لقد أسهمت هذه المناهج في القتل النفسي للعديد من الأطفال والناشئين الذين ينسحبون من المدارس وثبطت العديد من الهمم؛ كما أسهمت في خلق العديد من الظواهر والسلوكيات السلبية مثل الغش في الامتحانات الذي قد يوصل صاحبه إلى الحصول على شهادة، لكنها تكون شهادة فارغة من أي محتوى معرفي بإمكانه مساعدته على توظيف تحايله، الذي أسعفه في الحصول على الدبلوم، في الوصول إلى مكانة اجتماعية يقدر على تدبيرها تدبيرا رشيدا، وإذا ما نال تلك المكانة بطريقة ما، غير شرعية، فإنه سرعان ما يحولها إلى بؤرة للفساد والتصرفات المريضة؛ فمقاربة الكمون التي يعتمدها المغرب في مناهج وبرامج التربية والتكوين كثيرا ما تتسبب في مفاقمة الخدش لدى الأجيال الصاعدة، فيتحول الأخير إلى عائق يَحُول دون تمتعها بالقوة النفسية المطلوبة لتقدير الذات، ويُضعف بالتالي رغبتها في التعامل بواقعية في معالجة الصعوبات وتحدي الأزمات، ويقلل من قدراتها على التوافق النفسي والتكيف الاجتماعي. يحدث هذا في الوقت الذي يفترض فيه أن تكون مناهج وبرامج التربية والتكوين مركزة على الاعتناء بمن تتعهدهم وحريصة على ترسيخ قيم محبة التعلم كمنتج للذكاء الذي لا يعتبر سمة ثابتة يمتلكها البعض دون البعض الآخر. وإذا كان الشباب مشكلة بالنسبة إلى الحكام والوجهاء فإن التضييق على الحريات وعدم اكتمال نضج الأداء لدى الأحزاب السياسية والمنظمات الدينية والتنظيمات النقابية والحركة الجمعوية وما يعترض هذه الجمعيات من صعوبات فكرية وتنظيمية ومادية وتواصلية.. كل ذلك وغيره لا يساعد على التعامل مع الشباب كثروة بشرية وطنية يجب الاستثمار فيها لمصلحة الوطن من خلال إنماء قدراتها وتقوية حضورها العلمي وتمليكها آليات التفاوض وتصنيع القرارات ومعالجة المشكلات، بالإضافة إلى تعليمها أساليب التفكير المبتكر وتصنيع الاستراتيجيات. وإذا كان المغرب قد جاء بمجموعة من القواعد التشريعية والعادية والتنظيمية لتحفيز الشباب على المشاركة السياسية، فإن هذا غير كاف في غياب ميثاق وطني لحقوق الأطفال والناشئين والشباب يؤكد مسؤولية كل القطاعات الحكومية وغير الحكومية في النهوض بهذه الفئات وتحصينها والتخطيط من أجلها على الأمداء، القريب والمتوسط والبعيد، ذلك أن تخفيض سن التصويت والترشيح وتأمين نسبة من المقاعد للشباب داخل الهيئات المنتخبة أو داخل القيادات الحزبية ليس بالأمر المهم في غياب تأمين الحرية والتعلم المفتوح والعدالة الاقتصادية والشغل المنتج كعناصر من مكونات المشاركة المجتمعية وليس المشاركة الانتخابوية أو السياسية. إننا أمام العديد من الصعوبات، فهل نستطيع الإنصات للشباب من أجل إبداع مشروع وطني ومشاريع جهوية للتحول السياسي والاقتصادي والاجتماعي والبيئي يركز على تحول عميق في التربية والتنشئة يمكننا من إنتاج مواطن متمتع بحكامة ذاتية جيدة؟ إنه الطموح والأمل الوحيد الذي يمكننا التعويل عليه في صياغة مستقبل مغرب الحكامة الرشيد، فهل نستطيع استثمار الحس الوطني للشباب والعمل الجمعوي المنصوص عليه بنص الدستور المغربي الجديد في سَنّ سياسات شبابية جديدة تلزم الجميع بالأعمال وتخضع للتقييم الجدي، أم إنه سيتم التعامل معه كمجال للاستقطاب والاستيعاب وتأليف القلوب كقوة اقتراحية على غرار باقي المجالس الأخرى؟ إن الشباب هو الثروة التي يجب على المغرب أن يعلق عليها كل الآمال، فهو الدعامة التي تتيح رفع التحديات التي تواجه المجتمع. كيف يتم ذلك؟ إن الأمر يحتاج إلى إدراك مجتمعي جديد للشباب بكل أصنافه ومعانيه البيولوجية والسيكولوجية والنفسية والاجتماعية. فكيف نستطيع الاستثمار في هذه الطاقة الإنسانية ونوظف حماسها ومشاعرها وجرأتها واستقلاليتها ومثاليتها المنزهة عن المصالح الشخصية الضيقة والروابط الانتهازية؟ ما هي إمكانياتنا العلمية والمهنية لتوظيف قطاعات التربية والتكوين والتنشيط السوسيوثقافي في تحرير الأطفال والناشئين والشباب من أحاسيس ومظاهر الضغط والقهر التي تطالهم من خلال العديد من مؤسسات المجتمع وتمكينهم من الثقة في الإمكانيات الذاتية وتكوين اتجاهات سليمة نحو الأسر والمجتمع وكل القطاعات والمجالات الأخرى؟ كيف نستطيع توظيف الدرجات العليا من الديناميكة والمرونة والحيوية المفعمة بالاندفاع والانطلاق والتحرر والتضحية التي تعتبر من أهم خصائص الشباب ومميزاته في تصنيع حياة فردية وجماعية عادلة ومنتجة ومتحضرة؟ ما مدى قدراتنا كقطاعات حكومية وغير حكومية على دعم ومساندة الشباب في الانطلاق الفكري والعملي؟ إن المفروض في كل الباحثين والمهنيين والسياسيين أن يدركوا أن شبابنا الجامعي بالخصوص والشباب بصفة عامة يمكن أن يكون قيادة فعالة لكل مشروع مجتمعي وطني ينشد الحضارة العادلة، لذلك فهي قيادة تحتاج إلى إعداد وتأهيل ورعاية واهتمام يركز على إحدى قواعد المعرفة ونتائج العلم من قبل كل قطاعات المجتمع وأجهزة الدولة والجماعات المحلية. وهذا يتطلب وضع سياسة تجعل الإنسان عامة والأطفال والناشئين والشبان بشكل خاص محورا دائما على جداول أعمال كل القطاعات والأجهزة والمنظمات الحكومية وغير الحكومية، ليس كمشكلة بل كمفتاح لمعالجة كل القضايا المجتمعية، من خلال التركيز على تحسيسهم بالتقدير والمحبة والاحترام وتمكينهم من الثقة في المؤهلات الذاتية؛ هذا الاحتياج الذي ليس شيئا يعطى أو يشترى وإنما هو شيء تقع مسؤوليته على عاتق الشخص، لكن عبر عمليات التربية والتكوين عامة ووحدات الخدمة الاجتماعية والتنشيط السوسيوثقافي السالف ذكرها، فبالاعتماد عليها وحدها نستطيع الإسهام في تعليم كل أفراد المجتمع كيف يعيشون حياتهم في إطار تجارب ذاتية بطرائق إيجابية؛ فحسب الدراسة الميدانية المنجزة في هذا المجال يتبين أن هناك أغلبية من الشباب الجامعي تحاول تجاوز جدران الحرم الجامعي بجد من أجل فهم أشياء جديدة وتبذل جهودا مستقلة وتطوعية لإدراك ذواتها وتكوين اتجاهاتها وتوظيفها في امتلاك المعرفة وخدمة ومساعدة الآخرين، وهذا يتطلب منا تسهيل سبل امتلاك تقدير الذات لدى الأطفال والناشئين والشباب، وعامة الناس، بالتركيز على مصالحتنا مع التعلم وإدراك التحديات التي تواجهنا كأفراد وجماعات ومجتمع كباحثين ومربين وسياسيين، وما تتطلبه من جهود وتوجيهات بعيدة الأمد؛ فالمغرب، كمثله من البلدان، يواجه أزمات متعددة المظاهر والأبعاد، تتطلب مواجهات قوية ومتوازنة وبذل جهود في صياغة مقاربات علاجية آنية واستراتيجية جديدة لتأمين المستقبل بشكل متضامن ومجتهد وفعال وشفاف يمكن الجميع من إدراك جذور الأزمة وصعوبات الماضي ومعيقات المعالجة التي تم رصدها والسماح بانخراط الجميع في أداء مهامهم، كل حسب قدرته، فقد يعتقد بعض المسؤولين أن الأطفال والناشئين والشباب وعامة الناس لا يمتلكون، في أغلبهم، المهارة والمعرفة أو أنهم متخلفون ولا قدرة لهم على أداء واجباتهم ومهامهم إزاء الأزمة مقارنة بغيرهم في البلدان الأخرى. لكن هذا ليس مؤشر نقص بل هو دليل على أنهم في حاجة إلى تأهيل مؤسس على سياسات سليمة للتعلم تستطيع تفهم وإدراك ما يفتقده ويحتاجه الناس عامة والأطفال والناشئون والشباب بالخصوص؛ فالرهان هو التعلم المعتمد على تمكين المتعلم من امتلاك فكرة إيجابية عن ذاته تقوده نحو القيام بالأعمال والإنجازات على قواعد النجاح والتفوق، ذلك أن الأزمة التي يمر بها المغرب تستدعي مصالحتنا مع ذواتنا بكل أبعادها الواقعية والمثالية والاجتماعية. ولنستقرىء خبراتنا في هذا المضمار ونستخدم إمكانياتنا البشرية والمادية كلها، لإدارة الأزمات ومعالجتها، وهذا يتطلب جرأة إنسانية من الجميع تتسم بالتواضع والتضحية ونكران الذات من أجل إنقاذ البلد وضمان مستقبل ىمن للأجيال الصاعدة بكل فئاتها على قاعدة العدالة والمؤسسة على التكافؤ وركوب التحديات والاجتهاد المركز على العلم الذي يعني الحقيقة التي تمكننا من اتخاذ قرارات واعية ومستنيرة نحو التعلم والإنجاز، وبذل الجهد في صياغة التوجهات السليمة والنماذج الحضارية المناسبة والاتجاهات والعادات المتوازنة والاقتدار المعرفي والتكنولوجي المتجدد كشرط لتقدير الذات باعتبارها العمود الفقري للحكامة الشخصية، الرشيدة والأمينة على نشر المعرفة والعلم بالحكامة الجيدة بكل صنوفها، وخاصة الحكامة السياسية التي تتأسس على القانون المنبثق من الإيرادات الحرة المترافقة داخل المجتمع الوطني باعتبار كافة المواطنين شركاء سياسيين واقتصاديين آمنين في الوطن وليسوا مجرد أصوات انتخابوية، شركاء أقوياء يعملون على سيادة الشفافية والمساءلة في كل ما يهم مصالح الوطن والمواطنين، وهي أمور يمكن توظيفها في مواجهة أي أزمات وصعوبات محتملة اعتمادا على الأجيال الصاعدة، وخاصة الشباب الجامعي الذي باستطاعته تجاوز جدران المدرجات وقيادة التنمية التضامنية ومعالجة الأزمات بروح إنسانية ووطنية عالية بدل محاصرته في المناخات الانفعالية والوقفات الاحتجاجية التي يعتبرها البعض فرصا للتفريغ الانفعالي وامتصاص الغضب، ويصفها آخرون بكونها مظهرا من مظاهر حرية التعبير، في حين أن الشباب المغربي عامة، والشباب الجامعي وشباب المعاهد العليا بالخصوص قادر على صنع المفاجآت في الحياة إذا كان محصنا بكفايات تعليمية تحرره من تسلطات الاستبداد والتدجين والاحتواء والانتهازية التي تمارس عبر وسائل الإعلام ومن خلال الأحزاب والنقابات والجمعيات، بل ومن داخل بعض المساجد، بالإضافة إلى الكثير من القطاعات الحكومية، وهي تسلطات أصبحت تشكل خطرا على أصحابها أكثر من خطورتها على الأجيال الصاعدة وعلى كافة المواطنين. وفي هذا السياق، يجب التأكيد على أن الحكامة الجيدة لا يمكن أن تكون إلا إذا كانت حكامة ديمقراطية، وأن الديمقراطية الحقيقية لا تتكرس إلا باحترام الحريات وحقوق الإنسان والتقدم السوسيوتنموي، وهذا يتطلب حكامة ذاتية ديمقراطية. أستاذ بالمعهد الملكي لتكوين الأطر