حدثان بارزان عرفهما الشأن العام في هذا البلد السعيد خلال الأيام القليلة الماضية: الأول يتعلق بإصدار رئيس الحكومة منشور التغيب غير المشروع عن العمل، مستحضرا ظاهرة الريع في الإدارة العمومية، وإشكالات الموظفين الأشباح والعاملين في مصالح الدولة والمؤسسات العمومية والجماعات الترابية؛ والثاني مرتبط بإطلاق الحكومة خدمة إلكترونية تحت شعار «لنحارب جميعا التغيب غير المشروع عن العمل في الإدارة العمومية والجماعات الترابية»، مستهدفة إشراك المواطنين في شؤون التبليغ ورصد التجاوزات التي أعدت لها الحكومة، كما قالت، رزمة من آليات الزجر والوقاية. والأكيد أن هذه المبادرة الإدارية، بوجهيها المتوازيين، كانت مسبوقة سنة 2005 بقرار حكومي مماثل ظل، في غالبية بنوده، حبرا على ورق. غير أن السياق العام الذي صدرت فيه هذه المبادرة الأخيرة -والتي تجد صداها في دستور 2011، وغليان الشارع المغربي بأصوات ويافطات 20 فبراير، والتصريح الحكومي المعلن عنه في قبة البرلمان غداة تشكيل حكومة انتخابات 25 نونبر2011، ودعوات محاربة الاستبداد والفساد والريع وتخليق الحياة العامة- كان له بالغ الأثر في تسريع تنزيل هذه المبادرة التي وإن كانت محمودة في شكلها وتوقيتها، فإنها جاءت متسرعة ومنقوصة في جوهرها، تعالج مكامن الداء في مواقع، وتغفل معالجة مواقع أخرى لها أهميتها الحيوية في جسم مصالح الدولة والجماعات الترابية؛ فالمنظومة الكاملة لمحاربة الغياب، التي وردت في منشور رئيس الحكومة وتصريح الوزير المكلف بالوظيفة العمومية وتحديث الإدارة غداة إطلاق الخدمة الإلكترونية لهذا الموضوع، ارتكزت على أربعة مبادئ عامة وهي: تفعيل النصوص التشريعية والتنظيمية التي تقنن مجالات الرخص ومظاهر الغياب، والاعتماد على المراقبة اليومية لحضور أو غياب الموظفين، والمراقبة الدورية والسنوية للمصالح المركزية واللاممركزة، ورصد المسؤولين المتسترين على الغياب غير المشروع، خدمة للمواطنين والمرتفقين، كما يقول المنشور، في أفق الاستفادة من مختلف الخدمات العمومية بالجودة المطلوبة والشفافية واحترام القانون والحقوق والمصلحة العامة. ولم تقف الحكومة عند هذا الحد، بل توعدت المخالفين بالصرامة في تحريك مسطرة العقوبات التأديبية والزجرية، والتي قد تصل إلى حد الاقتطاع من الأجر والعزل في الشوط الأخير؛ كما أنشأت موقعا إلكترونيا موازيا في متناول العموم للتبليغ عن كل متغيب عن العمل، داعية المواطنين والغيورين على المصلحة العامة إلى مساعدتها في تعزيز خدمة «أوقفوا الغياب» وترصد جحافل المتغيبين. ولعل المتتبع لمسار إقرار هذه المبادرة تتقاطر عليه أسئلة كثيرة في فهم واستيعاب وتمثل هذه «المنظومة» التي يوحي مظهرها بالانتصار للمواطن المغلوب على أمره في الاستفادة من الخدمات العمومية دون نقص أو تأخير، وكذا تحريك دواليب الاستثمار وعجلات التنمية التي كانت في وقت مضى محاصرة، كما يستشف من منطوق المنشور من طرف فئة من الموارد البشرية العاملة أو المنتسبة إلى الإدارة العمومية؛ غير أن هذا المواطن وهذا الاستثمار في الواقع لم يكونا فقط قطبي الرحى في معادلة الخدمة العامة، بل إن هذه الموارد البشرية التي انتفض في شأنها المنشور الحكومي هي أيضا طرف في هذه المعادلة، وأصحاب السلطة والقرار هم أيضا طرف في المعادلة، كما أن الساسة والمسؤولين الحكوميين والترابيين لا يقلون أهمية في تركيبة هذه المعادلة؛ فالمواطن الذي يجب تلبية احتياجاته غير منقوصة لا يمكن اختزال خدمته في حضور الموظف فقط وتوقيعه على أوراق الدخول والخروج، بل إن المسألة أبعد من توقيف غياب العاملين، لأن هذا المواطن يحتاج في البداية إلى الإحساس بالمواطنة والكرامة والانتماء، ثم الإحساس بحضور الإدارة بمختلف مكوناتها البشرية والمادية، وأخيرا تلبية احتياجاته دون بيروقراطية في الإنجاز أو تعقد في المساطر. إننا لا نعتقد أن أي غيور على المصلحة العامة للبلاد سيكون ضد حملة «أوقفوا الغياب» أو مع الموظفين الأشباح ومظاهر الريع بالإدارة العمومية ومختلف السلوكات المشينة التي تقع في الإدارة المغربية، لكن من باب الإنصاف وجب التذكير بأن معالجة قضية الموارد البشرية في الإدارات العمومية، التي أصبحت علما قائما بذاته يدرس في الجامعات والمعاهد العليا، لا يمكن اختزالها في قضية الحضور أو الغياب، لأن المسألة مرتبطة بطرق علمية وإدارية حديثة في الاختيار والتأطير والانتشار والجودة والمردودية والتحفيز والتقييم والتفاعل والتكوين؛ ذلك أن هذا المواطن، الذي سيحمد الله لا محالة عندما يطرق باب إدارة عمومية ويجد في استقباله موظفا بشوشا واقفا أو جالسا على مكتبه بفضل المنشور الحكومي، سيجد بالمقابل نفس هذا الموظف عاجزا عن تلبية خدماته بالنظر إلى الخصاص المادي المهول في الإدارة أو بسبب تعقد المساطر والإجراءات؛ وهذا ما يعني للجميع أن مقاربة حضور الموظف لم تكن كافية لإنجاز الخدمات العامة، وأن حملة «أوقفوا الغياب» كان يجب أن تكون مرتبطة عضويا بحملات توقيف غيابات أخرى في منظومة الإدارة العمومية، ومنها غياب الحكامة الجيدة التي تعتري دواليب التسيير الإداري العمودي والأفقي، وافتقار المؤسسات والإدارات إلى الآليات والمعدات والبنايات المناسبة لخدمة المواطن، والنجاعة المفقودة في الخدمات العمومية المنوطة بالإدارات، ومسألة تدبير الوقت الذي ما زال عشوائيا بالإدارة المغربية في إنجاز الأشغال والالتزامات، والوصاية المالية المفرطة لمصالح وزارة المالية التي تحل أحيانا محل الإدارات العمومية المستقلة في اتخاذ القرارات الإدارية ذات الأثر المالي، وغياب الإحساس بالمواطنة والمسؤولية والانتماء الجماعي لفئة من ذوي السلطة والقرار، وافتقار البرامج الإدارية وبرامج العمل السنوية إلى المقاربات الواقعية والتشاركية، إلى غير ذلك من الغيابات التي تحتاج فعلا إلى حملات موازية للمنشور الحكومي من أجل تخليق الحياة العامة وربط المسؤولية بالمحاسبة حسب منطوق الدستور الجديد؛ فالإعلان عن حرب شرسة في مواجهة التغيب غير المشروع عن العمل ستجد لها بالضرورة التصفيق والتزكية والمساندة، لأنها ستعيد تسوية أوضاع مختلة منذ سنوات وقرون، أوضاع وصل مداها إلى ما يعرف بالموظفين الأشباح الذين يستنزفون تحويلات مالية ضخمة من الميزانية العامة للدولة دون أن يؤدوا خدمات فعلية مقابل تحويلاتهم الباطلة، غير أن هذه الإجراء سيظل محدودا ولن يكون له أثر واضح في مردودية الإدارة العمومية إذا لم تتبعها أو توازِها إجراءات مصاحبة تذهب إلى عمق الإشكالات الإدارية المطروحة، والتي تتجاوز قضية الموارد البشرية إلى ما هو أعمق في مكامن وأسرار الميزانيات المرصودة والبرامج الموضوعة والاختيارات السياسية والاقتصادية والاجتماعية المتبعة؛ فالموظف الإداري أو لنقل المسؤول الإداري لن يكون مسؤولا كامل الصلاحية والصفة إذا لم تتوفر له ظروف الأداء الإداري الجيد، لأن للمسؤولية شروطا كما للمحاسبة ضمانات، ولا يمكن محاسبة مسؤول ليس له من الاختصاصات والتفويضات إلا شكلها الابتدائي البسيط؛ وتظل الحكومة في شخص مصالحها المركزية تتمادى في «مركزة» اختصاصاتها الوطنية والترابية، ليتحول مسؤولها الخارجي إلى مجرد مراقب ومؤشر على أوراق حضور وغياب مرؤوسيه. وقد تأكد هذا الاختيار في المبدأ الرابع لمنظومة المنشور الحكومي الذي توعد المسؤولين المتسترين على غياب بعض الموظفين غير المشروع بالمتابعات الإدارية المناسبة، لتزداد القناعة بأن المنظومة التي تم تنزيلها تحتاج فعلا إلى تركيبة وشروط جديدة للتفعيل، أولها إعادة تحيين النصوص التشريعية والتنظيمية المرتبطة بمظاهر التغيب والحضور والرخص؛ وثانيها تعميم سياسة اللاتمركز واللاتركيز؛ وثالثها ربط المسؤولية بشروطها المادية والبشرية؛ ورابعها إعداد الفضاءات والبرامج والموارد التقنية والمالية والبشرية كي تكون في متناول المواطنين والمرتفقين؛ وخامسها وضع سياسة علمية جديدة في تدبير الموارد البشرية قائمة على أنظمة التكوين المستمر والتحفيز والاستهداف؛ وسادسها تيسير الولوج إلى الخدمات العمومية عبر وسائل التواصل الحديثة. ونظن أن الموارد البشرية، في خضم هذه المنظومة، والتي يجب أن تحترم التزاماتها الإدارية بطبيعة الحال، في حاجة إلى أن تؤمن بمهامها ورسالة وظائفها، لا أن تؤدي واجباتها مقابل أجور شهرية وحوافز دورية أو سنوية، لأن الإيمان بهذه الخدمات العمومية أكبر قوة من سيف المراقبة المسلط عليها في أوراق الحضور والغياب، وهو الذي يكون له بالغ الأثر في جودة الخدمات وتلبية احتياجات المواطن بإرادة داخلية مؤمنة وإحساس بالانتماء إلى هموم وشؤون الجماعة والأفراد. وكل تجسس على عمل الموظف ومراقبة لحركاته وسكناته ودخوله وخروجه قد يقتلا فيه روح الإقبال الاختياري على إنجاز مهامه، فيتحول مرغما إلى الإقبال الاضطراري الذي تتناسل معه السلوكات المشينة التي قد يؤدي ثمنها المرتفق المغلوب على أمره أو الإدارة المشغلة. إن إدارة الموارد البشرية في زمن التحولات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية السريعة تقتضي انتهاج مقاربة شمولية تضع في الحسبان احتياجات طالب الخدمة والقائم عليها، فالأجر لم يعد عاملا حاسما في أداء المهمة وتغليب المصلحة العامة، والحوافز مهما كانت مرتفعة لا يمكن أن تصنع عمالا سريعي الخدمة ومؤمنين بالوظيفة، لأن البعد الإنساني لدى الطرفين في هذه المعادلة ظل غائبا أو مغيبا، ولا نعتقد أن الخدمة الإلكترونية الموازية التي أطلقتها الوزارة المكلفة بالوظيفة العمومية وتحديث الإدارة في شأن التبليغ عن الموظفين المتغيبين عن العمل قد تعطي أكلها وثمارها، لأنها، وإن كانت ستساعد على تقليص ظاهرة الموظفين الأشباح، فهي لن تخلو من بحر الشكايات الكيدية والمتاهات العنكبوتية التي ستكون مكلفة للوزارة الوصية والوزارات والمؤسسات المعنية التي لها أجهزة مركزية ومصالح خارجية للتتبع والتدقيق والمراقبة، وسيزداد الموظف المعني إخلاصا جسديا في الحضور والمواظبة، ولكن إمعانا في تقليص جودة الخدمات بروح استسلامية تخاذلية فيها خليط من التقصير المقصود والانتقام الخفي والمساومة الإدارية الشاذة، فلا تكسب الإدارة شيئا ولا يكسب المواطن الذي سيظل ضحية هذه الحسابات الفردية غير المسؤولة وضحية الرؤية القاصرة في تدبير الموارد البشرية بالإدارة العمومية. والحل الذي لا ندعي الإمساك بمفاتيحه يقتضي إطلاق ثورة جديدة في تدبير الموارد البشرية بالإدارة العمومية، ليسائل ترسانة النصوص التشريعية والتنظيمية القائمة، ويختار طريق المشاركة في نظام تصريف الخدمة العمومية باختصاصات وتفويضات وإمكانات مناسبة ومحددة، ويجيز نظام سلاليم وأجور وحوافز متحركة تثير شهية الكسالى والمترددين وعديمي الثقة في الإدارة، وينشر قيم المواطنة وأخلاق الانتماء والمسؤولية الفردية والجماعية، ويستمع إلى نبض ورغبات واحتياجات هذه الموارد البشرية، الأساسية منها والموازية، ويدفع عنها الأجهزة البوليسية في المراقبة والترصد والمباغتة، ويدمجها كشريك في دورة الاستثمار والتنمية، ويصنع منها في الأخير كائنات بشرية تؤمن بالقضية الوظيفية للإدارة العمومية ولا ترتزق بها.