قبل أيام، اكتشف العالم من جديد أن هناك مشكلة قديمة اسمها الهجرة السرية بعد أن ركب 73 إفريقيا قاربا من سواحل ليبيا، فوصل خمسة منهم فقط إلى سواحل إيطاليا بعد أزيد من 20 يوما جوعا وعطشا في عرض البحر، وقربهم مرت بواخر كثيرة ولا أحد سارع إلى إنقاذهم. العالم الذي نسي بالمرة كارثة إنسانية اسمها الهجرة السرية، يعود إليه ضميره بين الفينة والأخرى، لكن ضميره ينام بعد ساعات فقط من الضجيج الإعلامي. في أوائل التسعينيات، كانت الهجرة السرية تصنع الأخبار الرئيسية في الصحف، وتحولت قصص عدد من المهاجرين السريين إلى أفلام وبرامج تلفزيونية. ومع مرور الأيام، نسي الناس أمرهم وأصبح على المهاجرين السريين أن يموتوا بشكل جماعي حتى تنشغل بهم وسائل الإعلام لبضع ساعات. بدأت الهجرة السرية من إفريقيا نحو أوربا من سواحل طنجة وضواحيها. ومع مرور الوقت، توسعت الرقعة لتشمل كل سواحل المغرب وشمال إفريقيا؛ واليوم، لم تعد المسافة التي يقطعها المهاجرون السريون هي 14 كيلومترا فقط، بل آلاف الكيلومترات. وفي ثنايا هذه المسافات الطويلة تحدث مآس كثيرة. المهاجرون السريون الأفارقة والمغاربة لا يعيرون اهتماما لشيء اسمه الأزمة الاقتصادية في أوربا لأنهم يعيشون أزمة أفظع في بلدانهم، لذلك فإنهم مستعدون لفقدان حياتهم من أجل وهم اسمه أوربا، بينما سكان أوربا يعتقدون أنهم يهاجرون هربا من الجوع. وقبل أزيد من 10 سنوات، التقيت في طنجة صحافيا إسبانيا وقمنا بجولة قصيرة فيها دخلنا خلالها سوقا للمواد الغذائية، فذهل الرجل من البضائع المعروضة بغزارة وسألني بحيرة: الأكل هنا متوفر للجميع.. لماذا، إذن، يهاجر المغاربة سرا ويخاطرون بحياتهم؟ كان ذلك الصحافي الإسباني يعتقد أن المغاربة «يحْركون» في الباطيرات هربا من المجاعة، والحقيقة أن لا أحد يلومه على اعتقاده هذا، وهو اعتقاد يشاركه فيه إسبان كثيرون يرون أن المغاربة لا يجدون ما يأكلونه لذلك يفضلون أن يتحولوا إلى طعام لأسماك القرش عوض أن يبقوا في بلادهم. حياة الكثير من المهاجرين المغاربة في إسبانيا تزكي اعتقاد الإسبان. ومرة خلال جولة في إيلخيدو، عاصمة العنصرية ضد المغاربة في جنوبإسبانيا، كنت أسير في شارع رئيسي، فشممت رائحةً مغربيةً بامتياز، هي خليط بين رائحة الشاي الأخضر «المْشحّر» ورائحة «الجْوانات». تتبعت الرائحة حتى وصلت إلى مقهى بئيس، وجدت بداخله أمة من المهاجرين المغاربة البؤساء.. كثيرون منهم يدخنون لفافات الحشيش ويشاهدون إسبانيا في التلفزيون فقط. مهاجر شاب من سوق الأربعاء بكى وهو يعترف بأنه يريد العودة إلى الدوّار لكنه يخجل من أن يضحك عليه الناس، وهو شعور يعيشه الآلاف من المغاربة هناك.. يريدون العودة لكنهم يخجلون. خلال زيارات كثيرة لإسبانيا، التقيت مهاجرين من كل الأصناف.. التقيت أبناء أطباء ومحامين يعملون مثل البغال في حقول الأكياس البلاستيكية من شروق الشمس إلى غروبها. وهؤلاء كان بإمكانهم أن يعيشوا بكرامة في المغرب، لكن هستيريا الهجرة جرفتهم، وهم بدورهم يخجلون من العودة إلى المغرب. التقيت مهاجرين سنة 1999، كانوا يربحون 5 آلاف درهم شهريا في المغرب فهاجروا لأنهم اعتقدوا أنهم سيجدون الجنة هناك؛ وعندما وجدوا الجحيم لم يقووا على العودة لأن ذلك يعني ضحك الناس عليهم. شاهدت في الجنوب الإسباني مهاجرين يسكنون في «كراطين» الثلاجات التي يغلفونها بالبلاستيك لمنع تسرب المطر عبرها. التقيت مهاجرين ينامون تحت القناطر أو يبنون بيوتا معلقة فوق أغصان الشجر، ورأيت مهاجرين يتسولون الطعام ويبحثون عن بقايا أكل في براميل القمامة. شاهدت كثيرين يعيشون أقصى مظاهر البؤس، وكلهم لن يعودوا لأن ذلك يعني ضحك الناس عليهم، بينما الإسبان يعتقدون أنهم هربوا من المجاعة ولا يمكنهم العودة.