عندما كان رئيس الحكومة الإسبانية يجوب أوربا بحثا عن دعم من أجل إخراج البلاد من أزمتها المالية الخانقة، كانت قوارب المهاجرين السريين تمخر عباب الماء وهي تحمل عشرات النساء والأطفال والرجال متوجهة نحو السواحل الإسبانية، أي نحو الحلم الموعود. وعندما كانت امرأة من شمال إسبانيا تشنق نفسها احتجاجا على حكم قضائي بإفراغها من المنزل الذي لم تعد تستطيع دفع أقساطه، فإن مياه مضيق جبل طارق كانت تحمل العشرات من المهاجرين السريين الذين يفضلون أن ينتحروا بأيديهم في أوربا عوض أن يقوم حكام بلدانهم بنحرهم عبر سرقتهم ونهبهم وتحويلهم إلى عبيد أبديين. الأزمة في إسبانيا، أو في أوربا كلها، لا تهم المهاجرين في شيء، ولا يهمهم أيضا أن يروا حارس عمارة إسبانيا في مدينة مغربية لأنهم يعرفون بغريزتهم أن الأزمة التي تمر بها أوربا عابرة، وربما تعود هذه القارة إلى قوتها الطبيعية بعد خمس سنوات أو أقل، بينما المهاجرون يعيشون في بلدانهم أزمة متوارثة من المهد إلى اللحد، لأن الناس في البلدان المتخلفة ورثوا الأزمة عن آبائهم وأجدادهم، وبالتالي فهم يورِّثونها لأبنائهم وأحفادهم، لذلك من الطبيعي أن يهاجروا حتى لو كانت أوربا تغرق مؤقتا في الجوع. وقبل ذلك، عندما اندلعت شرارة الانتفاضة التونسية ضد نظام ليلى الطرابلسي وزوجها بنعلي، استغل المئات من التونسيين حالة التهلهل الأمني على الشواطئ وركبوا قوارب الموت ومخروا عباب الماء نحو الشواطئ الإيطالية.. إنهم يسمعون في الأخبار دائما أن إيطاليا من بين البلدان التي تعاني من أزمة مالية خانقة، وهم يعرفون أن بلادهم تخوض ثورة ستتغير على إثرها الكثير من الأشياء، لكن كل هذا لم يقنعهم بالبقاء في بلادهم لأنهم يعرفون أن الشعوب التي تنام عقودا طويلة على فراش الوسخ والأمية والفقر، يلزمها وقت طويل جدا لكي تستعيد عافيتها وتنظف نفسها من أدران التخلف. المصريون، من جانبهم، نادرا ما يركبون قوارب الموت، ولهم حب غريب لبلادهم يصل حدّ الهوس، إلى درجة أنك تجد ماسح أحذية لا يجد قوت يومه لا يتوقف عن ترديد لازمة «مصر أم الدنيا»، مع أن أمه هاته لم توفر له كرامته ولقمة يومه. رغم هذا، فإن مصريين ركبوا قوارب الهجرة في عز ثورتهم. إنهم يعرفون أن الهجرة لها مفعول أسرع من الثورة. وفي المغرب، هناك اليوم شعور غريب بين الناس، قوامه أن المغرب أفضل من إسبانيا، لأننا نسمع باستمرار عن أخبار الأزمة هناك، ونرى مهاجرين مغاربة يعودون إلى بلادهم عوض أن يتضورا جوعا، فنعتقد كما لو أن بلادنا قطعت أشواطا كبيرة في سلم التقدم وصارت فجأة أفضل من إسبانيا. هذا الشعور يكرسه تصرف مسؤولين مغاربة يتحدثون وكأننا صرنا فجأة دولة متقدمة. وعندما كان رئيس الحكومة، عبد الإله بنكيران، في زيارة لإسبانيا، تحدث عن كون المغرب وجهة ممتازة لكي يخفف فيها الإسبان محنتهم، ودعا المستثمرين الإسبان إلى «فك وحلتهم» في المغرب ولو بالاستثمار في «الكسكس». لقد نسينا فجأة أننا نصدر كل يوم المئات من مواطنينا نحو الخارج، بطرق قانونية وغير قانونية، وصرنا فجأة دولة تستقبل مواطني البلدان المتأزمة من أجل إنقاذهم من الجوع. اليوم، وفي خضم الأزمة الإسبانية، ينسى الكثيرون أن المغرب ساهم في غنى إسبانيا بشكل مختلف تماما؛ فعندما كان المهاجرون السريون المغاربة يتسابقون لركوب «الباطيرات»، كان أصحاب الحقول والضيعات الفلاحية في الجنوب الإسباني يتسابقون للظفر بهم كما يتسابقون للظفر بعبيد القرون الوسطى القادمين من إفريقيا. وبفضل سواعد المهاجرين المغاربة، تحولت منطقة الجنوب إلى واحدة من أغنى المناطق الفلاحية في العالم. كما أن المغاربة ساهموا في غنى إسبانيا عبر الأموال المهربة التي توضع في أبناكها، وهي أموال الاختلاسات والحشيش وأموال أخرى تم تهريبها من المغرب بوسائل مختلفة. وساهم المغاربة في ثراء إسبانيا أيضا عبر السياحة الراقية التي يقوم بها مغاربة أغنياء لعدد من المناطق الإسبانية، خصوصا في الجنوب الإسباني، وهناك ينفقون أموالا بلا عدٍّ ولا حصر، طبعا لأنهم لم يتعبوا في جمعها. وعلاوة على ذلك، ساهم المغاربة في غنى إسبانيا عندما تم شن تلك الحملة الشهيرة لمحاربة التهريب والمخدرات في أواسط التسعينيات، فهرب كثير من الأغنياء ومعهم أموالهم واستقروا في إسبانيا. المغرب ليس في حاجة إلى أن ينقذ إسبانيا وهي متأزمة، فقد كان يغْنيها حتى وهي غنية.