أستعير هذا التعبير من العنوان الذي جعلته «لوموند ديبلوماتيك» (المجلة الشهرية الفرنسية) عنوانا للملف الذي أصدرته في عددها لشهر نونبر الجاري (فوق جمر «الربيع العربي» - الإسلاميون أمام اختبار الحكم). وجعل الكلمة بين مزدوجتين يكون في سيميولوجيا الكتابة لأحد أمرين: فإما أن يكون من أجل نقل قولة أو نص في حرفيته، فهذا من باب الأمانة العلمية؛ وإما أن المزدوجتين تكونان للتحفظ، فهي تنوب عن قول القائل الذي لا يريد القول تصريحا: ما يزعم أنه، ما يسمى... والمزدوجتان تكونان، في الحالتين معا، من أجل التنبيه إلى قول أو رأي، تنبيها بالسلب أو بالإيجاب، والكاتب يريد أن يقول لقارئه إن هذا ليس لي، ليس ما أعتقده. ومن جهتي، فلست أشاطر المحرر الرئيسي للملف (ألان كريش) الرأي من جميع جوانبه -وأقول بالمناسبة إنه قد ولد ونشأ في مصر ودرس شطرا من دراسته في المدارس الأهلية- فإني وإن كنت أبدي التحفظ على عبارة الربيع العربي فلست من الذين يقولون إن كل ما يحدث في العالم العربي منذ مطلع السنة ما قبل الأخيرة من فعل فاعل، وإن القوى الخارجية التي تمسك باللعبة تعلم تمام العلم طبيعة ما تقوم به، وإن لها «أجندة» تعلمها كما يعلمها المتآمرون معها وكذا الساكتون الذين لهم نصيب سينالونه بعد حين، ليس فقط لأنني أكره نظرية «المؤامرة» أشد الكراهية، لما فيها من السهولة التي تصرف عن الرؤية، بل لأنها التجسيد الحي لما يقال عنه إنه سياسة النعامة: تدفن رأسها في رمال الصحراء حتى لا ترى الصياد الذي يطاردها. لست بذاك، كما يقول العرب القدماء، وإنما أجد أن الوصف الأجدى والأقدر تعبيرا عما لا يزال يجري هو: «الانتفاض العربي» (والمزدوجتان هنا من أجل إثارة الانتباه)، وفي إمكان القراء أن يلاحظوا أن الكلمة وردت عني منذ الأسابيع الأولى من شهر فبراير 2011 فيما كنت أتأمل ما يحدث في ميدان التحرير، ألتمس الفهم وأسعى إلى استخلاص المشترك والممكن عند الشعوب العربية جميعها، مع ما بينها من اختلافات ترجع إلى البنى السياسية والثقافية وإلى البنيات الاجتماعية إلى حد ما. قلت، وكررت القول أكثر من مرة واحدة، ولا أرى غضاضة في التكرار، فالضرورة تدعو إلى ذلك، إن نعت الربيع لا يحمل، في الحال العربي، ما للربيع من إيحاءات اللهم ما كان من الحضور القوي للشباب العربي في حركات الانتفاض في مختلف البلاد العربية التي شهدت الانتفاض (تونس، مصر، ليبيا، اليمن، سوريا،.. إلخ). لكن الحضور الشبابي القوي في الوطن العربي معطى إحصائي أولا وأساسا، فالشبيبة في العالم العربي لا تقل عن الستين في المائة من ساكنة ذلك العالم. وقد يلزم أن نتذكر أن نعت الربيع، مقرونا بالتمرد أو الثورة (حسب الأحوال)، قد ظهر أول ما ظهر في بلدان المعسكر الشيوعي التي أعلنت الرفض والرغبة في طرح الاختيار الماركسي - اللينيني جانبا (بعض جمهوريات الاتحاد السوفياتي القديم، بلغاريا، بولندا، تشيكوسلوفاكيا القديمة...)، كما ظهر في البلدان التي عاشت النظم الفاشستية ردحا من الزمان (البرتغال، إسبانيا، بعض دول أمريكا اللاتينية،..). ربيع أتى بعد شتاء طويل يكسوه الصقيع ويغلفه الضباب الكثيف الذي يحجب الرؤية كلية، وتلفه أسوار عالية من الأوهام الإيديولوجية. ربما كان في الوطن العربي، في مناطق منه بكل تأكيد، بعض من ذلك أو بعض مما يشبهه، بيد أن البون يظل شاسعا بين العالم العربي وبين ما أشرنا إليه من البلاد. والآن، ما المقبول وما المرفوض في الحديث عن «الجمر» في الانتفاض العربي؟ تمهيدا للإجابة عن هذا السؤال أستسمح القارئ الكريم في رجوع سريع إلى ما سبق لي قوله في إحدى مقالاتي في شهر فبراير المشار إليه، حيث تساءلت عن الشعارات التي كانت في ذلك الوقت غائبة عن ميدان التحرير أو، لنقل أيضا، تلك التي أعلن ميدان التحرير موتها، فوجدت أنها، أساسا، ثلاثة: القومية العربية وما اتصل بقاموسها (الوحدة، الأمة العربية، الاشتراكية)، الماركسية - اللينينية (الصراع الطبقي، الاشتراكية العلمية، الثورة البروليتارية)، الإسلاموية (تطبيق الشريعة، الإسلام هو الحل، الحاكمية،...). وفي المقابل، تبين لي أن الميدان أظهر مدى قوة الحس العروبي وقوة الانتماء إلى المشترك الثقافي، كما أبان عن عمق الحس الإسلامي وحيوية الوجدان الديني. وبالتالي، فهناك عروبة ولا قومية عربية هناك، فهي غير ذات دلالة بالنسبة إلى الشبيبة العربية، بل ولعلها تشوش على وعيها السياسي-الفكري. وهناك إسلام، حي وفاعل في النفوس وفي الوجدان، ولا استدعاء لقاموس «الإسلام السياسي» إلا أن يكون ذلك على استحياء. وتبين لي، بعد ذلك، أن الأمر يتعلق بانتفاض أي بحكة سياسية-اجتماعية ظاهرها العفوية عند البعض، وهي ثمرة تدبير بليل -كما يقول المثل العربي- عند البعض الآخر. وما لا سبيل إلى إنكاره أمور ثلاثة: أولها أن غليانا داخليا كان يعتمل في الصدور فيما كان العمى السياسي وسجن الجشع والاستبداد الذي دخله الحكام يعوق إبصاره، لا بل ويستخف به متى طفح بعض من الكيل على السطح؛ وثانيها أن التطور التكنولوجي في مجالات التواصل والإعلام كان يفعل فعله القوي في تقوية الحس العروبي وحس الانتماء إلى المشترك الثقافي الواحد (القنوات والفضائيات العربية - شبكات التواصل الاجتماعي في الأنترنيت)؛ وثالثها أن الإسلام، دينا ورافدا أساسا للوعي العربي-الثقافي في المنطقة، استطاع تنظيم الوعي السياسي وتغذيته، مع ما في هذه المسؤولية من أخطار عظمى على الإسلام وعلى المسلمين معا؛ فالحصيلة هي اجتماع الأخطاء والفهوم الكاذبة، وكذا الفساد الشامل والظلم السياسي الناشئ عن هذه جميعها. عن هذا الحاصل عن اجتماع هذه الأخطاء جميعها، وأخرى هي مما يتصل بالفساد النوعي، في هذا البلد أو ذاك، ويرجع إلى الفروق في البنى الاجتماعية-الثقافية في هذا البلد أو ذاك (الأقباط، الأمازيغيون، الأقليات المذهبية،...)، كما يتصل بقضايا أقل جوهرية غير أنها تذكي روح الانتفاض الذي هو ثمرة الشعور بالظلم (أقصد أنه قد يكون أحيانا مجموعة من ردود الفعل النفسية التي تحتك بالسياسي أو تلامسه بعض الملامسة) جاء الانتفاض على الصورة التي نراها عليه اليوم. وأحسب أن هذا الحاصل يؤكد أمرين اثنين، لا بل هما حقيقتان لا سبيل إلى إنكارهما أو التهوين من شأنهما. والحقيقتان هاتان، كما سنتبين بسهولة، تتقاطعان أو قل إن شئت إن كلا منهما تغذي الأخرى وتقويها: الحقيقة الأولى هي أن الانتفاض العربي يعبر عن واقع أصبح في حاجة إلى المجاوزة، ومن ثم فهو يمتلك أسباب القوة والشرعية معا، ولكن هذا الانتفاض يشتكي من هزال ونقض يتهددانه في وجوده، وهو افتقاره إلى النظرية التي تنير السبيل وإلى الوضوح النظري. وقضية الوضوح النظري، على نحو ما دلت عليه تجارب الشعوب وعلى نحو ما كان ذلك واضحا في الأزمنة الحديثة، هو وقود الانتفاض وزاده، هو الروح التي تبث فيه الحياة. هذا الفقر النظري (على غرار فقر الدم) يشي، على نحو آخر، بعمق الأزمة في العالم العربي ويفتح بابا نطل من خلاله على واقع الأمية المرتفعة والهشاشة الفكرية وما يمكن نعته بالقابلية للانسياق وراء نزعات الغلو من كل الأصناف. أما الحقيقة الثانية فهي تستدعي وقفة مطولة، حقيقة الغلو والذهاب في الغلو مدى بعيدا ربما كان خطاب الشيخ مرجان صورته النموذجية.