في مدينة الحمامات بتونس وخلال (15-17 أكتوبر 2012) التأم شمل ما لا يقل عن ستين مثقفا ومفكرا عربيا وأجنبيا لتحيين موضوع: الدين والدولة في الوطن العربي «وكان من بين المشاركين المغاربة الأستاذ أحمد الخمليشي، مدير دار الحديث الحسنية، بعرض في موضوع العلاقة تلك حول: مؤسسة إمارة المؤمنين في المغرب، وكان التعقيب من قبل الأستاذ عبد الصمد بلكبير، وهو ما ندرجه أدناه: 1 - لا شك أن دستور 2011 بالمغرب يعتبر حدثا سياسيا متقدما مقارنة بما قبله، وذلك خاصة على مستوى فصل السلط وتوازنها وحدودها، الأمر الذي انعكس إيجابا في التقليص النسبي من سلطات الملك ومن التداخل بين صفتيه كرئيس للدولة وكأمير للمؤمنين وتوسيع اختصاصات البرلمان (بما في ذلك حقوق الأقلية فيه) والحكومة ورئيسها، وارتقى بالقضاء إلى مستوى سلطة، بل وربط بين مؤسسة أمير المؤمنين و«مجلس أعلى للعلماء». نحن في انتظار العديد من التشريعات والقوانين التنظيمية التي ستؤجل الحكم النهائي عليه، فهي تكاد تمثل دستورا آخر مؤجلا (؟!). غير أن علاقة الدين بإدارة الدولة في التجربة المغربية هي أعقد وأوسع من نصوص الدستور بما في ذلك محورها الرئيس «إمارة المؤمنين». 2 - يبدو لذلك، وكأن هذا الحدث الدستوري جاء في سياق استكمال (أو استدراك) شروط الانتقال الديمقراطي الذي دشن مع دستور 96، غير أنه تعثر لأسباب، لعل من بين أهمها افتقار توافق الانتقال إلى شمولية الإصلاح للحقل الديني، وبالأخص منه مؤسسة «أمير المؤمنين» (؟!). 3 - لم يأت ذلك فقط أو أساسا انعكاسا لموازين قوى داخلية، بل إن للخارج أدوارا شتى، تتجلى خاصة في أن هذا التطور الديمقراطي يفيد استراتيجية أخرى أضحت بالنسبة إلى القوى الخارجية وتناقضاتها أهم، ألا وهي منطق ومؤسسات الحكامة التي تقيد بل وتمنع الامتيازات الوطنية الخاصة للرأسمال المحلي (الخاص منه والعام) لمصلحة منافسة عولمية غير متكافئة بل وظالمة متصارعة، وجديد الدستور على هذا المستوى أهم وأكثر بروزا من جديده «الديمقراطي». 4 - ومع ذاك فإن الملكية الحاكمة أو التنفيذية ستستمر في هذا الدستور كما كان الأمر عليه في دستور 1962، فالملك يسود ويحكم، وهو محور الحياة والمؤسسات السياسية (الفصلان 41 و42 مقارنة بالفصل 19 في الدساتير السابقة)، ويصعب لذلك سياسيا الفصل بين هذا الوجه وصفة أمير المؤمنين، فهما وجهان لعملة واحدة كما يقال. 5 - إن مجمل التمهيد الفقهي والتاريخي، على اختصاره في عرض الأستاذ الخمليشي، يثبت أن مرجعية المفهوم والمؤسسة تعود إلى العصر الإقطاعي الوسيط، حيث الحكم الفردي والمطلق للرعية خلافة عن الله وباسمه. والحال أن النازلة العظمى، والتي تتطلب فقها دستوريا إسلاميا جديدا، هي بروز «الشعب» وحقه المطلق في أن يكون مصدر السيادة والحكم، بما في ذلك خاصة السلطة التأسيسية للدستور والتي لم تتوفر في اللجنة الملكية الاستشارية التي صاغت دستور 2011. هذا فضلا عن واقعة العولمة ومنطقها التحديثي وقوانينها (حقوق الإنسان خاصة) التي إما أن تمارس بإرادة شعبية مستقلة وديمقراطية أو أن تمارس في إطار التبعية، وبالتالي الازدواجية والخلط والارتباك... كما هو شرطنا الخاص المغربي والعام العربي (؟!) 6 - الدساتير اللاحقة على دستور 62 هي عالة عليه، فهو المؤسس والباقي تعديلات وتنقيحات، والحال أنه كان من وضع «خبراء» فرنسيين يصعب جدا فصلهم عن استراتيجية دولتهم في خصوص علاقتها الاستعمارية بنا... 7 - في هذا الصدد، يجب تسجيل أن تدبيرهم موضوع علاقة الدين بالدولة في مرحلة استعمارهم التقليدي للمغرب كانت أفضل وأكثر تقدما مقارنة بمرحلة الاستعمار الجديد والذي نص دستوره على مؤسسة إمارة المؤمنين، وذلك في إطار استقلال مشروط بأوفاق ما زالت سرية حتى اليوم؛ في حين لاحظنا كيف أن مؤسسة السلطان، في ظل الاستعمار القديم، لم يكن اختصاصها يتجاوز قضايا الحقل الديني دون المدني السياسي. 8 - لا يقتصر الأمر على ذلك، بل إن الدساتير المقترحة من قبل النخبة قبل الدخول الرسمي للاستعمار (1905) والتي كانت تمتح من المعين الإصلاحي العثماني، كانت في هذا الصدد أيضا أكثر تقدما من دستور 62 وما تلاه، بل إن بيعة السلطان ع. الحفيظ المشروطة والتعاقدية بين الطرفين لا طرف واحد كانت أيضا كذلك، ودخل الاستعمار ليجهضها مع غيرها (قانون الترتيب العزيزي...). 9 - الأدهى من ذلك هو الممارسة، فبغض النظر عن التشريعات والقوانين التنظيمية المنتظرة، نلاحظ أن ما يحيط بمؤسسة أمير المؤمنين من طقوس وممارسات، خاصة بمناسبة البيعة والتعيينات... يتجاوز النص المكتوب مهما كان تقدمه، فتقبيل اليد والانحناء والركوع... تترتب عنها عواقب اجتماعية-سياسية وثقافية أهم وأخطر من مزايا و»امتيازات» الدستور المكتوب؛ بل ونلاحظ أن الخطاب الديني المؤسسي حول «إمارة المؤمنين» يزداد إيغالا في القدامة، فالحديث اليوم يروج حول: الإمامة العظمى / وظل الله في الأرض / وتشبيه البيعة ببيعة الرضوان / والمظل بالشجرة... إلخ (=خطابات الوزير المختص). 10 - ثمة للأسف أيضا خطاب تغليطي يبرر ضرورة التنصيص في الدستور على الدور الديني لرئيس الدولة، يتمثل في أن هذا معمول به في الملكيات الأوربية العريقة، والحال أن الكنيسة هنالك لم يعد لها دخل في شؤون الدولة منذ الإصلاح، فضلا عن كون المسيحية نفسها تقر منذ نشأتها بالفصل القيصر-بابوي «ما لله وما لقيصر». 11 - عند عودة العرض إلى الأصول الفقهية والتاريخية للمفهوم وللمؤسسة، وقع اختصار شديد للموضوع ذلك، مثلا: أ - إن الحقل الديني استمر مستقلا عن إدارة الدولة وحكرا على الفقهاء والعلماء في المساجد، ولم يلحق بها تاريخيا إلا مع الوزير «نظام الملك» والغزالي وتأسيس المدرسة النظامية ببغداد وما تلاها، والتي تكلفت بتكوين الأطر الدينية لإدارة الدولة. ب - إن الأمير يوسف بن تاشفين تلقب ب«أمير المسلمين» رعيا منه لحقوق وامتيازات السلطان في مركز الدولة العباسية باعتباره «الخليفة». ت - في كثير من الحالات، وقع الفصل بين المؤسستين الدينية والسياسية عن طريق: الحجابة، والصدارة العظمى وفي إدارات ما سمي بالدول والإمارات المستقلة في العصر الإسلامي الوسيط. ث - لاحقا، وفي اللحظة التَّيْمِيَّة، كان أهم إنجاز فيها هو تجريد إدارة الدولة من مشروعيتها الدينية لمصلحة المجتمع، والدفع بها نحو البحث عن المشروعية في المردودية. ج - لقد كان فقه النوازل وما سمي ب«أعمال» المدن والأقاليم، مظهرا آخر في التطور من الفقه المجرد والافتراضي المركزي... إلى فقه الواقع المراعي للجغرافيات المحلية، أي عمليا إلى بداية «القانون» فماذا عن الفقه السياسي الإسلامي في هذا الخصوص؟ الاجتهاد توقف في إدارة الدولة الإقطاعية، ولم يتوقف في المجتمع الذي كان يتطور وينمو مدنيا (؟!) ح - وفي المجمل، فإنه إذا كان الحديث يصح حول فقه سياسي إسلامي، فإنه من الصعوبة بمكان الحديث عن «فقه دستوري إسلامي» بالمعنى المخصوص للمصطلح. د - في عام 1924 وعلى إثر تحالف البورجوازية العربية مع الاستعمار على حساب الخلافة العثمانية ومن ثم سقوطها، عرض علماء الإسلام بيعتهم على الخطابي، ليتحول من إمارة الريف إلى أمير المؤمنين، ولو كان قبل لكان وجه العالم قد تغير، غير أنه اعتذر فذلك أمر كان يتناقض مع استراتيجيته الجهوية (وربما تاكتيكه فقط). ذ - عندما عمد الاستعمار وأتباعه من الإقطاعيين المغاربة إلى نفي الأمير الشرعي للمؤمنين (الملك محمد الخامس) وتنصيب محمد بنعرفة مكانه، لم يعترف به المؤمنون، مغاربة وغيرهم، وناضلوا إلى حين رجوع أميرهم في الجهاد الوطني... فذلك كان مقياسهم لمشروعية ودور الإمارة... وبعد: 1 - فإن الأهم في طرح ونقاش مسألة العلاقة بين الدين والدولة، مغربيا، هو مدى توفر تقييد إطلاقية السلطة. والحال أن الفصل النسبي الذي تحقق في دستور 2011 بين الحقلين، لم ينعكس على سلطات الملك، التي استمرت سامية وشاملة وشبه مطلقة على جميع المؤسسات والاختصاصات... وذلك بأسماء أو صفات متعددة. 2 - إن الدور التوحيدي للدين ولمؤسساته لم يتحقق، سواء في وضع النص أو في واقع الممارسات، ذلك لأن النزاع استمر حول مشروعيتها: أ - عائليا، وهو غالبا بتحريض خارجي حول دمقرطة التعيين داخل الأسرة. ب - من قبل المعارضات الدينية (الإسلامية) بشتى مظاهرها ووجوهها، بمن في ذلك بعض رموز الحزب المشارك في الحكم. ت - سيادة درجة عليا من الفوضى الدينية، والمفارقة أن يتم ذلك باسم ضبط وتوحيد الحقل الديني (أكثر من 20 جهة). 3 - سؤالان يطرحهما الموضوع في علاقته بالتطور الدستوري: أ - هل نحن أقرب اليوم إلى الاستجابة لمتطلبات استكمال الانتقال نحو الديمقراطية، وبالتالي نحو الملكية البرلمانية؟ ب - وحول جدل العلاقة بين الدين وإدارة الدولة، فأيهما يستفيد في الصيرورة أكثر من الآخر، الحداثة أم القدامة؟ يبدو أن الزمن وميزان القوى، من جهة، والوضعين الإقليمي والدولي، من جهة ثانية... هو ما سيسمح بالجواب في المستقبل القريب. 4 - هل ثمة حاجة إلى استمرار القدامة في زمن الحداثة؟ أم إن المطلوب هو القطيعة؟ عبد الصمد بلكبير