يطفئ الإعلان العالمي لحقوق الإنسان شمعته الستين، ويحتفل العالم بهذه الذكرى باعتبارها رمزا لتقدم البشرية على طريق احترام حقوق الإنسان، وجعل هذه الحقوق معيارا للحكم على الأنظمة والحكام والشعوب والأفراد والثقافات والحضارات. رغم أن الميثاق العالمي لحقوق الإنسان أصبح معترفا به كمعيار لقياس أخلاقي وسياسي لشرعية الأنظمة الحاكمة ولمشروعية سلوك الأفراد والمجتمعات، فإن الواقع يقول أشياء أخرى... مازالت الحقوق الأساسية لأكثر من نصف سكان العالم مهدورة، مرة بفعل الاحتلال العسكري المباشر (فلسطين، العراق، أفغانستان...)، أو بفعل استمرار الأنظمة الاستبدادية في الحكم بدون ديمقراطية (دول إفريقيا، دول العالم العربي، الصين، روسيا وعدد من الدول في جنوب شرق آسيا وأمريكا اللاتينية)، أو بفعل الأزمة الاقتصادية، حيث تهدر كرامة مئات الملايين أثناء رحلة البحث عن الخبز والماء والدواء... الميثاق العالمي لحقوق الإنسان وضع في الغرب الذي خرج من جحيم حربين عالميتين مدمرتين، وهما حربان انتهكت فيهما حقوق البشر ليس فقط من قبل ألمانيا وحلفائها المنهزمين في الحرب، بل وكذلك من قبل فرنسا وإنجلترا، الإمبراطوريتين الاستعماريتين، وأمريكا التي استعملت لأول مرة السلاح النووي لتركيع اليابان أثناء الحرب العالمية الثانية، وما بعدها في ما سمي بالحرب على الشيوعية وعلى الستار الحديدي الذي ضربه ستالين حول شعبه وحول شعوب أوربا الشرقية... الميثاق العالمي ولد من رحم دمار الحربين، لكنه ولد كذلك من عقل النهضة والأنوار والحداثة وهي المراحل الثلاث لتطور الفكر الأوربي نحو المواطنة والمساواة والحرية والاعتراف للبشر، كل البشر، بحقوق إنسانية مجردة عن جنسهم أو لونهم أو دينهم أو أعراقهم... حاولت الشيوعية باسم الحقوق الاجتماعية أن تهرب من الخضوع للحقوق السياسية، لأن هذه الأخيرة كانت تهدد أنظمتها الحديدية التي قتلت الإنسان باسم الانتصار للطبقة وللحزب وللنموذج الاشتراكي الموعود. ثم حاولت الأنظمة الرأسمالية أن تطبق حقوق الإنسان داخل حدودها وأن تستثمر خرق نفس الحقوق خارج حدودها بالتحالف مع الأنظمة الأكثر استبدادية ودموية، فقط لأن حكامها يفتحون أسواقا لمنتوجات الشركات الأمريكية والأوربية، ويعملون على محاصرة العدو الأحمر الذي كان يهدد الرأسمالية قبل سقوطه المدوي في مطلع التسعينات. من وقت سقوط جدار برلين إلى أحداث 11 شتنبر، اعتقد العالم أن عصر الدكتاتوريات قد انتهى، وأن القانون الدولي والأممالمتحدة وشرعية حقوق الإنسان ستحقق تقدما كبيرا بعد أن انتهت الحرب الباردة التي كانت تقسم العالم إلى معسكرين: أمريكي وسفياتي، لكن عندما جاء بوش إلى الإدارة الأمريكية على أكتاف المحافظين الجدد الساعين إلى السيطرة على العالم، وعندما جاء أسامة بن لادن على ظهر الشارع العربي والإسلامي المهان في كرامته من قبل إسرائيل وأمريكا والأنظمة العربية الاستبدادية، رجع كل شيء إلى الوراء. حلت الحرب على الإرهاب محل الحرب على الشيوعية، وأعاد بوش تقسيم العالم على ضوء «كل من ليس معنا فهو ضدنا»، وهكذا أصبح شعار الحرب على الإرهاب جواز مرور نحو التعذيب والمحاكمات غير العادلة والمعتقلات غير القانونية والحرب غير الشرعية وكل أصناف الانتهاكات البشعة لحقوق الإنسان. صار سجل أمريكا في التقارير الحقوقية العالمية أسوأ من آخر نظام في إفريقيا لا يعير اهتماما لشيء اسمه حقوق الإنسان. سقطت شرعية الأممالمتحدة راعية الدفاع عن القيم الكونية لحقوق الإنسان، وصار موظفوها مستهدفين في أعمال العنف (العراق، أفغانستان، الجزائر...)، لأن ضحايا أمريكا أصبحوا يرون في المبنى الزجاجي في نيويورك ملحقة سياسية في خدمة البيت الأبيض... سقطت الهيبة القانونية والسياسية للأمم المتحدة، لأن هذه الأخيرة فضلت الصمت على خرق بوش وتشيني ووولفوفيتز وريتشارد بيرل لأبسط حقوق الإنسان وهم يحتلون أفغانستان ويُسقطون سيادة العراق ويسعون إلى السيطرة على العالم بشرعة الغاب. حقوق الإنسان مثل وردة في حقل.. لا يكفي أن تغرسها في التربة لتعيش، بل تحتاج إلى ماء وهواء وبيئة مساعدة على البقاء والنمو. مشكل حقوق الإنسان اليوم أن الوردة موجودة لكن بيئتها إما غير موجودة في عدد من الدول والمجتمعات، وإما أن هذه التربة هشة ومعرضة للتصحر في أية لحظة. وسيطفئ العالم الشمعة ال60 لهذا الميثاق، وسيظل في حاجة كل سنة إلى الاحتفال بعيد ميلاد هذه الحقوق إلى أن تتحقق على أرض الواقع، وإذاك سننسى طقوس الاحتفال لأنها ستصبح آنذاك بلا معنى.