طرح مسألة الهوية الثقافية اليوم له ما يبرره في خضم التحولات القيمية العميقة والمتسارعة، التي يشهدها المجتمع المغربي، تحولات أثرت حتما على جودة ثقافتنا السياسية، وأفضت إلى ظهور «نماذج» سياسية تحترف «تربية البقر» وتفضلها على تربية البشر، وأفضت أيضا إلى ظهور نماذج عجائبية في شخصية المغربي، حيث ما قبل الحداثة تتساكن مع الحداثة، وهذه مع ما بعد الحداثة دون أن يثير ذلك في أنفسنا أي علامة استفهام، حيث المعنى يتساكن مع اللامعنى، والأمل يتساكن مع اليأس. نرى هذه التحولات أيضا في قضايا تبدو جزئية، لكنها دالة على عمق تحولات هويتنا الثقافية، نراها مثلا في صورة المغربي عن نفسه، ثم في نظرته إلى بلده، فقد تفسخت هويتنا الثقافية إلى قصص قصيرة تشد إليها أقليات تنفعل بها وتروج لها فيما يشبه أخويات العصور القديمة. إن مشكلة مشهدنا الثقافي اليوم هو غياب مشروع مجتمعي يدفع القيمين على الشأن الثقافي بالمعنى العام، سواء التربوي أو الروحي أو الفني، ليضعوا استراتيجيات واضحة لهندسة شخصية المغربي الذي نريد، فواضع السياسة التعليمية يرمي إلى ترسيخ التعليم التقني، في تفاضل واضح يعطي للتقنوقراط مكانة «الرياسة»، بتعبير الأقدمين، وواضع السياسة الدينية يرمي إلى ترسيخ الثقافة الصوفية بجذورها «الجنيدية»، وواضع السياسات الثقافية يرمي إلى ترسيخ ثقافة غربية. ولأن كل هذه السياسات قد تم الشروع فيها منذ عقد، فإن نتائجها المتناقضة والمتنافرة بدأت تظهر في شخصية المغربي، «سروال الجينز والحجاب»، «الكوكا كولا والكسكس»، «رنة القرآن الكريم في هاتف صاحبه محتال أو صاحبته ساقطة»، «مغادرة العمل وقت الظهيرة لتناول الغداء بحجة صلاة الظهر»، «الذهاب إلى الحج لنيل ثقة الناخبين في مشهد حزبي غير فاضل»...وهذه الازدواجية خطيرة جدا، تحتاج إلى دراسات وأبحاث سوسيولوجية وسيكولوجية لفهم لماذا المغربي اليوم يعتمد انتقائية كاشفة في الانتقال من الحداثة إلى التقليد دون عقدة؟ إن مشهدنا الثقافي اليوم لم يحسم في اختياراته، فلا هو بالأصيل ولا هو بالمعاصر، بل حتى هذان المفهومان أضحيا موضوع تجاذب حزبي!! بينما نجد في العالم الحر أن مشاهده الثقافية تشهد تعددا صحيا للمصالح والطموحات الطبيعية في نيل الامتيازات لدى الفئات المختلفة في المجتمع، نجد مثلا فئة عريضة من النساك المتدينين لهم أنشطتهم واهتماماتهم ومؤسساتهم، ونجد أيضا فئة العابثين غير المتدينين، الذين لهم أيضا حياتهم الثقافية الخاصة بهم، لكن لن نجد في الشخص الواحد خليطا من التدين والعبث الأخلاقي كما هو عندنا. لذلك في مجتمع كهذا، متعدد الخلفيات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية وغيرها، يكون تمركز السياسة الثقافية في فئة حزبية معطى مستهجنا ومرفوضا، كما وقع عندنا منذ ظهور ما يسمى بالتناوب، الذي جعل وزارة الثقافة حكرا على حزب معين، وكأن المثقفين لا يوجدون خارج هذا الحزب، وبالتالي فأن يتموقع حزب ما أو ائتلاف حزبي في المعارضة، فهذا لأنه يقدم بدائل «تدعي الصلاحية» بلغة هابرماس، وبين الادعاء كإمكان وتحقق الصلاحية، تلعب النخب الحزبية ومؤسسات البحث والتفكير والتخطيط، التابعة لهذا الحزب، دورا محوريا في صياغة مشروع ثقافي جديد، وفي هذا المناخ السليم، يعتبر التموقع في المعارضة، اختيارا غير مخيف، إذ هو مناسبة مهمة لتجديد المقولات والخطاب والنخب أيضا، بما يسمح للعقول الشابة بتولي المسؤولية الحزبية في إطار حكومة ظل، فيما يوثر الشيوخ التفرغ لأعمال أخرى تكوينية، كإلقاء المحاضرات وإجراء الزيارات للمواقع الجامعية وكتابة المذكرات وغيرها من أعمال التقاعد الإيجابي..هذه باختصار معالم ثقافة أخرى. وفي مغرب اليوم، المشهد الثقافي مختلف تماما وتكاد تكون ملامحه ممسوخة، مشهد ثقافي بدون معارضة. إذ أضحت المعارضة تهمة توجب على المثقفين إنكار المبادئ والتاريخ والرموز، وتحمل مسؤولية التسيير أضحى هدفا في ذاته، مهما كان الثمن، باسم «الواقعية السياسية» حينا، وباسم الطموح الشخصي أحايين كثيرة، والنتيجة هي: لا الثقافة ثقافة، ولا المحافظة محافظة، ولا التقدمية تقدمية، فتجد مثقفا «حداثيا» ينشر كتبه بالوساطات الحزبية، ومثقفة نسائية وحقوقية تشغل طفلة قاصرا في بيتها، ونفس الشيء في الثقافة السياسية، فلا اليسار يسار، ولا اليمين يمين، الكل ضد الكل من حيث المبدأ.لكن مع الكل من حيث «الظرفية السياسية»...، الكل متمرس في موقع واحد، فالزحام شديد والتنافس على أشده على فتات الموائد، فلا استقطاب ولا أقطاب ولا أحزاب، إنما تنظيمات للانتظار والترقب المستمر لرجال ونساء ذوي ملامح هلامية..يساريون في أول النهار ولا شيء في آخره.. مخزنيون في بداية العمر ومعارضة في أوسطه ولا ملامح للنهاية، وكثيرون بين بين، يغيرون ولاءاتهم كما يغيرون معاطفهم في كل «منزلة».