ديوان "دفتر العابر" ثامن إصدار أدبي للشاعر ياسين عدنان والرابع في لائحة دواوينه الشعرية بعد "مانيكان" الصادر عن منشورات اتحاد كتاب المغرب سنة 2000، و"رصيف القيامة " عن دار المدى بدمشق 2003، و"لا أكاد أرى" الصادر عن دار النهضة ببيروت سنة 2007، وفيه يكتب عن تجربة السفر والترحال ويعيد صياغة الأمكنة. يمكن اعتبار ديوان «دفتر العابر» كتاب سفر، أو على وجه التحديد، وبالنظر إلى لغته الشذرية، «تدوينات كاتب في بلوك نوط» سرعان ما تحولت مع الأيام إلى تجربة في الشعر والكتابة، وإلى عمل في كتاب. «دفتر العابر» ليس مجموعة قصائد يضمّها كتاب، بل كتابٌ / نصٌّ وقصيدةٌ / ديوان، شُرِع في كتابته في إطار ورشة إبداعية جمعت الشاعر بفنان تشكيلي فرنسي بمراكش في مارس 2007، وتمّ الانتهاء منه في شهر غشت 2011 خلال إقامة أدبية بكاليفورنيا. أزيد من أربع سنوات من الكتابة والسفر المتقطعين لم تُفْقِد الكتاب نَفَسه الشعري المسترسل وكأنه كتب دفعة واحدة. الديوان مهدىً «إلى طه، اخترْتَ الهجرة وزُيِّنَ لي السفر». وطه المقصود هو طه عدنان شقيق الشاعر المقيم ببلجيكا، وهو شاعرٌ أيضًا. وإذا كان طه قد اختار الهجرة التي تُفيد الهَجْرُ الذي هو ضدِّ الوصل. وهي تقتضي هِجرانًا ووطنًا مهجورًا، بما تحمله الكلمة من معاني الاجتثاث، فإنّ السفر مارس غوايته على الشاعر فزُيِّن له وحُبِّب إليه. والسفر، على عكس الهجرة، يعني التنقّل المتكرّر جيئةً وذهابًا. تنقّلٌ مارسه الشاعر منذ العنوان. إذ تنقّل بين العناوين ونقل قلقه وحيرته في إقرارٍ تامٍّ بلانهائية العنوان. يكتب ياسين عدنان في مفتتح الديوان: عنونتُ هذا الكتاب الشعري أولَّ مرَّةٍ ب»دفاتر العبور»، ثم هيَّأتُه للنشر تحت عنوان «ناي الأندلسي»، ثم عدتُ وفتحتُه على المزيد من التَّنقيح، فصار «في الطريق إلى جنَّة النار»، وأخيرا حسمتُ أمري: إنها دفاترُ عابرٍ (لكأنَّ العناوينَ حبيباتٌ، وما الحبُّ إلا للحبيبِ الأوَّل). كان اختيار الدفتر وجيهًا إلى حدّ ما، فالدفتر أكثر ملاءمة لأجواء السفر والعبور، والدَفْتَرُ: واحد الدَفاتِرِ، وهي الكراريس والصحف المضمومة. كما أنه أقرب إلى أجواء القصيدة الحديثة من الصحيفة أو السِّفْر وأقلّ ادّعاءً من الكتاب. فالكِتابُ اسم لما كُتب مَجْمُوعًا، وهو ما صاره، فعلا، هذا الدفتر في النهاية كما نقرأ في آخر مقاطع الديوان: «أهذا كِتابُكَ؟ / أينَ يَمينُكَ إذن؟ / أهذا كتابُكَ؟ / اتْلُهُ غيْبًا / أَكِتابُكَ؟ / أم جَذْوةُ السَّفر / خَبَتْ في روحِكَ / يا جَوَّابَ الآفاق؟» يعزّز عدنان كتابه الشعري بأزيد من ثمانين هامشا وحاشية تطرّز الكتاب وتضيء الكثير من المعالم والأعلام والكتب والأغاني والدواوين والروايات والمدن والعواصم والشوارع والمحطّات والمكتبات والوديان والصحارى والبحار والبحيرات والصخور والأشجار والنباتات والضواري والطيور. لكنّها أحيانًا تصير جزءًا من المتن الشعري، لا قصد من ورائها سوى الشعر عينه. يقول في حاشية عن المتنبّي: «ملكٌ في إهاب شاعر، أمّا شعرُه فالصولجان». وفي أخرى عن جاك بريل: «قيل: هو نبيٌّ من بلجيكا، وقيل: رسالتُه الغناء». أمّا النمسا فتقدّمُها حاشيةٌ أخرى على أنها «جارة ألمانيا: ذات النمش والدلال». يتقاسم الشعر والسرد الأدوار طوال هذا الكتاب. دونما تفريط في الموسيقى التي تضبط الإيقاع على السفر والوصول على العادي والمدهش.
من نصوص «دفتر العابر» -1 كنتَ مسافرًا يجمع الأنهارَ في السِّلال ويجفِّفُها فوق سُطوح الحكايات لبِسْتَ قُفَّازَ الرّيح لِتُصافحَ العَتَمات كأنكَ تعِبْتَ كأنكَ عُدتَ من حرْبِ المدائِنِ إلى هُدْنَة الظِّلال لكنْ سُرْعانَ ما انتفَضْتَ كطيرٍ مَذبوحٍ وشهَقْتَ: أيها الشاعرُ الجوَّالْ سافِرْ أذِّنْ في ظهيرةِ الحمراء: حيَّ على غربِ الشمالْ وَ سافِرْ -2 كلما زُرتَ مدينةً شهقْتَ: كأنّي هنا وُلِدْتُ كأني هنا سأمُوتْ
في باريس كنتُ نبيلًا ذا شعرٍ أشقرَ أُدعى الكونت دُو (لا أذكر ماذا) في بروكسل عازفَ جيتارٍ في مترو الأنفاق في قرطبة كنتُ رَوْضًا ثم نافورةً في دارةٍ قديمة بغرناطة وفي إيسلندا تصاعَدْتُ أعمدةً من رماد كنتُ البركانَ يهزُّ نهرَ الجليد على ضفة الراين تمثَّلتُ للملائكة بومَةَ ثلجٍ وللشياطينِ شجرة: لعلها شُجيرةُ عنَبِ الذِّئب في مالمو أتممْتُ قصيدةً في مقبرة وغَفَوْتُ قليلًا في حديقة الأرواح لاشك أن جسدًا لي قديمًا كان مدفونًا هناك عجبًا كلما خلوْتَ أيُّها العابر بأرضٍ اكتشفتَ روحًا جديدةً وعمرًا قديمًا -3
لم أكن غادَرْتُ الحكايةَ بعدُ ولا أقْفَلتُ الكتابْ حينَ رأيتُ فيما يرى الطائرُ أنِّي كما لوْ على جَناحِ غمامةٍ مُضْغةُ نارٍ وطينٍ ملفُوفَةٌ في سَحابْ