من يفتح ديوان الشاعر المغربي طه عدنان الجديد والصادر عن دار النهضة «أكره الحب»، لا يستطيع سوى أن ينتابه الشعور بأنه إزاء كتاب المزاج الحادّ والرفض القاطع لما يحوطه حياةً وكتابة. إنه جذاب وخفيف الدم. إنه طريف ومأساوي أيضا. لا أتكلم عن مأساة إغريقية أو شكسبيرية، إنما تلك التي نصادفها راهناً في أزقتنا أو في شوارعنا، وخصوصا المتعلقة بكل مهاجر يقيم في الغرب، وفي أوروبا تحديداًً. إنها المأساوية الممزوجة برفاهية العصر أو رفاهية الغرب بشكل أساسي، فيرى الشاعر نفسه متجاذَب الأطراف بين ذاكرة أرض الطفولة والشباب، وراهن حياة قاسية، حياة لا تمت إلى ماضيه بصلة، أو الصلة الوحيدة هي اللغة الفرنسية. إنها قصيدة الاغتراب عن أرض الأم، إنها شاعرية الشاب الذي تخضرم بين ثقافة بلده العربي وثقافة بلده المضيف. وليس أي كلام هذا الذي يكتبه الشاعر طه عدنان، فهو تعبير عميق عن البلبلة التي تساور روحه كل يوم بسبب هذا الازدواج الذي يعيشه ولا مفر منه. إنه الشعر الذي يتكلم بلغة العولمة، ونرى هذا التعبير في أكثر من قصيدة له. واضحٌ الأثر الكبير الذي يتركه في نفسه هذا العالم المعاصر ولم يُخْفِ طه عدنان تهكمه مما يعيشه أو لنقل مما أوصلته الحياة العصرية إليه. وهذا التهكم جليّ في مزج الشاعر بين غنائية شعرية جميلة الصورة وبين شعرية تلجأ إلى السخرية عبر استعمالها مفردات العصر، للتعبير عن مزاجية الخربطة التي يتعرض لها ليس فقط بسبب الغربة وليس فقط بسبب اختلاف المناخ والطقس الجويين إنما أيضا بسبب اختلاف نمط العيش. لكن أشير هنا إلى أمر أساسي وهو أن طه عدنان، على هذا الصعيد، لا يطرح هذه التساؤلات أو هذه الإشكالية من باب الرفض بل هو يتقبل ولا يعترض على هذه المظاهر الحياتية وهو غير غريب عنها، إنما يطرح المسألة من باب التشكيك في هذا المزيج أو هذه الخربطة التي لا يفلح في فهمها. وليس لأنه مهاجر لا يفهمها بل لأنه شاعر حساس فحسب. ألا يقول في قصيدة «لا ماروكسيلواز»: «عربية بلسان أعجمي، شمس باردة تغزل من ندف الثلج خيوطاًً للشقاوة والنزق» ؟ ثم ألا يثير عنده موضوع التواصل المعاصر تساؤلات، فيسخر من ذاته ومن هكذا تواصل عجيب غريب، بعيد قريب، افتراضي غير ملموس، بينما البديهيات أخذ ينساها مثله مثلنا؟! يقول في قصيدة عنوانها «آي لوف يو» صفحة 102: «أن تصبح لك صداقات وطيدة في كل أنحاء العالم دون أن تجد نفسك مجبرا على تحية جيرانك في نفس العمارة، أن يعرف كريستيان أت ياهو. فر، و جمال أت مكتوب. كوم (إلخ) وعنوانين إلكترونية أخرى كل تفاصيل حياتك فيما تجهل عنك أمك كل شيء، أن تنسى تماما مكان أقرب مكتب بريد في حيّك وأن لا تفهم كيف لم تنقرض الطوابع بعد». إضافة إلى إشكالية العالم المعولم الذي أراه بديهيا عنده، ثمة إشكالية أخرى، حيث يطرح على القارئ موضوع هذا الغزو المريب للاستهلاك، وبكلمة أدق، لكل ما يتعلق بالتحول السريع الذي يعيشه الشاعر بحساسية كبيرة، التحول من عالم الواقع القديم والهادئ والمعقول (إذا جازت التسمية)، العالم الذي عرفناه حتى ربما أوائل التسعينات، إلى عالم الواقع الفجائي المختلف والصاخب والمزاجي وربما غير المعقول، كما يراه طه عدنان، كما رأيناه في المقاطع الشعرية أعلاه. ثم وكأن القلق بسبب كل هذا الازدحام التجاري والشرائي والافتراضي وأيضا بسبب الظلم والحروب، يأخذه إلى قصيدة أخرى يرى من خلالها مزيجاً من الحرب والكوكا كولا، من الموت والبيتزا، من الأرض الأفريقية ومقارنتها بالغرب، وصولاً إلى افتراضيات النقود عبر البطاقات المصرفية الأثيرية، وتحديدا يحاول أن يتنقل مع القارئ من خلال الخفة الطريفة والساخرة بين تفاهة وأخرى، تفاهات العالم المعولم! فيقول: «اخترْ كما يحلو لك، اختر ما بين كوكا كولا وبيبسي كولا، ما بين الماكدونالدز والبرغر كينغ، ما بين بيتزا هات ودومينوس بيتزا، ما بين فيزا وماستر كارد». طه عدنان يعمل على اقتطاف كلماته من مشاهدات حية وواقعية يصادفها في المدينة، في الشارع، أي شارع، أي زقاق، أو أي معلم من معالم الحضارة المعاصرة فيمزجها مع حالات إما اجتماعية أو عاطفية ذاتية أو وبشكل خاص وجودية، وهذه في معناها الراهن، المعنى الذي يحاول الشاعر أن يمنحه لذاته هو التائه في خضم كل هذه الأدوات الحياتية الما- بعد- حداثية، كما رأينا من الكومبيوتر وتحديداً الإنترنت، وصولا إلى الإقامة في غير المكان الأصل. يقول بحرقة وشوق أو بألم ونوع من السخط: «لقد تركت لكم كل شيء : بطاقة هويتي وجواز سفري، مفكراتي وأسراري ...». أو أن يقول بنوع من اليأس: «ضيّعتني الإنترنت، بددت دفئي الباقي، ولم أجْن منها سوى الوحدة والقلق... حتى البكاء لم يعد مجديا، ليسعف روحي البردانة، أنا القادم من جهة الشمس، محنتي هذي البلاد المطيرة». إلا أن عدنان، على الرغم من غوصه كليا في التعبير الشعري «الواقعي» المحض وهذه التسمية أراها ملائمة لأسلوبه وطريقة استعماله المفردات التي من خلالها يشق دربه في مواجهة عالم ربما يتآكله ويزعجه، إذاً على الرغم من ذلك، فهو أيضا يعرف الكلام الشعري الذي في الجهة الأخرى من الكتابة، بعيدا عن النتوءات «المعدنية» كما يراها ويتفاعل معها، فيقول في مكان آخر: «تائه ٌ، أجرجر أثقال روحي من المحيط الأطلسي إلى بحر الشمال...»، أو أيضا: «مثل أصحابي هناك، كان لي بابٌ ومفتاح قديم وسماء، كان لي دفتر أشعار، سرير، ورفاق...». يبقى طه عدنان على استقلالية كبيرة في ما يكتبه، ويذهب بشعره إلى أماكن السخرية القاسية وصولا إلى اللهو بما ينتابه من أسى، وصولا إلى نكران الكتابة حتى وكأنه يثور على ما يحيط به، بل كأنه لم يعد يؤمن حتى بالشعر عندما يقول: «حتى أني لم أعد أحتمل الجلوس أمام مكتب أخرس لأكتب ما قد يسميه البعض شعراً...» أو أن يقول: «لا أبدو مُنشدّاً لكتابة قصيدةٍ هذا الصباح، ثم هل من الضروري أن أكتب شعرا لكي أظل على قيد الأحلام؟». يبقى أن ننضم إلى كره عدنان لما يحب بقوة، إلى حبه العارم لكل ما يفعل!!