تشهد زنقة سوسة في الرباط، التي كان فيها موطن اتحاد كتاب المغرب، على تاريخ طويل من صراع المثقفين والسياسيين، وتدخل الحزب في قبيلة الكتاب. وفي حين كانت الحروب تخاض على مستوى الفروع وتأخذ شكل قفازات ثقافية، كانت التصفيات تجري على قدم وساق في الأقاليم. وفي ذات الوقت كان نوع آخر من الكتاب والمبدعين المغاربة لا يهمهم أن يكونوا ضمن خارطة أي شيء، ولا في حسابات أي حزب من الأحزاب، قبل أن يكتشف المتصارعون أن الرأسمال الرمزي، الذي اقتتلوا من أجله تحت اسم القبيلة السياسية أو القبيلة الدموية أو سيقوا إليه سوقا، ليس إلا وهما من الأوهام، أدى في النهاية إلى مزيد من التشرذم والتمزق والاستيقاظ على خرائط ثقافية مصنوعة، فرخت أنصاف كتاب ومتجمهرين حول الشأن الثقافي وانتهازيين ينتظرون من السماء أن تمطر منا وسلوى. لكن البعض أيضا استطاب الجلوس في البيت وعلق كل هزائم وانتكاسات الثقافة المغربية على اتحاد الكتاب، وحمل مكاتبه المركزية المتناوبة أو المعادة وزر تراجع ثقافي هو من صميم تراجعات أخرى تمت وتتم على واجهة السياسة والقيم الرمزية، وتحول كل شيء إلى متاع قابل للبيع بدءا بانتخابات مخدومة تسجل مشاركة أقل، إلى انصراف المثقفين إلى أمكنة أخرى وفضاءات ثقافية عربية، تقوم مقام الفضاء المحلي المتخلى عنه، ليس لأنه «لا يدفع أكثر»، ولكن لأنه أصبح أكثر عقما بسبب مرض النميمة والوشاية الثقافية، وبسبب حس التسلق الثقافي، حيث نبتت للبعض أذرع «سبايدرمان»، يتسلق بها طوابق الثقافة، حالما بالقمة. سياسيو اليوم نفضوا أيديهم من الاتحاد، لم يعد يهمهم الرئيس ونائب الرئيس وأمين المال والكاتب العام.. انتهى العمل بالمثقفين، العضويين منهم وغير العضويين، فالمشهد يحفل بما شئت من الجمعيات والهيئات المتخصصة في القصة والشعر والنقد والفلسفة والتاريخ، وفي الأغنية والزجل والمسرح، زيادة على مئات الجمعيات المتخصصة في فلوس «التنمية البشرية»، وعشرات المجلات التي تبدو أمامها مجلة «آفاق» التي يملكها اتحاد الكتاب مجرد قزم صغير غارق في الكليشيهات وفي «الاستتباع الثقافي».. عشرات المجلات: مجلات للمؤرخين وللفلاسفة وللسيميائيين، ومجلات يؤسسها شباب وأخرى تصدرها دور نشر ومجلات تنبع من قلب الجامعات. الكاتب المغربي لم يعد في حاجة إلى بطاقة عضوية كي ينشر، فقد اهتدى جيل من الكتاب المغاربة والعرب إلى موت «قصة اتحادات الكتاب» وأسسوا اتحادا إلكترونيا يخترق الحدود ولا يحتاج المنتمي إليه إلى جوازات سفر ولا إلى تأشيرات دخول. السياسيون أداروا وجوههم لاتحاد الكتاب، وقالوا للمثقفين: «دبروا خلافاتكم في ما بينكم، دعونا لانشقاقاتنا وصراعاتنا، فالوقت ليس وقت كتاب»، فكيف يمكن للاتحاد أن يعيش اليوم خارج جبة السياسة بعد كل «الروابط الزغبية» بدءا من عهد المفكر المغربي محمد عزيز الحبابي في أوائل الستينيات لما كان مقر الاتحاد في دار الحجوي، مرورا عبر عهود عبد الكريم غلاب ومحمد برادة ومحمد الأشعري حين انتقل الاتحاد إلى مقره في زنقة سوسة، قبل أن ينتقل إلى المقر الجديد في عهد حسن نجمي وعبد الحميد عقار.. عهود اتحاد كتاب المغرب تبين أن هذه المؤسسة كانت لها على الدوام قناة اتصال خاصة سواء بالسلطة أو بالأحزاب السياسية، بل عبرت في فترة من تاريخها عن انتماء واضح وعلني إلى المعارضة، كما كانت لها مواقف جلية، حيث عبرت مبكرا عن الموقف الثابت من الوحدة الوطنية وجسدت صوت المثقف المعارض في فترة الصراع السياسي الحاد. الآن، تراجع كل هذا، وهرب الأصفياء إلى دوائر الصمت أو إلى ما به ينتفعون، فلم يبق شيء عليه تختلفون أيها الكتاب، لقد اختفت جزيرة الكنز من الخرائط الجديدة.