لقد كثر الحديث، في السنوات الأخيرة، حول الموظفين الأشباح الذين يوجدون في مختلف الإدارات العمومية والجماعات المحلية. وقد أثارت هذه المسألة انتباه الرأي العام الوطني والإقليمي والمحلي، وأصبحت موضوع اهتمام الحكومات وفعاليات المجتمع المدني، وكذا بعض الباحثين والمهتمين بتدبير الموارد البشرية في بعض الدول الإفريقية والعربية. لا بد من الإشارة هنا إلى أننا، في المغرب، لا نتوفر إلى حد الساعة على رقم دقيق لعدد الموظفين الأشباح في مختلف الإدارات العمومية والجماعات المحلية. كما أن مفهوم «الموظف الشبح» غير واضح ولا يوجد في قاموس الوظيفة العمومية وفي القوانين المنظمة لها؛ فهو يطلق تارة على «كل شخص يستفيد من وضعية إدارية طبيعية ويتوصل بأجرة ومستحقات دون أداء أي مهمة مقابل ذلك، نظرا إلى غيابه المتكرر»، وتارة «كل متخل عن عمله أو تارك للوظيفة بدون موجب قانون»، ويرمز المفهوم تارة أخرى إلى «كل شخص لا يلتحق بمقر عمله أو المتغيب عنه باستمرار ولفترات طويلة ولا يقوم بأي خدمة أو مهمة مقابل الأجرة الممنوحة له». يتضح من خلال هذا التقديم أن هناك ثلاثة محددات أساسية لتحديد مفهوم الموظف الشبح: 1 - الأداء الوظيفي؛ 2 - التخلي عن العمل أو الاستمرارية في الغياب بدون عذر مقبول؛ 3 - عدم القيام بأي مهمة مقابل الأجرة الممنوحة. إن ظاهرة الموظفين الأشباح تبدو، في الوهلة الأولى، سهلة التحديد والتفسير، ولكنها في الحقيقة مركبة ومعقدة وتحتاج إلى دراسات معمقة. لا توجد في الوقت الراهن دراسات أكاديمية سوسيولوجية وسيكولوجية واقتصادية تتطرق إلى معالجة ومناقشة هذه الظاهرة.هذه الأخيرة تحتاج إلى مقاربة ودراسة شاملة مدققة ومعمقة لمعرفة الأسباب والدوافع التي أدت إلى إبرازها في بعض القطاعات، كالتعليم والداخلية والجماعات المحلية. والسؤال الذي يطرح نفسه بحدة في هذا الباب هو: كيف تشكلت وبرزت هذه الظاهرة في الإدارة العمومية؟ ما هي أبعاد هذه الظاهرة؟ من الذي ساهم في تكوينها وإفرازها؟ ما هي الأسباب والدوافع التي كانت وراء «شبحية» بعض الموظفين بالإدارة العمومية؟ ما هي الإجراءات والتدابير التي يجب اتخاذها قصد القضاء على هذه الظاهرة في المستقبل؟ «شبحية» بعض الموظفين العموميين برزت في الإدارة العمومية خلال السنوات الأخيرة نتيجة للتراكمات والممارسات اللامسؤولة لبعض المسؤولين عن بعض الموظفين، خاصة إذا لم يكن هناك انسجام تام وتفاهم وتواصل ما بين الرئيس ومرؤوسه. وقد تؤدي هذه الوضعية الشاذة في بعض الحالات إلى تطاحنات ومشاجرات وانفصام الموظف بصفة تدريجية عن عمله وعدم مبالاته بالمهام المنوطة به. وقد تكون من وراء انتشار هذه الظاهرة المحسوبية والمحاباة التي غالبا ما يحظى بها بعض المسؤولين، حيث يسمح لزوجاتهم وأفراد عائلتهم بالغياب الدائم على مقرات عملهم وتقاضي مرتباتهم بصفة منتظمة، وكذا تواطؤ بعض الرؤساء الذين لا يحركون ساكنا طول مدة غياب الموظف. وهذه الظاهرة مرتبطة كذلك بالجانب المادي للموظف، فغالبا ما نجد «الموظف الشبح» يقوم بمهام أخرى إضافية لضمان قوته اليومي ومواجهة متطلبات الحياة نتيجة غلاء المعيشة. جانب آخر مهم كذلك يتعلق بانعدام التأطير والتواصل والتشجيع واللامبالاة وانعدام المراقبة والتحفيز، فقد ساهم هذا بدوره في الانحراف والإخلال بالواجب لدى بعض الموظفين، وأدى إلى انتشار وباء «الشبحية» في الإدارة. يضاف إلى هذه العناصر، على ما يبدو، لجوء بعض الحكومات المتعاقبة إلى تضخيم المصالح الإدارية بدون مراعاة لمردوديتها أو نجاعة خلقها. وهذه الأسباب كلها لها، بطبيعة الحال، انعكاساتٌ سلبية على مردودية وإنتاجية الموظف ومضاعفاتٌ خطيرة على الإدارة بصفة عامة بالنظر إلى الأبعاد الوخيمة التي يمكن أن تنجم عنها في المستقبل. إن إصلاح الإدارة العمومية وتخليق الحياة الإدارية وترشيد النفقات العمومية والتخفيف من تضخم الموارد البشرية والحد من استنزاف خزينة الدولة يستوجب العمل على مواجهة ظاهرة الموظفين الأشباح بجدية، نظرا إلى ما لها من أبعاد وخيمة على المستوى المؤسساتي والاقتصادي والسوسيو-ثقافي: - البعد المؤسساتي: إن انتشار فكرة الموظفين الأشباح بين الأوساط الشعبية قد ساهمت في إعطاء صورة سلبية عن الموظف وعن الإدارة التي يشتغل بها. وقد يتبادر في أذهان البعض أن جل الإدارات العمومية تتوفر على موظفين أشباح ولا يقومون بأي عمل يذكر داخلها. هذه الفكرة، بطبيعة الحال، خاطئة ولا تستند إلى أي أساس من الصحة. ولتنوير الرأي العام الوطني، فإن الإدارة مجبرة اليوم على إعداد مخطط مؤسساتي تواصلي لتبيان ما يقوم به الموظفون «جنود الخفاء» بداخلها، وذلك لتوضيح الرؤية وتصحيح الصورة الخاطئة التي تتبادر في أذهان البعض وخلق ديناميكية جديدة لدى الموظفين، مع إعادة النظر في الهياكل الإدارية لعدد من القطاعات الوزارية. لقد تراكمت في بعض الإدارات بعض السلوكات اللامسؤولة نتيجة بعض المسؤولين الذين يقومون بتهميش بعض الطاقات والمهارات التي تريد الابتكار والمساهمة في تطوير آليات الاشتغال بداخل الإدارة. هذه الفئة من الموظفين غالبا ما تعزل ولا تسند إليها أية مهام تذكر، بحيث توضع في مكاتب دون إشراكها في التدبير اليومي لمعالجة القضايا التي تهم المواطنين والإدارة بصفة عامة. إن ظاهرة الشبحية لا تقتصر على الموظفين والأطر المتوسطة، بل تتعدى هؤلاء لتصل إلى مستويات عالية من المسؤولية من مديرين مركزيين ورؤساء أقسام عاملين في الإدارات العمومية... إلخ. وهذه الظاهرة تتمركز كذلك في بعض المجالس المنتخبة لتشمل بعض رؤساء الجماعات المحلية ورؤساء الغرف المهنية وبعض الأحزاب السياسية والنقابات، بل إن هذه الظاهرة أصبحت موجودة حتى في البرلمان، ولعل الغيابات المتكررة لبعض النواب دليل على ذلك. - البعد الاقتصادي: مما لا شك فيه أن ظاهرة الموظفين الأشباح قد ساهمت بدورها في تضخم الموارد البشرية وألحقت أضرارا جسيمة بالإدارة وبالمالية العمومية. إذا ما افترضنا أن هناك حوالي 20 ألف موظف شبح يتقاضى كل واحد أجرة شهرية بمعدل 3000 درهم، فإن خزينة الدولة يستنزف منها سنويا حوالي مليار سنتيم، وهذا المبلغ يصل إلى 30 مليار سنتيم خلال 5 سنوات، يتقاضاها هؤلاء بدون عمل. وهذه مبالغ مهمة لو استثمرت في مجالات أخرى لساهمت في التنمية الاقتصادية والاجتماعية للبلاد ونتج عنها تخفيض لمعدل البطالة. - البعد السوسيو-ثقافي: إن ظاهرة الموظفين الأشباح هي بالأساس بنيوية. لقد نشأت وترعرعت وازدادت خلال السنوات المنصرمة نتيجة توظيفات غير مقننة مبنية على العلاقات الدموية وعلى المحسوبية والزبونية، ولا ترتكز على معايير وضوابط صارمة. ونتيجة ذلك أصبحت الإدارة تتوفر اليوم على موظفين في «بطالة مقنعة»، حيث يقومون بوظائف غير مجدية ولا تحتاج في الحقيقة إلى خلق مناصب شغل لمزاولتها. وهؤلاء الموظفون غالبا ما يتغيبون ويؤثرون على معنويات وسلوك الموظفين الذين يزاولون مهامهم الإدارية الحقيقية. إن هذه الظاهرة ساهمت في إذكاء ثقافة «الاتكالية والخمول» في صفوف بعض الموظفين النشيطين وبعض الأعوان العاملين بجدية وإخلاص ويقومون بواجباتهم الإدارية أحسن قيام... هذه الأبعاد تبدو خطيرة جدا، خاصة إذا لم تتخذ أي تدابير وإجراءات لاستئصالها أو للحد من تفاقمها على الأقل. لا بد من الإشارة كذلك إلى أن بعض الموظفين الأشباح هم من ضحايا التعذيب بمخيمات تيندوف ومن العائدين من الجزائر، وكذا من ضحايا انتهاكات وسلوكات وممارسات بعض المسؤولين خلال سنوات الرصاص؛ ولذلك فإننا نرى من الواجب تنظيم حملات تحسيسية وإعداد برامج تكوينية لهذه الفئة من الموظفين لإدماجهم وإلحاقهم بوظائفهم الإدارية، مع مراعاة الجوانب الإنسانية والاجتماعية لبعض الموظفين العاجزين عن العمل وحثهم على الحضور إلى مقرات عملهم. كما نرى من الواجب تحديد مفهوم «الموظف الشبح» وإجراء دراسة أكاديمية لاحتواء هذه الظاهرة والتعرف على أسبابها ومسبباتها الحقيقية. ونقترح بعض الإجراءات والتدابير التي نراها عملية ويمكن أن تساهم في استئصال هذه الظاهرة من الإدارة العمومية في المستقبل: - تحديد المفاهيم وتحيين اللوائح المتعلقة بالموظفين الأشباح بمختلف الإدارات العمومية؛ - تهييء ميثاق إداري جديد لحماية الموظف؛ - اعتماد منهجية الإشراك والتشاور في التعيينات وإعادة انتشار الموظفين العموميين؛ - إعداد مقاربة لتشغيل الموظف العمومي بالقطاع الخاص مع الاحتفاظ بالأقدمية التي قضاها في الإدارة؛ - إعداد برامج تكوينية وتحفيزية لإدماج الموظفين الأشباح في الإدارة العمومية؛ - إعادة تأهيل الإدارة بإشراك كافة الموظفين والأعوان في التسيير الإداري؛ - تحسين الوضعية المادية وتوفير وسائل العمل للموظف قصد القيام بالمهام المنوطة به أحسن قيام؛ - تفعيل أشغال المجالس التأديبية وتطبيق المقتضيات التشريعية والتنظيمية؛ - التشجيع على المغادرة الطوعية مع إضافة تحفيزات مادية، خاصة للموظفين ذوي الدخل الضعيف والمتوسط. إن الإجراءات القمعية والتأديبية لا يمكن، بأي حال من الأحوال، أن تعطي نتائج مرضية في المستقبل، بل إنها قد تساهم في إذكاء روح الخمول وزرع البلبلة وإشعال نار الفتنة في دواليب الإدارة، وقد تساهم في خلق نزاعات وتطاحنات ما بين الرؤساء والمرؤوسين نحن في منأى عنها في الوقت الراهن. وظاهرة الموظفين الأشباح تحتاج إلى القيام بدراسات شاملة ومتعددة تعالج الأبعاد المؤسساتية والاقتصادية والسوسيو- ثقافية... إلخ. وهذه الدراسات ستمكننا، في نهاية المطاف، من الإجابة بدقة عن مجموعة من التساؤلات: من هم الموظفون الأشباح؟ كم عددهم؟ إلى أي شريحة اجتماعية ينتمون؟ كيف يعيشون؟ ولماذا اختاروا المغادرة الطوعية (غير مقننة) قبل الأوان؟ وما هي وضعيتهم المادية في الوقت الراهن؟ وهل هم مستعدون لولوج أسلاك الإدارة من جديد؟... تلك مجموعة من الأسئلة التي تبقى مطروحة للمناقشة والدرس. ويبقى «الاهتمام بالعنصر البشري» و«ترشيد تدبير الموارد البشرية بوضع الرجل المناسب في المكان المناسب» هو المحور الأساسي للمناهضة والقضاء على هذه الظاهرة في المستقبل.