هل نحتاج في كل مرة إلى تذكير الدولة بما أصبح بديهيا في العصر الحديث؟ ولماذا لا يتعلم عقل السلطة من أخطائه؟ وكيف يريد صناع القرار في المملكة أن يعيشوا تحت سقف العصر لكن بقبعات القرون الوسطى وأساليب السلطوية البائدة؟ أيها السادة إن حماية التعددية جزء من الاستقرار، وإن ضمان حد أدنى من الحرية شرط لاستمرار الأنظمة وإن ترك ممرات للماء ضروري لتجنب الانفجار، وإن قوة الأنظمة اليوم كامنة في متانة شرعيتها وقبول الناس وانفتاحها وليس في قوة مخابراتها وأجهزة أمنها وآلاف الموظفين الساهرين على حماية أسس النظام. إنكم اليوم تزرعون العبوات الناسفة تحت أقدام «الصحافة المستقلة» وفي مقدمتها جريدة المغاربة الأولى «المساء»، لأن بعض المتزلفين للسلطة يرون فيها خطرا على مصالحهم وضربا لهيبة وطقوس وأعراف بالية. ونحن لا ننفي هذه التهمة، نحن بالفعل نرمي مع غيرنا إلى تحرير المجتمع والدولة من عقد الماضي، ونرمي مع غيرنا إلى جعل الصحف والمطبوعات «ترمومترا» لقياس حرارة وبرودة الطقس العام في البلاد. مرآة لنرى فيها أنفسنا كل صباح بعيدا عن خطاب التفاؤل المغشوش والتقارير الوردية التي ترفع إلى المسؤولين وتخدر حس المعرفة والنقد لديهم حتى يفاجؤوا بالكارثة. إن الصحافة هي مسرح الحركية الاجتماعية والسياسية والثقافية والاقتصادية اليوم. ولا يمكن تصور حياة إعلامية عصرية بدون صحافة مستقلة نقدية، تساهم في مواكبة التحولات الجارية في أي بلاد. لنتصور المغرب بلا صحافة مستقلة، مغربا لا يملك فيه المواطنون سوى نشرة مصطفى العلوي في الثامنة والنصف ليعرفوا أو بالأحرى لكي لا يعرفوا إلا ما يريد لهم المخزن أن يعرفوه من أخبار استقبل وودع وأمطار الخير ومشاريع النماء... لقد فهم الملك الراحل الحسن الثاني، بعد عقود من الظلام الإعلامي، أن البلاد بحاجة إلى انفتاح وإلى صحافة أخرى غير تلك التي تنتجها الداخلية التي كانت تتحكم في المشهد الإعلامي من الصباح إلى المساء. وهكذا أقدم في بداية التسعينات على إنشاء القناة الثانية وأعطاها حرية المبادرة وهامشا للحركة لم يعد لها اليوم على أبواب القرن ال21. لم تجبره قوة المعارضة ولا نقابة الصحافة ولا القوى الدولية على فتح ممرات جديدة لخطاب إعلامي مغاير للدعاية التي كان البصري يقصف بها عقول المغاربة كل يوم، بل هو من بادر بحسه البرغماتي إلى ذلك، لأنه أحس أن العالم يتغير تحت أقدامه. وهكذا بدأت القناة الثانية تستضيف وجوها معارضة للحديث لا تستدعى اليوم والقناة على أبواب إكمال عقدين من عمرها. إن الإعلام هو الواجهة الأكثر حساسية في التعبير عما يجري في الدولة والمجتمع، ولهذا تتأثر هذه الواجهة بسرعة إما إيجابا أو سلبا حسب وجهة الرياح. اليوم يريد «منظرو الإعلام السلطوي» إرجاع البلاد إلى الوراء وتكميم أصوات الصحافة المزعجة، مرة بتسخير القضاء لمنع الصحف أو بتغريمها مبالغ طائلة يعرفون قبل غيرهم أن مؤسسات الصحافة لا تقدر على أدائها، ومرة بالتضييق على الصحافة اقتصاديا عبر التحكم في أنابيب الإشهار المسيس... ولتكتمل الطبخة يعطون الأوامر لأجهزة الإعلام الرسمي بالمشاركة في تغطية عمليات الذبح التي تجري في الغرف السرية. فتتجند وكالة الأنباء الرسمية لبث قصاصات مسمومة، وتتحرك القناة الثانية لبث تقارير مخدومة، وعندما تتدخل الهيئة العليا للإعلام السمعي البصري لتنبيه القناة الثانية إلى هذا الانزلاق الإعلامي –كما حدث في موضوع المساء- ترفض إدارة القناة الخضوع لأحكام الهيئة ثم تناور من أجل الإفلات من العقاب. إن المسرحية أصبحت رديئة وعليكم أن تكفوا عن إعادتها في كل مرة، لأن أحدا لم يعد يصدق أداءكم فوق الخشبة، إن أخطاءكم تكلف الدولة غاليا وسيأتي يوم يلفظكم التاريخ كما فعل مع من سبقكم...