طرح مسألة الهوية الثقافية ملازم للحظات الأزمة التي تعرفها هذه الثقافة، فهل ثقافتنا تعيش أزمة؟ ما مظاهرها؟ وهل هي استثناء في المناخ الثقافي الكوني؟ هل للأمر علاقة بعناصر الأزمة التي تعتمل في بعض المؤسسات الثقافية أو التي لها تقاطع مع الثقافة والقيّم في هذا البلد؟ ثم هل تصورُّنا لأزمة الثقافة في المغرب هو تصور سليم أم إن عجزنا عن فهم ما يجري في ساحتنا الثقافية هو الذي خلق خطاب الأزمة؟.. أسئلة كثيرة لها ما يبررها اليوم، حتى بدون أن ننتظر حدوث حدث مثل مؤتمر «اتحاد كتاب المغرب» الذي انعقد مؤخرا، خاصة أّن مجالات كثيرة، نتفق جميعا على صلتها بالثقافة، تعيش لحظاتِ مخاضٍ عسيرة، كالسينما والكتاب والمسرح والموسيقى وغيرها.. فهل للأمر علاقة بالتحولات التي يعيشها المجتمع المغربي؟.. في خضم التحولات القيميّة العميقة والمتسارعة التي يشهدها المجتمع المغربي، ظهرت «نماذج» ثقافية غريبة لا تثير في أنفسنا أي علامة استفهام، حيث يتساكن المعنى مع اللا معنى، والأمل مع اليأس.. نرى هذه التحولات، أيضا، في قضايا تبدو جزئية، لكنها دالة على عمق تحولات هويتنا الثقافية، نراها، مثلا، في صورة المغربيِّ عن نفسه، ثم في نظرته إلى بلده، فقد تفسّخت هويتنا الثقافية إلى قصص قصيرة تشدّ إليها أقليات تنفعل بها وتروّج لها في ما يشبه أخويات العصور القديمة.. إن مشكلة مشهدنا الثقافي اليوم هي غياب مشروع مجتمعيّ يدفع القائمين على الشأن الثقافي، بالمعنى العام، سواء التربوي أو الروحي أو الفني، إلى أن يضعوا إستراتيجيات واضحة لهندسة شخصية المغربي الذي نريد.. فواضع السياسة التعليمية يرمي إلى ترسيخ التعليم التقني، إذ في تفاضل واضح، يعطي للتقنوقراط مكانة «الرياسة»، بتعبير الأقدمين، وواضع السياسة الدينية يرمي إلى ترسيخ الثقافة الصوفية بجذورها «الجنيدية»، وواضع السياسات الثقافية يرمي إلى ترسيخ ثقافة غربية.. ولأن كل هذه السياسات قد تم الشروع فيها منذ عقد، فإن نتائجها المتناقضة والمتنافرة بدأت تظهر في شخصية المغربي (سروال الدجين والحِجاب -»الكوكا كولا والكسكس» -»رنّة القرآن الكريم في هاتفٍ صاحبُه محتال أو صاحبته ساقطة» -«مغادرة العمل، وهو عبادة، وقتَ الظهيرة لتناول الغذاء بحجة صلاة الظهر» -«الذهاب إلى الحج لنيل ثقة الناخبين، في مشهد حزبيّ غير فاضل»).. وهذه الازدواجية خطيرة جدا، تحتاج دراسات وأبحاثا سوسيولوجية وسيكولوجية لفهم الأساب التي تجعل المغربي اليوم يعتمد انتقائية كاشفة في الانتقال من الحداثة إلى التقليد دون عقدة.. إن مشهدنا الثقافي اليوم لم يحسم في اختياراته، فلا هو بالأصيل ولا هو بالمعاصر، بل حتى هذان المفهومان أضحيا موضوع تجاذب حزبي!.. بينما نجد في العالم الحر أنّ مَشاهده الثقافية تشهد تعددا صحيا للمصالح والطموحات الطبيعية في نيل الامتيازات لدى الفئات المختلفة في المجتمع، نجد، مثلا، فئة عريضة من النساك المتدينين ولهم أنشطتهم واهتماماتهم ومؤسساتهم، ونجد، أيضا، فئة العابثين غير المتدينين، والذين لهم أيضا حياتهم الثقافية الخاصة بهم.. لكنْ لن نجد في الشخص الواحد خليطا من التدين والعبث الأخلاقيّ، كما هو عندنا. لذلك، ففي مجتمع كهذا، متعدد الخلفيات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية وغيرها، يكون تمركز السياسة الثقافية في فئة حزبية معطى مستهجَناً ومرفوضا، كما وقع عندنا منذ ظهور ما يسمى «التناوب»، والذي جعل وزارة الثقافة حكرا على حزب معيّن، وكأن المثقفين لا يوجدون خارج هذا الحزب!.. وبالتالي فأن يتموقع حزبٌ ما أو إئتلاف حزبيّ في المعارضة، فهذا لأنه يقدم بدائل «تدّعي الصلاحية» بلغة هابرماس، وبين الادّعاء كإمكان وتحقق الصلاحية، تلعب النخب الحزبية ومؤسسات البحث والتفكير والتخطيط، التابعة لهذا الحزب، دورا محوريا في صياغة مشروع ثقافي جديد.. وفي هذا المناخ السليم، يعتبر التموقع في المعارضة اختيارا غيرَ مخيف، إذ هو مناسبة مهمة لتجديد المقولات والخطاب والنخب أيضا، بما يسمح للعقول الشابة بتولي المسؤولية الحزبية في إطار حكومة ظل، فيما يُوثر الشيوخ التفرغ لأعمال أخرى تكوينية، كإلقاء المحاضرات وإجراء الزيارات للمواقع الجامعية وكتابة المذكرات وغيرها من أعمال التقاعد الإيجابي.. هذه، باختصار، معالم ثقافة أخرى. وفي مغرب اليوم، المشهد الثقافي مختلف تماما، وتكاد ملامحه تكون ممسوخة، مشهد ثقافي بدون معارضة، أضحت المعارضة «تهمة» توجب على المثقفين إنكار المبادئ والتاريخ والرموز، وأضحى تحمُّل مسؤولية التسيير هدفاً في ذاته، مهْمَا كان الثمن، باسم «الواقعية السياسية» حينا، وباسم الطموح الشخصي أحايين كثيرة.. والنتيجة هي لا الثقافة ثقافة ولا المحافظة محافظة ولا التقدمية تقدمية، فتجد مثقفا «حداثيا» ينشر كتبه بالوساطات الحزبية ومثقفة نسائية وحقوقية تُشغّل طفلة قاصرا في بيتها.. ونفس الشيء في الثقافة السياسية، فلا اليسار يسار ولا اليمين يمين، الكل ضد الكل، من حيث المبدأ.. لكن مع الكلّ من حيث «الظرفية السياسية».. الكل متمترس في موقع واحد.. فالزحام شديد والتنافس على أشده على فتات الموائد.. فلا استقطاب ولا أقطاب ولا أحزاب.. إنما تنظيمات للانتظار والترقب المستمر.. لرجال ونساء ذوي ملامح هلامية.. يساريون في أول النهار ولا شيء في آخره.. مخزنيون في بداية العمر ومعارضة في أوسطه.. ولاملامح للنهاية.. وكثيرون بين -بين، يُغيّرون ولاءتهم كما يغيّرون معاطفهم في كل «منزلة»..