محمد الخمليشي بعد وفاة مرشدها المرحوم عبد السلام ياسين، تجد جماعة «العدل والإحسان» نفسها في مواجهة خيارين لا ثالث لهما. الخيار الأول هو متابعة مسيرتها بالثبات على المواقف الفكرية والسياسية نفسها، مع تصر يف ذلك على أنه تعبير عن الوفاء لتاريخ التنظيم ورموزه، ودليل على شجاعة أدبية والتزام بالمبادئ. الخيار الثاني هو القيام بوقفة مع الذات وتحقيق مراجعة للأفكار والمناهج التي يتبناها التنظيم. الجماعة نشأت قبل ثلاثين عاما؛ وخلال هذه الفترة، تغيّرت الكثير من الأحوال والمعطيات بما يستوجب عادة، ولو من باب اليقظة وحسن التدبير، تقييم المسلمات الفكرية والمواقف للتأكد من سلامتها ومن مدى توافقها مع المرحلة. مراجعة الذات تمرين فكري طبيعي ويومي في بيئة سليمة. هي كذلك بمقاييس الدين وبمقاييس المنطق والعقل. كل إنسان، أيا كانت عقيدته ومستواه وثقافته وسلوكه، هو أبعد ما يكون عن الكمال، لأن الكمال لله وحده... والمفروض أن كل إنسان، إذا كان يمتلك قليلا من الحكمة والتواضع، سيسعى دائما وأبدا إلى مراجعة الذات أملا في تجاوز النقائص في فكره وسلوكه وعمله، وبذلك يرتقي نحو الأفضل ويتطلع إلى الكمال ولو أن الكمال لا يُدرك... المفارقة أن مراجعة الذات، التي هي «تمرين طبيعي» بمقاييس الدين والمنطق، صارت أمرا عسيرا ومسلكا مريبا في عرف هذا الزمان، حتى إن الفرد الذي يبادر إلى مراجعة، ولو جزئية، لقناعات ومواقف نشأ عليها ورافقته طيلة حياته، يجب أن يتمتع بشجاعة خارقة كي ينجح في مسعاه. وإذا كان الفرد يشقّ عليه أن يقتنع بينه وبين نفسه بأنه ربما مخطئ في كذا أو مقصّر في كذا، وعليه أن يبحث عن الأفضل، فالأمر أكثر صعوبة بالنسبة إلى تنظيم أو جماعة. العرف القائم يجعل دعوة أي عضو في التنظيم إلى مراجعة الذات وتقييم الأفكار والمواقف إما خطوة في مبادرة مشبوهة أو علامة على التخاذل وقلة الوفاء. هذا الموقف ليس مقتصرا على التنظيمات الإسلامية، بل يهّم كافة التيارات والهيئات، فالكل ينهل من الثقافة نفسها. من يجرؤ، مثلا، في حزب «الأصالة والمعاصرة» على المطالبة بمراجعة الأسس الفكرية والسياسية للحزب بعد ما لحقه من تراجع يهدّده بالاندثار؟ المؤكد أن لا أحد من أعضاء الحزب امتلك الجرأة على ذلك، وإن كان من «شجاع» قال بذلك، فكلامه كان صيحة في واد. بعد فترة من الصمت والمهادنة فرضتها موجة «الربيع العربي» والدستور الجديد والانتخابات التشريعية، عاد حزب «الأصالة والمعاصرة» إلى سابق عهده. حزب أبعد ما يكون عن تقديم نموذج ديمقراطي داخلي، وأعجز من نتاج أفكار ومبادرات، وأضعف من أن يقدم برامج سياسية واقتصادية للمغرب. تنظيم يختزل مشروعه وبرنامجه في سطر واحد هو مناوشة حزب «العدالة والتنمية». أمام جماعة «العدل والإحسان» تحدٍّ حقيقي هو أن تستشعر حجم المسؤولية ودقة المرحلة، وتستجمع شجاعتها لتراجع أفكارها ومواقفها. الزمن غير الزمن والمرحلة غير المرحلة. لعل أكثر من يعي اليوم التفاوت بين القناعات الفكرية والمسلمات التي عاشت بها الحركات السلامية دهرا من الزمان وبين الواقع هي حركة «الإخوان المسلمين» في مصر. هذا التنظيم الإسلامي هو الأقدم في العالم العربي، وهو المرجع الفكري لأغلب التنظيمات الإسلامية التي ظهرت تباعا في الدول العربية. التجربة المصرية أثبتت أنه رغم نفوذ «الإخوان المسلمين» في الشارع المصري، فإن ثورة (أو «قومة» حسب أدبيات «العدل والإحسان») 25 يناير 2011 لم تكن من إنجاز هذا التنظيم. وحين وصلوا إلى الحكم، تعاقبت أخطاؤهم السياسية وهم بعدُ في بداية المشوار، حتى إن المصريين اليوم نسوا هموم التنمية والمشكلات الاقتصادية لينشغلوا بمشاكل الاستقرار والأمن؛ فهل هذا هو تحقيق «مقاصد الشريعة»؟ البلد يجتاز اليوم مرحلة بالغة الخطورة وينحدر نحو الأسفل، و«الفضل» في ذلك يعود إلى «الإخوان» الذين هم مقتنعون بأنهم دائما على حق وغيرهم على باطل؛ فتلك قناعة راسخة لا تتزعزع منذ سبعين عاما. جماعة «العدل والإحسان»، كما كثير من الحركات الإسلامية، تعيش التباسا كبيرا، هو الخلط بين الدعوة والسياسة. الدعوة إلى الدين أمر مشروع له مجاله، وهي مهمة يقوم بها فرد أو جماعة لنشر فضائل الإيمان والأخلاق في المجتمع. أما السياسة، فهي أمر مشروع كذلك، لكن لها مجال آخر. السياسة تُعنى بتدبير الدولة والمجتمع، وهي تتطلب أدوات فكرية وعملية لبناء المؤسسات والنظم والقوانين والاقتصاد والتنمية، بما يحفظ الاستقرار ويضمن الحرية والكرامة للجميع ويحقق التقدم، أي -بمفهوم أهل الفقه- تحقيق «المصالح المرسلة» للناس. هذا يتطلب تضافر جهود الساسة والمفكرين والخبراء وكل القوى الحية في المجتمع، كما يتطلب الكثير من الجد والكفاءة والكثير الكثير من الاجتهاد. «الإخوان المسلمون» قفزوا على هذه الحقائق واليوم يكتشفون بمرارة أن «حساب الحقل لا يوافق حساب البيدر» كما يقول المثل. المؤسف أن كل مصر تدفع الثمن اليوم. إذا كانت جماعة «العدل والإحسان» تريد ممارسة السياسة، فعليها تأسيس حزب سياسي. غير أن المهمة الأصعب في هذا الخيار ليست هي الحصول على وصل التأسيس من وزارة الداخلية، بل هي وضع وتنفيذ تصور متكامل يرفع اللبس عن أي خلط غير صائب بين الدين والسياسة، مقرونا بالكف عن رفع شعارات طوباوية من قبيل الحديث عن «الخلافة»، ويقدم مشروعا جديدا وبديلا جديا لتحقيق التنمية والتقدم. الانخراط في العمل السياسي يفرض على الجماعة إعادة النظر في موقف المقاطعة للمؤسسات، فالتغيير يكون بالمشاركة والتدرج كما يفتي به الدين وكما يقول المنطق.