من يتابع المشهد المصري وتطوراته هذه الأيام، يخرج بانطباع راسخ مفاده أن البلد يبدو وكأنه مجرد جسم كبير بلا رأس، وإذا وجد هذا الرأس، فإنه بلا رؤية، ولهذا تسير الأوضاع نحو الأسوأ بشكل متسارع مثل شاحنة ضخمة بلا كوابح. الدور المصري بات محصورا في أمرين اثنين: الأول: كيفية التنكيل بالفلسطينيين في قطاع غزة، وتحويل حياتهم إلى جحيم لا يطاق، من خلال تشديد إحكام الحصار، ومنع الحجاج والمرضى من السفر. والثاني: الإيعاز للصحف الرسمية بشن هجمات إعلامية شرسة ضد هذه الدولة العربية أو تلك، لأنها تجرأت على انتقاد السياسة المصرية بلطف، أو ترشحت، أو تنافست على دور يمكن أن يهدد مكانة مصر في محفل دولي أو إقليمي. وحتى لا نتهم بالإغراق في العموميات، والبعد عن تسمية الأشياء بأسمائها، نقول إن الشغل الشاغل لبعض الصحف الرسمية المصرية على مدى الأيام القليلة الماضية هو شن هجمات شرسة ضد سوريا ووزير خارجيتها وليد المعلم، لأنه طالب حكومة مصر، أثناء اجتماع طارئ لوزراء الخارجية العرب لبحث تطورات القضية الفلسطينية بالوقوف على مسافة متساوية بين طرفي المعادلة السياسية الفلسطينية، أي «فتح» وحركة «حماس». وقال: «إن الحديث عن إجراء انتخابات في ظل الانقسام الفلسطيني سيعمق من الخلاف ويزيد من حدته». وتمنى لو أن الطرف الآخر أي «حماس» أتيحت له الفرصة لعرض وجهة نظره أمام هذا الاجتماع. وهو كلام عادي يردده الكثير من المسؤولين العرب، وتنشر مثله الصحف المصرية الكثير يوميا. السيد المعلم ارتكب خطيئة كبرى، بل «أم الكبائر» في نظر الحكومة المصرية، فخرج متحدث باسمها عن كل الأعراف الدبلوماسية باتهامه وزير الخارجية السوري ب«المزايدات السياسية»، ووصف كلامه هذا ب«الكلام الفارغ»، مؤكدا حرص مصر على مصالح الفلسطينيين وقضيتهم العادلة. وقبل هذه الملاسنة «غير الدبلوماسية»، شن بطرس غالي وزير المالية المصري هجوما مبطّنا على المملكة العربية السعودية، وانتقد مشاركتها في قمة الدول العشرين التي انعقدت أخيرا في واشنطن لبحث الأزمة المالية الدولية ممثلة للمنطقة العربية، وشكك في هذا التمثيل، منتقدا كفاءتها وإمكانياتها، ملمحا إلى أحقية مصر، الدولة الكبرى بهذا الموقع. واضطر السيد غالي إلى الاعتذار، وسحب تصريحاته هذه، التي أدلى بها إلى محطة «سي.إن.إن» وشاهدناها بالصوت والصورة، بعد أن رد عليه وزير المالية السعودي بطريقة «مهذبة» و«مفحمة»، وادعى أن التصريحات تعرضت للتحريف، أو تعاملت معها المحطة الأمريكية بطريقة انتقائية. ما لا يدركه المتحدثون باسم النظام المصري، وبعض أوساطه الإعلامية الرسمية، أن الخلل ليس في الآخرين، وإنما في النظام نفسه، الذي تخلى عن دوره، ومكانة بلاده، للآخرين طوعا، وبطريقة مريبة، فلا أحد يجرؤ أن يسطو على دور مصر، لسبب بسيط وهو أن هذا الدور غير موجود أصلا. فالنظام المصري انسحب من دائرة الفعل العربي والإقليمي والدولي منذ زمن، بل انسحب من دائرة الفعل الداخلي، وترك البلاد ساحة مفتوحة لحيتان رجال الأعمال ومافياتهم لنهب ثرواتها، وممارسة كل أشكال البلطجة التي رأينا أحد فصولها في جريمة قتل المطربة اللبنانية سوزان تميم. ولولا أن حكومة دبي أصرت على كشف كل الملفات والمتورطين، لما سمعنا بالجريمة مطلقا، ولبقيت طي الكتمان تماما مثل جريمة مقتل المطربة التونسية ذكرى. وليت هذا النظام المصري اكتفى بالانسحاب من المنطقة سياسيا وعسكريا وثقافيا وإعلاميا فقط، بل مارس عملية تدمير ممنهجة لحلفائه الطبيعيين، مما ترك فراغا، سارعت دول إقليمية غير عربية لملئه فورا، وبطريقة فاعلة. فقد تواطأ مع أمريكا ودول خليجية على تدمير العراق، وتحالف مع المملكة العربية السعودية من أجل إحكام عزلة سوريا العربية، والتقى مع إسرائيل من أجل خنق المقاومة الفلسطينية، وتدجينها، سواء بتفجير الأنفاق، وإغلاق المعابر، أو بالانحياز بالكامل إلى الطرف المستسلم الخانع المتعيش على فتات المساعدات الأمريكية والغربية، والذي يعتبر هذه المقاومة عبثا وإرهابا. فليس من قبيل الصدفة أن يتدخل النظام المصري لفتح معبر رفح لبضع ساعات، أو لأيام في كل مرة تتصاعد فيها أزمة الحصار، وتبدأ في لفت الأنظار، أو يلجأ إلى تنفيس الحملات الإعلامية المصرية، والعربية، والدولية التي تعكس معاناة مليون ونصف مليون فلسطيني يواجهون الجوع والموت من نقص الوقود والغذاء والأدوية، وذلك بالعمل كوسيط لإنقاذ إسرائيل، وإنقاذ نفسه، بسبب تعاظم حالة الغليان الشعبي المصرية والعربية، وفتح المعابر الإسرائيلية لمدة ساعات معدودة، لامتصاص هذه الحالة، وإفساد جهود المعارضة المصرية لتنظيم المسيرات وقوافل الدعم لأشقائهم المحاصرين. الأمن القومي المصري لا يتهدد في نظر هذا النظام وفقهائه إلا من قبل جيّاع قطاع غزة فقط، فهؤلاء يستحقون كسر أرجلهم، ورقابهم، إذا عبروا المعبر بحثا عن لقمة خبز أو شراء علبة حليب لأطفالهم، أما القراصنة في خليج عدن مثلا الذين خفضوا الملاحة في قناة السويس إلى النصف، وحرموا الشعب المصري من دخل يصل إلى ثلاثة مليارات دولار في العام، فهؤلاء ملائكة يجب ألا يتم التدخل لمنعهم، أو وقف أعمالهم الخطرة هذه، اللهم إلا عقد مؤتمر هزلي للدول المطلة على البحر الأحمر لم يهتم به أحد، ولم يتخذ أي إجراء عملي، ومن قبيل رفع العتب فقط. مصر الرسمية غائبة كليا، فلا دور لها في أزمة دارفور، ولا مكانة بارزة لها في الاتحاد الإفريقي، ولا أحد يذكرها أو يتذكرها عندما يتم البحث في أمن الخليج، ولا الأزمة المالية العالمية، ولا حتى في كيفية تأمين الملاحة في البحر الأحمر، وإذا زار رئيسها دولة أوروبية، أو حتى عربية فلا يُنشر أي خبر عنه، وإذا نشر ففي أسفل الصفحات الداخلية. هذه هي الحقيقة التي يتجاهلها الكثيرون في أوساط النظام الرسمي المصري، ولا يجرؤ أحد من المستفيدين منه على ذكرها، ولهذا تتدهور الأوضاع المصرية، ومعها الأوضاع العربية، بل والإسلامية أيضا، فمصر «كانت» قوة إقليمية عظمى، بل أقوى الدول في كتلة عدم الانحياز، وتقدمت على الهند التي ستصبح قوة عالمية كبرى تنافس الولاياتالمتحدة والصين كقوة ديمقراطية واقتصادية بعضلات عسكرية نووية. مصر، وباختصار شديد، بحاجة إلى انتفاضة، سواء من داخل الحكم أو خارجه، تعيد لها مكانتها واحترامها، انتفاضة ترتقي إلى مستوى شعبها وإمكانياته وتضحياته وإبداعاته، وتعيدها إلى دائرة الفعل كقوة إقليمية كبرى لها رأي في الصراع العربي-الإسرائيلي وأمن الخليج، وأزمات القارة الإفريقية، حوضها الخلفي، وتفاقم الوضع في العراق والأزمة الاقتصادية العالمية، قوة تنافس النفوذين الإيراني والتركي، وتتصدى للغطرسة الإسرائيلية التي تهدد الأمن القومي المصري فعلا. عندها ستحتل مصر مقعدها في قمة الدول العشرين الاقتصادية، ممثلة ليس للعرب فقط بل وللمسلمين، وستحسب لها القوى العظمى والقوى الإقليمية ألف حساب. فمصر أكبر من أن ينحصر دورها في معبر رفح، وإغلاق الحدود في وجه الحجاج والمرضى، ولعب دور ساعي البريد لنقل الطلبات الإسرائيلية لتكريس التهدئة، أو الوساطة في ملف الجندي الإسرائيلي الأسير جلعاد شاليط.