عندما حصلت موريطانيا على استقلالها بتاريخ 28 نونبر 1960، حدد الرئيس الأول لهذه الجمهورية الوليدة المختار ولد داداه، في خطاب الاستقلال، الرهان الأساسي للمرحلة، والمتمثل في كيفية الانتقال من ثقافة القبيلة إلى ثقافة الدولة، وكان لافتا للانتباه منذ البداية.. رغبة في جعل الدين «أساس تذويب التناقضات على كل المستويات داخل المجتمع الموريطاني، خاصة وأن هناك من يعتقد أن «الدولة» كجهاز فرض من فوق من قبل فرنسا ضدا على مجتمعٍ لم يكن يستبطن ثقافة الدولة بل كان يعلي من ثقافة القبيلة؛ وعليه كانت هناك إرادة لتجسير الفجوة بين القبيلة والدولة أو، على الأقل، إحداث تعايش بينهما يكمن في تحويل الدين إلى آلية لشرعنة القبيلة والدولة في آن واحد. وقبيل حصول موريطانيا على استقلالها، كان العالم العربي منقسما إلى معسكرين: معسكر يدافع عن الإيديولوجيا القومية بقيادة جمال عبد الناصر، ومعسكر يدافع عن الجامعة الإسلامية من طرف الملكيات العربية في السعودية والأردن والمغرب. وكانت فرنسا معادية للمعسكر الأول، لذلك أصر الرئيس الفرنسي شارل دوغول، عندما قرر منح الاستقلال لموريطانيا، على تسميتها بالجمهورية الإسلامية الموريطانية لقطع صلتها بمعسكر دعاة القومية العربية؛ فمنذ البداية لم يستخدم الدين كثابت جامع لمكونات المجتمع الموريطاني فقط، بل استخدم في صراع سياسي في ترتيب التحالفات على المستوى الإقليمي وما لهذا الترتيب من تداعيات على المستوى الداخلي. عاشت الجمهورية الإسلامية عشريتها الأولى في ظل الحزب الوحيد، وهو حزب «الشعب» الذي كانت تسميته تحمل دلالات واضحة تفيد رغبة في تحويل القبائل إلى شعب، غير أن إكراهات الواقع كانت أقوى من رفع هذا التحدي. أكيد أن الرئيس المختار ولد داداه شرع في بناء مؤسسة عسكرية تتجاوز في تركيبتها التوازنات القبلية، لكن على مستوى النهج العام لم تكن سياسات الرئيس تتجاوز هذه التوازنات؛ ففي لحظات عديدة، كان المختار ولد داداه يتصرف كشيخ شيوخ قبائل بلاد شنقيط بدل أن يتصرف كرئيس للدولة الوطنية الجديدة. ورغم الجهود التي بذلت من أجل عزل موريطانيا عن محيطها العربي، فقد برز مع نهاية العشرية الأولى من الاستقلال تيار قومي، سواء تعلق الأمر بالإحالة على الإيديولوجيا الناصرية أو تعلق بالرجوع إلى الإيديولوجيا البعثية، وهكذا تشكَّل حزبان بمرجعية قومية، وهما «التنظيم الوحدوي الناصري» و«الطليعة العربية الثورية». وكان تشكُّل هذين الحزبين تعبيرا عن نضج نسبي في التناقضات بين مكونات المجتمع، فهذا التيار لم يسع إلى التصادم مع القبيلة «بقدر ما اعتبرها حلقة أساسية في مسلسل تكوين الشعب الذي يعتبر بدوره حلقة في بناء الأمة». لم يقتصر نضج التناقضات بين مكونات المجتمع الموريطاني على ظهور تيار قومي كان يروم احتواء البنيات القبلية، بل برز أيضا تيار يساري كان طموحه أكبر في ما يتعلق بالتعاطي مع «القبيلة»، حيث كان يهدف إلى تفجيرها بدل احتوائها، وأصبح أكثر تهديدا لسياسات وخيارات حزب «الشعب» الحاكم بقيادة الرئيس المختار ولد داداه، فقد عبر التيار اليساري عن نفسه من خلال تنظيمين أساسيين وهما: «الحركة الوطنية الديمقراطية» و«حزب الكادحين الموريطاني». في منتصف السبعينيات من القرن الماضي، كان المشهدان السياسي والثقافي قد عرفا العديد من التحولات، وهي تحولات فرضت على السلطة الحاكمة في نواكشوط إعادة النظر في الأساليب المعتمدة من أجل الاستمرار في فرض خياراتها. ومن هنا، كانت ضرورة الانتقال في التعامل مع «الإسلام» من مجرد «دين» يشكل ثابتا جامعا لمكونات المجتمع إلى التعامل مع الإسلام كإيديولوجيا سياسية توظف في الصراع من أجل تثبيت خيارات معينة ونزع المصداقية والمشروعية عن الخيارات المنافسة. وبتعبير آخر، فالسلطة الحاكمة لم تعد تراهن على «الإسلام» فقط، بل أصبحت في حاجة إلى الاستعانة بخدمات «الإسلاموية» أو ما يسمى أيضا ب«تيار الإسلام السياسي». شرعت السلطة الحاكمة بموريطانيا سنة 1975 في ترتيب أوراقها من خلال تشجيع «الحركة الإسلامية» على التعبير عن وجودها في محاولة لمواجهة الحركة القومية والحركة اليسارية. وقد رتبت السلطة الحاكمة لذلك بالشروع في التحكم في الحقل الديني من خلال إجراءين: يتمثل الإجراء الأول في إحداث وزارة التوجيه الديني لأول مرة ضمن التشكيلة الحكومية سنة 1975؛ ويتعلق الإجراء الثاني بالسماح بتأسيس المعاهد للدراسات الإسلامية. وكان أول تعبير عن الحركة الإسلامية في هذه السنة من خلال تأسيس «جماعة المساجد» التي لم يجعل أهدافها بعيدة عن الأهداف التي أنيطت بوزارة التوجيه الإسلامي. لم تكن معرفة الروابط التي تجمع بين السلطة الحاكمة و«جماعة المساجد» تتطلب الكثير من وسائل الإثبات، فهذه الجماعة الإسلامية وإن طالبت بضرورة اعتماد إصلاحات داخل الحقل الديني فإنها باركت بالأساس الإجراءات التي اتخذتها السلطات الموريطانية في ما يخص مراجعة الاتفاقيات المبرمة مع فرنسا، من جهة، وتأميم شركة «ميفاراما»، من جهة أخرى. إن نظام الرئيس مختار ولد داداه لم يستعمل «الحركة الإسلامية» من أجل ترتيب المعادلات السياسية داخل موريطانيا فقط، بل حاول استعمالها أيضا للضغط على فرنسا لإضفاء الكثير من الاستقلالية على القرار السياسي الموريطاني، وبالتالي أصبح التحالف بين السلطة الحاكمة والحركة الإسلامية الوليدة حاجة موضوعية. غير أن هذا التحالف كان بين طرفين غير متكافئين: من جهة، كانت السلطة الحاكمة تمثل الطرف الأقوى الذي يحدد خياراته ويروم فرضها بوسائله بمباركة الإسلاميين؛ ومن جهة أخرى، كانت الحركة الإسلامية تجسد الطرف الأضعف الذي لا يمتلك مشروعا واضح المعالم لما يرغب في إعداده من خيارات، باستثناء رفع شعارات فضفاضة من قبيل شعار «الإسلام هو الحل» والمطالبة بتطبيق الشريعة التي اختزلت في إقامة الحدود الشرعية. وفي إطار هذا التصور المحدود وخدمة لحسابات الطرف الأقوى، نظمت الحركة الإسلامية ولأول مرة سنة 1978 مسيرة حاشدة تطالب بتطبيق الشريعة. ولم تتردد حكومة المختار ولد داداه، التي دعمت تنظيم هذه المسيرة، في تبني مطالبها، وأعلنت عن الشروع في تطبيق الشريعة. غير أن المؤسسة العسكرية قطعت الطريق وأطاحت برئيس الجمهورية في 10 يوليوز 1978 بدعم واضح من فرنسا، حيث دخلت البلاد في مرحلة الانقلابات العسكرية وعاشت الحركة الإسلامية بالتالي، حالتي مد وجزر في علاقاتها بحكم العسكر، إيجابا وسلبا. تعامل العسكريون مع الإسلاميين بعد 1978 انطلاقا من كونهم داعمين للنظام السابق، وبالتالي فقد كانت العلاقات بينهم متسمة بنوع من التعايش الحذر. وهذا لم يمنع الرئيس المقدم محمد ولد خونة ولد هيدالة من البحث عن دعمهم عبر الشروع في إقامة الحدود الشرعية؛ وهو أمر وإن استحسنه الإسلاميون، حيث اعتبروا هذا الحاكم العسكري هو الأقرب إليهم، غير أن غياب الشروط لإقامة الحدود الشرعية كشف عن توظيف سياسي «فج» للدين، من جهة، وسهولة استعمال الإسلاميين في إضفاء المشروعية على خيارات لا تهمهم، من جهة أخرى، في لحظة كانت فيها موريطانيا تعيش في بحر من الشبهات تستوجب درء الحدود..