سيظل الفكر السياسي فاعلا ومتفاعلا مع محيطه السوسيواقتصادي طالما بقي خاضعا للمساءلة الدائمة، في ضوء المستجدات والتطورات المتسارعة الجارية محليا وإقليميا وعالميا، ويعد أفق أي حزب سياسي رهينا برؤيته السياسية ومدى تماسكها ووضوحها وقدرتها على التأثير والتفاعل. بعد استقلال المغرب كانت لدى بعض الأحزاب مشاريع واضحة أو على الأقل مطالب واضحة إلى حد ما مدعومة بقاعدة شعبية متلاحمة، مع توفر خطاب سياسي حازم، وباستحضار القيادات التاريخية للأحزاب من أمثال: علال الفاسي، ومحمد حسن الوزاني، والمهدي بنبركة، وعبد الله إبراهيم... نلحظ امتلاكهم لطروحات متقدمة ووعي سياسي بأهمية التنظير السياسي والمرجعية النظرية كلبنة أساسية وضرورية لهيئاتهم الحزبية، وقد تجسد ذلك من خلال كتاباتهم ونصوصهم وخطبهم السياسية. وفي مرحلة ما عرف بالانتقال الديمقراطي، حيث غياب الزعامات المؤسسة لهذه الكيانات، عرفت تلك الأحزاب اهتزازا في مشروعها السياسي، وانشغلت بقضايا هامشية من قبيل التخلص من إرث الحكومات السابقة بدلا من تطوير رؤيتها السياسية للمرحلة. ثم جاءت مرحلة الأحزاب المعارضة وتسلمها للحكم بمعية أحزاب يمينية، فأبانت عن أداء سياسي لا ينسجم والشعارات التي رفعتها وعرفت بها عبر تاريخها، وانكشف لدى المتتبع غموض نظريتها السياسية، إن لم نقل غيابها. ثم جاءت مرحلة أخرى اتسمت بولوج حزب العدالة والتنمية المشهد الحزبي المغربي كفاعل جديد بنسمة جديدة ربما افتقدتها الممارسة السياسية المغربية عبر رحلتها من الاستقلال إلى اليوم، حيث أضفى على الواقع السياسي دينامية لافتة للأهمية؛ فالحزب تسنده قاعدة جماهيرية واسعة، كما كان لدى الأحزاب في بداية الاستقلال، بل علق عليه كثير من المواطنين آمالا كبيرة وطموحات واسعة، لكن سرعان ما سيتبين عجزه في صنع ثقافة سياسية جديدة تقطع مع الأساليب التقليدية في الممارسة السياسية، وزاد من ذلك خطابه السياسي الذي لا يعكس تقدما فكريا وثقافيا، لافتقاده لإطارات نظرية تسند فعله إلا من مقولات تراثية وكلامية غير عميقة. إن التركيبة البشرية لأعضاء الحزب تنتمي في غالبها إلى الحركة الإسلامية، هذه الأخيرة التي منذ تشكلها كانت تتحفظ عن دخول الحقل السياسي والعمل من خلال المؤسسات القائمة، غير أنه بعد جهد ومخاض داخليين تم الاقتناع بالمشاركة السياسية وتم توظيف نصوص من المنظومة التراثية/الدينية المؤيدة للمشاركة وضرورة التدافع السياسي (ابن تيمية مثلا). ولعل مهندسي دخول الإسلاميين للعمل السياسي لم يجيبوا إلا عن سؤال واحد، حيث هيؤوا مستندا مرجعيا نصيا لإقناع فئة ظلت بعيدة عن أوحال السياسة بوجوب المشاركة السياسية ثم توقفت الأجوبة الأخرى الضرورية، فدخل الحزب المعترك السياسي ليجد نفسه أمام أوراش متعددة للإصلاح فتحتها الدولة على مقاسها بل وتتحكم فيها، وإشكالات تنظيمية تتعلق بالحزب تتطلب تدبيرا جيدا وعاجلا لها، وبدأت تتناسل أسئلة ما بعد المشاركة السياسية ومآلات الانخراط في اللعبة السياسية، الشيء الذي غيبه مسار الحزب في المشاركة. وإذا كانت الورقة المذهبية للحزب تشكل بعض ملامح توجهاته السياسية، لكنها لا تفي بالمطلوب كما هو متداول في المجال السياسي، فضلا عن عموميتها وضبابيتها؛إذ ثمة مثلا مواقف وآراء لقيادات الحزب تختلف جذريا عما ورد فيها، وهذا يعني أنه لم تتبلور بعد معالم ثقافة سياسية حزبية متجانسة أو متكاملة تصطبغ بهوية هذا الحزب الذي يوسم بكونه حزبا «إسلاميا»، ثم إن الآراء المتضاربة لقادة هذا الحزب لا ترقى إلى أن توصف بتيارات من داخله بما تحمله هذه الكلمة من معنى، إنما هي مجرد تخبطات ثقافية كثيرا ما تكون ذات نزوعات شخصية تنافسية أو تدافعات تنظيمية موروثة من تجربة التوحيد والإصلاح أو قضايا الهيكل القديم للحزب. إذا كان الحزب يعتبر نفسه من الأحزاب ذات المرجعية الإسلامية؛ التي ظلت معلقة غير واضحة، فهل هذه المرجعية مرجعية نصوص؟ أم مرجعية قيم؟ أم مرجعية فقهية؟ أم ماذا؟ كما أن صفة «الإسلامية» أو «الإسلامي» ما المراد منها تحديدا، أهو الإسلام بمعناه «الهوياتي» أم الإسلام كتعاليم ونصوص ومعاملات؟ رغم أن اسم الحزب لا يحمل هذه الصفة، ولازال تصنيفه ضمن الأحزاب الإسلامية قائما من لدن المحللين وصناع القرار بل حتى من محبيه. والمراد بالشريعة هل هو إنتاج الفقهاء الذي يشمل أدق تفاصيل الحياة اليومية؟ أم الشريعة هي سياسة كليانية أو سلطة فعلية منتجة لقوانين الحياة؟ أم الشريعة مبادئ وقيم ومثل؟ أم هي الشريعة التي يختزلها البعض في الحدود والأحكام الواردة في القرآن؟ إن الإجابة عن هذه الأسئلة من شأنه صياغة منظومة من المفاهيم تحمل في ثناياها مشروع نظرية سياسية بغض النظر عن الاختلاف أو الاتفاق بشأنها؛ وأشير هنا إلى أن امتلاك حزب ما مرجعية معينة مظهر صحي ومطلوب مهما كان بعد هذه المرجعية الفلسفي والثقافي؛ لأن المرجعية بالنسبة إلى الحزب فهي شأن يخصه هو، أما المواطن فيعنيه أكثر البرنامج السياسي. إن تحديد ماهية «الإسلام» سيوضح طبيعة العلاقة بين الإسلام والسياسة، كما أن السؤال الأهم من ذلك هو: من الذي يملك السلطة الكاملة لتقرير ما هو الإسلام؟ أما مفهوم الشريعة فبناء عليه ستتضح قيمة وجدوائية الديمقراطية وحدود الحرية الإنسانية، والسؤال الأهم: من الذي يشرع؟ إلى جانب ذلك ثمة أسئلة تتعلق بمعالم العلاقة بين الدولة والمجتمع والإسلام والسلطة والدين والملكية وما سيتفرع عنها من قضايا. وهنا نتساءل، بأي مفاتيح يمكن أن يقارب الحزب بعض القضايا والإشكالات المطروحة، سواء كانت سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية؟ طالما كانت هذه الأسئلة معلقة إلى حين؛ لأن الملاحظ أن الحزب في تعاطيه مع بعض ملفات الشأن العام «الاقتصاد، السلفات الصغرى»، الإعلام العمومي، التظاهرات الاجتماعية «مهرجانات»، السياحة، قضايا المرأة «مدونة الأحوال الشخصية»)... بدا أنه يفتقر إلى فرش نظري سياسي لبناء مواقف واضحة وثابتة ولم يحدد ثابته في المجال السياسي ومتغيره، نتيجة غياب استراتيجية واضحة من شأنها التركيز على السند المرجعي والقيمي والثقافي للمجتمع المغربي، وقد لاحت من خلال أدبيات الحزب ومعاركه التي خاضها مع الخصوم السياسيين، صورة مهلهلة لملامح مشروع مجتمعي بديل قد لا يحظى بإجماع المغاربة، وهذا سيؤدي بالحزب تحت ضغط الواقع إلى مراجعة خطابه وشعاراته ومساءلة «ميتافيزيقيا نموذجه السياسي»، وربما يفقد مصداقيته ويفرط في طهرانيته. ولعل أكبر تحول عرفه العدالة والتنمية وبشكل مفاجئ هو توجهه إلى الواقع وانشغاله به أكثر مما يلزم، بدلا من اهتمامه بتثوير «المرجعية الإسلامية « لتلائم المستجدات؛ فضغط الواقع وإكراهاته جعلت ممارسته ومواقفه تتسم ب«البراغماتية»، فمن هنا نلحظ أن قادة الحزب تفاعلوا مع معطيات الممارسة الواقعية دون تنظير لهذا التفاعل؛ فالنظرية السياسية لديه متأخرة ولا تسبق العمل والممارسة، ومن ثمة اتخذ سلوكه السياسي وممارسته العملية نزعة نفعية مغرقة انعكست سلبا على أدائه السياسي ومشاكله الداخلية. فعندما تكون الرؤية السياسية ملتبسة، تنعكس على الخطاب السياسي، وعندما يرتفع سقف الشعارات فهذا لا يؤشر على صحة البرنامج السياسي، فالحزب يستمد قاموسه السياسي من نواة «التنظيم الإسلامي» الذي يشكل قاعدته الأساسية وخزان أفكاره، وقد أثيرت قضايا من قبيل قضية المرأة، والحريات، وحقوق الإنسان، وملكة الجمال... فبعضها سكت عنه وبعضها حسمه بخندقة الآخر في زاوية التشكيك في نواياه، بدلا من تحطيم أطروحته بالمناقشة والمحاورة والمناظرة، وبنظرنا يعتبر هذا تجليا من تجليات غياب نظرية سياسية متماسكة تؤسس للفعل والممارسة السياسيين. «وإن كنا نتحدث عن السياسي في الخطاب فإنه للأسف يقتات من اليومي ومن صناعة تركيب وقائع غير مشدودة إلى خيوط وثوابت نظرية سياسية منسجمة ومتناغمة، مما يعطي الانطباع بأن خطاب التخليق بمثابة رسائل نصح يتقدم بها فقيه إلى الأمة بكل مكوناتها من موقع إبراء الذمة أمام الله (مقالة: في نقد الخطاب السياسي لحزب العدالة والتنمية، عزيز الهلالي، جريدة المساء العدد 139، الخميس 01/03/07) على مستوى البناء التنظيمي الحزبي: يكشف في بعض جوانبه عن المأزق النظري الذي يعاني منه الحزب، فتارة يظهر تنظيما مغلقا، وتارة منفتحا؛ على سبيل المثال فالحزب يفتح عضويته لجميع المواطنين من كلا الجنسين، لكن الملاحظ أنه لا تتواجد في هيئاته نساء غير محجبات (خصوصا المكاتب المحلية والإقليمية) ربما قد يكون شرطا من شروط العضوية غير مكتوب، أو مسكوت عنه، ويعزى هذا الأمر إلى غياب رؤية واضحة للحرية وحدودها لدى الحزب خاصة، ويتجلى انفتاحه في موافقته على انضمام اليهود المغاربة إلى صفوفه، ولكن إلى أي مدى تتناغم قيادة الحزب مع قاعدته في هذه الجوانب؟ ولايزال الحزب -ربما لحداثته- متماسكا ولم يشهد انشقاقا في صفوفه على غرار الهيئات السياسية الأخرى، باستثناء انسحاب مجموعة أسست حزب «النهضة والفضيلة» (عام 2005) والذي لم يشكل أي تأثير داخلي على قواعده، ولكن هذا لا يعني أن الحزب معافى من المشاكل الداخلية وأبرزها غياب الديمقراطية الداخلية، (انظر مقالة الإدريسي مصطفى أمين «العدالة والتنمية» حزب إسلامي بمذاق مغربي أو تكرار التجربة، جريدة المساء عدد 300،/05/09/07)، وبالرغم من ذلك فإن البنية التنظيمية للحزب لا تختلف عن مثيلاتها في الأحزاب السياسية المنافسة له، ونورد في هذا الصدد ملاحظة للأستاذ محمد رضا في مقال له في جريدة الصحيفة ع 92 («إن هيكلة العدالة والتنمية لا تستجيب لمطلب إنتاج الحلول للمشاكل العمومية، وهي هيكلة تنظيم دعوي أكثر منه تنظيم سياسي، وهو ما سيجعل عملية تحول الاشتغال الداخلي لحزب العدالة والتنمية من الإنتاج الإيديولوجي إلى إنتاج السياسات العمومية البديلة عملية عسيرة، ولو أدرك الحزب حاجته لهذا التحول). أوردنا هذه الملاحظة لعلاقتها بما نشير إليه من غياب تنظير سياسي، ولغياب طرح جريء لأسئلة قبلية حول العمل السياسي المفروض أن تتناسب مع بنيته التنظيمية وآليات اشتغاله، حيث لا معنى لوجود هيكلة حزبية بدون رؤية وبدون أفكار وبدون منهج. ومن المؤشرات على غياب التنظير السياسي هو قلة الإنتاج الثقافي إن لم نقل انعدامه، علما بأن قوة أي حزب تنبع من نخبه المثقفة وما تنتجه من رؤى وأفكار ومفاهيم ذات الطبيعة النظرية؛ فالحزب يسير في اتجاه إنتاج نخب تقنقراطية فاقدة «لميتافيزيقيا النموذج السياسي» والمكرسة لذات الأوضاع، والسؤال هنا: في ماذا تستثمر «مقرات» و»مالية» الحزب إذا لم تكن ملتقى للتكوين السياسي والثقافي والمعرفي والحقوقي؟ إن حشد الناس في مؤتمرات وتجمعات وتجييشهم ووشحنهم عاطفيا ليس أكثر أهمية من إعداد ثلة لا تريد جاها ولا سلطة ولا مالا ولا منصبا تؤسس لخطاب عقلاني معاصر، وتخلق أنشطة بحثية وفكرية تسهم في صنع القرار ومأسسته. فالعمل السياسي هو سياسة المثقفين، وحين ترتبط السياسة بالثقافة يرتفع منسوب العقلنة في شتى الميادين. سبق أن أشرنا إلى أن الحزب الذي لا يملك نظرية سياسية تؤطر أفعاله وسلوكاته ومواقفه، يكون عرضة للتوظيف السياسي في حروب الوكالة، وهي في السياسة حروب وهمية يخوضها الحزب ضد الحزب الآخر لخدمة طرف ثالث يتحكم في تفاصيل الصراع. فلمصلحة من يقوم الحزب بتقسيم أفراد المجتمع السياسي وحتى المدني إلى فئتين، واحدة علمانية وأخرى إسلامية، إن لم يكن مباشرا لدى قادته فهو عند قواعده بارز، فالإنسان المعاصر يعمل على تبديد الصراع السياسي وتجنب الاحتراب الداخلي، والبحث عن القواسم المشتركة والحدود الأدنى للعمل سوية تحقيقا للتنمية وتطويرا للبلاد ولمصلحة العباد ومحاصرة الفساد والاستبداد. وخلاصة القول : الحديث عن النظرية السياسية لحزب العدالة والتنمية «المغربي» لا يتعلق به وحده فقط، بل يطال جميع الهيئات السياسية بشتى تلاوينها واتجاهاتها التي تعاني بدورها فقرا في التنظير السياسي وبلورة رؤى وأفكار جديدة تتواءم والمرحلة الراهنة إلا ما ندر. ثم إننا لسنا بصدد الحديث عن مساوئ وعورات العدالة والتنمية فما أوردناه من أمثلة وملاحظات يتعلق بنظرنا بإحدى تجليات غياب النظرية السياسية. انطلاقا من هذه المؤشرات الآنفة الذكر، سيضع الحزب نفسه أمام مستقبل يتوزع بين المراحل التالية: - تحوله إلى حزب ذي طابع خدماتي: ناجم عن غياب «ميتافيزيقيا النموذج السياسي» أو بعبارة أخرى الحلم السياسي لديه. - تكريسه لتصور ومفهوم «للسياسة» قائم على أجرأة وتنفيذ التوصيات: على حساب الثقافي الذي يحسم أولا في الاختيارات والقيم ومأسستها. -العمل على البقاء في السلطة بأي ثمن: نتيجة تشابك المصالح والمنافع بين عناصر العملية السياسية. هذا الوصف لكل مرحلة يترافق مع خطاب سياسي مدعم دينيا بنصوص شرعية «منتقاة بدقة» لتبرير الموقف والسلوك المتخذ من لدن قادة أو هياكل الحزب، وذلك لضمان بقاء القواعد متلاحمة مادامت ثقافتها مبنية على الثقة في الفرد «القائد» دون اعتبار للمؤسسة الحزبية ولمصلحة المواطنين.