنية الاستيطانية لخنق مدينة القدسالمحتلة وعزل شمال الضفة عن جنوبها. سيخرج علينا أحد المتحدثين باسم الرئيس عباس غدا باتهامنا بالجهل السياسي، وعدم دعم «المشروع الوطني» الفلسطيني، لأننا لا نقدر أن هذه التصريحات والتهديدات التي نشرت في صحيفة «هآرتس» الإسرائيلية هدفها التأثير على الرأي العام الإسرائيلي، وممارسة ضغوط على نتنياهو، ومساعدة خصومه في الأحزاب الأخرى «المعتدلة». نصاب بحالة من القرف عندما نقرأ مثل هذه التبريرات الساذجة التي تكشف عن أميّة سياسية، ومحاولة بائسة لخداع الرأي العام الفلسطيني وتضليله، واستجداء تعاطف الإسرائيليين بطريقة مهينة. في مقابلة مماثلة، وقبل بضعة أسابيع، مارس الرئيس عباس الهوان نفسه، وقدم تنازلات لم يحلم بها الإسرائيليون عندما أعلن عن عدم رغبته في العودة إلى مدينة صفد، مسقط رأسه، والمحتلة عام 1948، في إشارة واضحة تؤكد على إسقاطه لحق العودة، الجوهر الأساسي للقضية الفلسطينية، ولم يلق هذا التنازل الكبير غير الازدراء من قبل نتنياهو وأفيغدور ليبرمان، وطرح عطاءات بإقامة 3000 وحدة سكنية في المستوطنات المحيطة بمدينة القدسالمحتلة، ووقف تحويل الأموال العائدة إلى السلطة من الضرائب المقتطعة على الواردات إلى أراضيها. هذا التذاكي من قبل السلطة ورجالاتها (وهم يعدّون على الأصابع) لم يغير في الخريطة السياسية الإسرائيلية مليمترا واحدا، بل دفع الإسرائيليين للتطرف وانتخاب أكثر الأحزاب تشددا وعنصرية لتولي القيادة، بينما تراجعت بشكل متسارع شعبية الأحزاب الأخرى الأقل تشددا، ولا نقول الأكثر اعتدالا، لأنهم متفقون، في معظمهم، على ابتلاع أراضينا ونهب ثرواتنا، وبقاء المستوطنات على أرضنا وتعزيزها. الرئيس عباس، الذي يقول دائما إن السلطة الفلسطينية هي عنوان «المشروع الوطني» الذي يسعى إلى الحفاظ عليه، ما كان عليه أن يقول إنه سيسلم مفاتيح هذه السلطة إلى نتنياهو، وإنما إلى رئيس فلسطيني آخر يتولى حمل الراية من بعده، ويقود المواجهة مع نتنياهو على أرضية المقاومة بأشكالها كافة، فهذه سلطة إقامتها انتفاضة شريفة، سقط خلالها آلاف الشهداء. فمن يريد تسليم مفاتيح السلطة إلى نتنياهو لا يجدد تعهده بمنع انفجار انتفاضة ثالثة في الضفة الغربية، بل عليه أن يؤكد أنه باق في الميدان، وسيكون على رأسها سيرا على خطى الرئيس الشهيد ياسر عرفات وكل شهداء الثورة الفلسطينية، لا أن ينسحب بهذه السهولة ويتخلى عن المسؤولية. نتفق على قرار حلّ السلطة لأنها باتت عبئا على المشروع الوطني، ولكننا نختلف مع الرئيس على مرحلة ما بعد الحلّ. شخصيا، شعرت بغصّة وأنا أقرأ مقابلة الرئيس عباس للصحيفة الإسرائيلية، وهي ليست المرة الأولى على أي حال، خاصة عندما قال إن إسرائيل، وليست السلطة، هي التي خفضت مستوى التنسيق الأمني مع أجهزة الأمن الفلسطينية، وعادت قوات الأمن الإسرائيلية إلى اقتحام المدن الفلسطينية، بما فيها «العاصمة» رام الله دون أي تنسيق. التنسيق الأمني «المعيب» بين قوات أمن السلطة ونظيرتها الإسرائيلية سقط بفضل صواريخ «فجر 5» و«K75» التي أطلقها رجال المقاومة من قطاع غزة إلى المستوطنات المحيطة بغلاف القدسالمحتلة، وهي الصواريخ التي هزّت تل أبيب ودفعت أربعة ملايين إسرائيلي إلى الهروب إلى الخنادق مثل الجرذان المذعورة، فالتنسيق جاء لمنع وصول الصواريخ، وبالتالي إطلاقها من الضفة الغربية. وضع الرئيس عباس يدعو إلى الشفقة، فالرجل بات مهمشا، وسلطته مفلسة، ومشروعه السياسي في إقامة دولة مستقلة على خُمس الأرض التاريخية الفلسطينية جرى اختصاره في اعتراف هشّ، وبأغلبية محدودة، من قبل الأممالمتحدة في دولة ورقيّة «مراقبة». لا أعرف لماذا يريد الرئيس عباس الانتظار إلى ما بعد الانتخابات الإسرائيلية لكي يسلّم مفاتيح السلطة إلى نتنياهو أو غيره، وهو الذي يقول إن نتنياهو والتحالف اليميني المتطرف الذي يتزعمه سيفوز في هذه الانتخابات، فليقدم على هذه الخطوة الآن اختصارا للوقت وتقليصا للمعاناة، معاناته هو على الأقل. ختاما، نقول للرئيس عباس أن يكفّ عن إطلاق التهديدات التي يعرف مقدما أنه لا يستطيع تنفيذها، وأن يعترف بأن خياراته التفاوضية فشلت في الوصول إلى حلّ الدولتين، وأن يعتذر إلى الشعب الفلسطيني عن هذا الفشل، ويترك له حرية اختيار البدائل ويرحل إلى منفى آمن بكل كرامة، قبل أن يطالبه الشعب بالرحيل مثل زعامات عربية أخرى، وهو أمر لا نتمناه له. عبد الباري عطوان