في العالم الحر، يعكس المشهد السياسي تعددا صحيا للمصالح والطموحات الطبيعية إلى نيل الامتيازات لدى الفئات المختلفة في المجتمع، لذلك ففي مجتمع كهذا، متعدد الخلفيات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية وغيرها، يكون تمركز الحكم معطى مستهجنا ومرفوضا، وأن يتموقع حزب ما أو ائتلاف حزبي في المعارضة فهذا لأنه يقدم بدائل «تدعي الصلاحية» بلغة هابرماس؛ وبين الادعاء كإمكان وتحقق الصلاحية، تلعب النخب الحزبية ومؤسسات البحث والتفكير والتخطيط، التابعة لهذا الحزب، دورا محوريا في صياغة خطاب يلقى القبول الواسع. وفي هذا المناخ السليم، يعتبر التموقع في المعارضة اختيارا غير مخيف، إذ هو مناسبة مهمة لتجديد المقولات والخطاب والنخب أيضا، بما يسمح للعقول الشابة بتولي المسؤولية الحزبية في إطار حكومة ظل، فيما يُوثر الشيوخ التفرغ لأعمال أخرى تكوينية، كإلقاء المحاضرات وإجراء الزيارات للمواقع الجامعية.. وكتابة المذكرات وغيرها من أعمال التقاعد الإيجابي. وفي مغرب اليوم، المشهد السياسي مختلف تماما وتكاد تكون ملامحه ممسوخة، مشهد سياسي بدون معارضة، أضحت المعارضة تهمة توجب على الأحزاب إنكار المبادئ والتاريخ والرموز، وتحمل مسؤولية التسيير أضحى هدفا في ذاته، مهما كان الثمن، باسم «الواقعية السياسية» حينا، وباسم الطموح الشخصي أحايين كثيرة، والنتيجة هي أنْ لا اليسار يسار و لا اليمين يمين.. الكل ضد الكل من حيث المبدأ.. لكن مع الكل من حيث «الظرفية السياسية»،.. الكل متمترس في موقع واحد.. فالزحام شديد والتنافس على أشده على فتات الموائد.. فلا استقطاب ولا أقطاب ولا أحزاب.. إنما تنظيمات للانتظار والترقب المستمر.. لرجال ونساء ذوي ملامح هلامية.. يساريين في أول النهار ولا شيء في آخره،.. مخزنيين في بداية العمر ومعارضين في أوسطه.. ولا ملامح للنهاية،.. وكثيرين بين بين، يغيرون ولاءاتهم كما يغيرون معاطفهم في كل «منزلة».. تشرع القوانين لاستعادة المعنى، لمنع كل هذا العبث.. فيأتي حين من الدهر تجمد دون سابق إنذار،.. ليبقى سؤال البدائل مطروحا على طاولة الجميع. فإذا كان الطموح لطي صفحة الماضي كبيرا، فإن في القلوب خواطر وفي العقول صورا من سياسة هذا الماضي تستحق كل الانتباه، تلك المتعلقة بوضوح مشهدنا السياسي آنذاك، ففي ظل أرضية دستورية تسند الطابع السلطاني الممركز للدولة، كان كل من يعارض الحكومة يعد معارضا للملك، والملك أيضا كان يعتبره كذلك، فالمشهد كان واضحا كما الحقيقة.. أسودَ حالكا يقابله أبيض ناصع.. ولا رماديا، فلا عجب إن كان العمل السياسي في المعارضة آنذاك أشبه بالعمل الفدائي، وبقية الحكاية نعرفها. أما اليوم، فرغم كل ما قيل عن طي «صفحة الماضي» و«التناوب» و«المفهوم الجديد للسلطة» وغيرها من المفاهيم الجديدة، فلا تعديل دستوري حصل ليوثقها ويضمنها، فالفصلان 24 و19 لازالا على حالهما، حكومة «الفيترينا» ليست لها القدرة على إصدار القرارات المهمة، إنما حكومة الظل من محيط القصر هي من يقوم بذلك، أما ما يسمى مجازا ب«المعارضة»، ففي تناقض كبير، ونقصد حزبي العدالة والتنمية والأصالة والمعاصرة، فأن نجد، اليوم، حزبا يشارك في الانتخابات ويصارع للحصول على مناصب المسؤولية، في ظل قواعد وقوانين تعكس منظومة معدة سلفا، ويعترف بالدستور الحالي بكل محرماته، وينهج طرقا غير مبدئية في التحالفات كما عكستها انتخابات المجالس في الأسابيع الأخيرة، فإنه من الصعب أن يحافظ على مصداقيته عندما يتحول إلى المعارضة، بل إن الأمر لا يعدو أن يكون تلاعبا غير مسؤول بالمواقف، فالسؤال الأهم هو: الحزب المعارض بالمغرب سيعارض من وماذا تحديدا؟ أما حكاية معارضة الأمس فقد انتهت بما يعرفه الجميع من تهافت على المناصب، ودون أن تحقق ولو الحد الأدنى مما كانت تطالب به «أيام الصبا» ك: دولة الحق والقانون، فصل السلط، العدالة الاجتماعية،.. والمأساة الحقيقية هي أن من يزور مقرات هذه المكونات الحزبية، اليوم، في الأقاليم والجهات سيجد صور الضحايا من مناضليه لازالت معلقة بشعارات كبيرة، من قبيل «القمع لا يرهبنا.. كذا»، وهي شعارات دالة على سكيزوفرينيا تستعصي على الفهم...عجبا؛ كيف استطاعت سياسة ما بعد سنوات الرصاص أن تحقق ما لم يحققه رصاص سنوات؟ مشكلة المغرب الشعبي، اليوم، هي أن لا معارضة تتكلم باسمه وتنطق بمطامحه المشروعة، إنما هناك فقط أحزاب تدعي وصلا بأحلامه وتتكلم باسمه، فيما هو يلعن السياسة ومشتقاتها، منها أحزاب قبلت العمل «الشرعي»، تفرض عليها الغايات الآنية والضيقة أن تتقلب ذات اليمين أو ذات الشمال، فيما هي مخترقة بتناقضات تفقدها مصداقيتها الشعبية والتاريخية.